تمهيد
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
تمهيد
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
أميرة الأندلس
أميرة الأندلس
تأليف
أمير الشعراء أحمد شوقي
تمهيد
زمن الرواية:
عصر ملوك الطوائف.
مكان الرواية:
إشبيلية، أغمات.
أشخاص الرواية:
المعتمد بن عباد:
ملك إشبيلية.
الرميكية:
الملكة.
العبادية:
أم المعتمد.
بثينة:
بنته.
القاضي ابن أدهم:
قاضي القضاة.
الأمير حريز:
من أبطال الأندلس.
الأمير بولس:
شقيق ملك الأسبان.
أبو الحسن:
تاجر بإشبيلية.
حسون:
ابنه.
ابن حيون:
من الأدباء.
أبو القاسم:
من الأدباء.
مقلاص:
مضحك الملك.
لؤلؤ:
من حجاب الملك.
جوهر:
من حجاب الملك.
ابن شاليب:
رسول ملك الأسبان.
الباز بن الأشهب:
لص شهير.
أمراء .
جند .
إلخ..
مقدمة
جرت حوادث هذه القصة في زمن كان قطعة من ليل الملمات، أخذت الأندلس في جنحها الحالك ثم تركته نظما منحلا وركنا مضمحلا، وشمسا من دول الإسلام سقمت فألح عليها السقم فاحتضرت، فكانت لها في الغرب هدة وكانت عليها في الشرق ضجة؛ وخلال تلك القطعة من ليل الملمات كان الأندلس تحت ملوك الطوائف، وكان هؤلاء الملوك على شرف بيوتهم وتميز شخصياتهم ونبوغهم في كل علم وأدب أصحاب بذخ وترف، وأخدان صبوة وخلاعة، لا حظ لهم من همة الملك ولا نصيب من مراشد السلطان، وإنك لتعجب من انغماسهم في اللذات ونسيانهم لذكر العواقب، وهم أتعب خلق الله وأكثر الملوك ركوبا للغرر، واستهدافا للخطر، ومشيا على الحبائل والحفر، فأما في داخل دويلاتهم فكيد وائتمار، وفتنة نومها غرار، وسيفها في الغمد قليل القرار، حتى لا تكاد الشمس تطلع إلا على ملك مخلوع، ولا تغرب إلا على ملك مقتول، وأما في الخارج فكنت ترى هؤلاء الملوك بين نارين تتواعدان، وبين سيلين يتهدران: فملك الأسبان ألفونس يتجنى ويعتدي، ويضرب الجزية ويفرض الإتاوات، ويبعث لأخذ الأموال جباة أهل غلظة وقحة، وصاحب مراكش يوسف بن تاشفين هو وقواده ووزراؤه مشغوفون بالأندلس يمطرونه الرسل والرسائل إلى قضاته وفقهائه، مهيئين بذلك لفتح بنوا عليه الرجاء وعلقوا به الآمال، وكان ملوك الطوائف يخافون جارهم هذا المسلح المتوثب سلطان المغرب ويرجونه، فكان تملقهم له لا ينقطع، وكانت الأموال تحمل إليه في صورة المعونة، وكانت الرشا تقدم لوزرائه ورؤساء دولته في صورة الهدايا والألطاف، وكل هذا المال إنما كان يجمع من المكوس والمغارم! فتخيل كيف كان بؤس الرعية، وتأمل كيف تذهب معالم البلاد بين عبث الفرد وغفلة الجماعة. ولقد كان على قرطبة وهي حاضرة الملك أن تحمل شطر هذا البلاء، فلم تلبث أن انحطت عن ذلك المكان العالي الذي كانت فيه دار الخلافة ومطلع القصرين الدمشق والرصافة
1
فصارت كرسي إقليم وقاعدة دويلة وعرش ملك صغير يؤدي الجزية ولا يحس لها ذلة ولا هوانا.
الفصل الأول
المنظر الأول «مقصورة من مقاصير البديع (قصر المعتمد بن عباد) في إشبيلية وإلى يمينها مصلى وفي مؤخرها ستار كبير يحتجب، وقد وقف على بابها جوهر حاجب ابن عباد، ولؤلؤ ساقيه، ومقلاص مضحكه.»
جوهر (إلى لؤلؤ) :
كيف وجدت وجه الملك اليوم يا لؤلؤ؟
لؤلؤ :
كسنته، يفيض من البشاشة والبشر.
جوهر :
بل أنت واهم يا لؤلؤ! إن وجه الملك تغير في هذه الأيام وبدا عليه التغضن وأثرت فيه الهموم أثرها الظاهر المبين.
مقلاص :
كان الله عون الملك، إنه ليحمل من هموم الملك وأكدار السياسة ما تنوء به الجبال، لعن الله السياسة وقبح الولاية، ولا جعل لي من أشغالها نصيبا.
جوهر (يضرب بيده على حدبة مقلاص) :
وأي نصيب كنت تؤمل من أمور الدولة يا مقلاص حتى سألت الله أن يحرمك منه؟
مقلاص (ملتفتا) :
دعني من هذيانك يا جوهر وانظر: هذه الأميرة أقبلت كأنها البدر في الليلة الظلماء، أو كأنها الظبي يتخطر على الحصباء. (تدخل الأميرة بثينة)
بثينة :
يا بشراي ما هذا الحظ العظيم، أصدقائي الثلاثة هاهنا، يجمعهم باب الملك! جوهر حاجب الملك، ولؤلؤ ساقي الملك، ومقلاص.
مقلاص (مقاطعا) :
مقلاص المهرج الساقط والمضحك الوضيع.
الأميرة بثينة :
لا تقل هذا يا مقلاص، ولكن قل نديم الملك وصديق بنته بثينة.
مقلاص :
أنا مقلاص المهرج صديقك أنت يا أميرة إشبيلية، بل يا ملكة الأندلس ، بل يا شريكة الشمس في عرش الوجود؟!
الأميرة :
أعرفت الآن مكانك؟
مقلاص :
عرفته يا سيدتي وإني به لمزهو فخور.
الأميرة :
إذن فاعلم أن هذا الحاجب جوهر قد يأذن على الملك لرجال يكره لقاءهم ويغمه رؤيتهم وسماعهم.
مقلاص :
أما أنا يا سيدتي فما وقفت على باب الملك مرة إلا حجبت عنه الفكر والغم.
الأميرة :
وهذا الساقي يا مقلاص.
مقلاص :
هذا الساقي يا مولاتي يقبض كل يوم من دماغ الملك شعاعا، ولولا أن دماغه الشريف كالشمس التي لا تنفد أشعتها لكان اليوم جمجمة لا عقل فيها كأكثر هذه الرءوس التي نراها في الطرقات.
الأميرة :
وأما أنت يا مقلاص فتسقي الملك كل ساعة من رحيق مزحك ودعابتك ما يملؤه غبطة وعافية وسرورا.
جوهر (مقاطعا - متداخلا) :
لقد استأثرت يا نديم الملك ويا صديق الأميرة.
مقلاص (مغضبا) :
بالرغم من أنفك!
جوهر :
لقد استأثرت يا مقلاص بحديث الأميرة فتنح ساعة واترك لنا فضلة من الشهد.
جوهر (للأميرة) :
مولاتي، سيدتي، بثينة، أية وحشة خلفت في القصر يا مولاتي.
الأميرة :
أوأبدا تبالغ؟
جوهر :
كلا يا مولاتي، هي كلمة طافت بالقصر منذ افتقدناك هذا الدهر الطويل.
الأميرة :
أتعد الثلاثة الأيام دهرا يا جوهر؟ ألم أقل لك إنك تبالغ كثيرا، لم لم تسألني يا جوهر أين كنت؟
جوهر :
أعلم أنك كنت في قرطبة يا مولاتي.
الأميرة (وتبتسم ابتسامة سخر) :
أجل كنت في ملكنا الجديد يا جوهر.
جوهر :
وكيف وجدته؟
الأميرة :
العنوان قبة، والكتاب حبة.
جوهر :
أرجو ألا يكون غرام الأميرة بإشبيلية وطنها الغالي ومهدها الغالي، قد أنساها ذكر الفضل لقرطبة دارة الملك الأولى ومهد الفتح والعمران و ...
الأميرة :
أجل، وسماء الرعود والعواصف، ووكر الفتن والقلاقل. آه من قرطبة وفجاءاتها يا جوهر، وويلي على أخي الظافر من هذه الولاية الحمراء التي لم يقلدها أمير إلا قتل أو عزل؛ عرش يضطرب تحت كل جالس، وتاج لا يستقر على رأس كل لابس.
مقلاص :
مولاتي!
الأميرة :
مقلاص، إشبيلية وأبي وأنت، كانت ذكراكم ملء خاطري في قرطبة، هل من دعابة جديدة يا مقلاص تنسيني ما لقيت من الغم والكدر على تلك العاصمة الثانية لملكنا السعيد؟
مقلاص :
لا تقولي هذا يا مولاتي فيغضب القرطبيون؛ إنهم لا يقدمون على مدينتهم حاضرة من حواضر الدنيا ولو كانت دمشق أو بغداد، فكيف يرضون أن تكون الثانية لإشبيلية، وما مدينتنا في زعمهم إلا بلد الخلاعة والمجون.
الأميرة (ضاحكة) :
وأين قرطبة منا الآن، وأين القرطبيون يا مقلاص، وبيننا وبينهم سفر شاق طويل؟ ترى من علمك كل هذا الحرص، ومن أين لك كل هذا الدهاء؟
مقلاص :
هي الأيام يا أميرتي، هي الأيام. وهذا السيف ماذا كنت تصنعين به يا مولاتي؟
الأميرة :
كنت أتقي به عوادي الفجاءات.
مقلاص :
وهذا اللثام؟
الأميرة :
كنت أذود به عني العيون والظنون في بلد ضيق الصدر مبلد العقل، شتان بينه وبين إشبيلية ذات العقل الواسع والصدر الرحيب.
الأميرة (لجوهر) :
لقد نسيت يا جوهر ذكر واجب كان علي أن أقدمه قبل كل شيء.
جوهر :
وما ذاك يا سيدتي؟
الأميرة :
السؤال عن الملك.
جوهر :
هو يا مولاتي بخير، أبدا يسأل عنك.
الأميرة :
وأين هو الآن؟
جوهر :
هو في الصلاة يا سيدتي.
الأميرة (تطرق في تأثر ثم تقول) :
يا ويح أبي! لقد نظرت إليه وهو في قصر السوسان الضيق الصغير بقرطبة، فوجدته كئيبا متململا كأن تلك السقوف المنخفضة لم تكن تليق برأسه العالي، وكأن تلك الحجرات الضيقة لم تصنع لعينه السامية الطماحة، وكأنما كان يرى الزهراء أولى بأن تقله، وأجدر بأن تظله. وهناك دنوت حتى صرت خلفه بحيث أسمعه ولا يراني، فسمعته يقول وكان وحده في الحجرة مطلا من نافذة يلقي نظره على قرطبة.
جوهر (باهتمام) :
وماذا كان يقول يا مولاتي؟
الأميرة :
كان يقول: قرطبة ... ملك جديد أضيف إلى ملك إشبيلية، ما أصغر المضاف والمضاف إليه. انظر ابن عباد إلى العرش كيف صغر، وإلى الصولجان كيف قصر، وإلى الملك كيف اختصر، وتأمل مكان الحكم في قرطبة كيف سد اليوم بالمعتمد، ومجلس الناصر كيف شغل بابن عباد.
جوهر :
نحن بانتظار القاضي ابن أدهم يا مولاتي.
مقلاص (متداخلا) :
لعله هذه الكرنبة التي تتدحرج من بعيد منحدرة إلينا.
الأميرة (مستضحكة لجوهر) :
استقبل أنت يا جوهر القاضي وأدخله على أبي، فإن قضاة الأندلس لا يستأذن لهم على ملوكه. (ثم لمقلاص)
وأنت يا مقلاص، أعرفت أني وجدته؟
مقلاص :
وما ذاك يا مولاتي ومن هو؟
الأميرة :
أنسيت يا مقلاص حين تقول لأبي بمسمع مني، إن الزوج الكفء لبثينة لم يخلق بعد لا في الأندلس ولا في غيره.
مقلاص :
لا لم أنس يا مولاتي. قلت هذا ولا أزال أعيده.
الأميرة :
إذن فاعلم أن الزوج الذي يصلح لي قد خلق.
مقلاص :
ومن ذاك؟ ما اسمه وأين هو الآن؟
الأميرة :
كل هذا تعلمه بعد حين يا مقلاص، تعال معي الآن، اتبعني ودع جوهر ولؤلؤ يستقبلان القاضي الجليل.
الأميرة (إلى جوهر) :
في حفظ الله يا جوهر. (إلى لؤلؤ)
في حفظه يا لؤلؤ.
جوهر (ولؤلؤ معا) :
في ذمة الله وكلاءته يا مولاتي.
الأميرة :
لا تنسيا أن تذكراني عند الملك، وأني رهن إشارته. (تخرج الأميرة مع مقلاص)
جوهر :
أشكر الله أن أخر مجيء القاضي.
لؤلؤ :
كذلك كنت أحدث نفسي، وأخشى على مولاتي في زيها هذا من عين الشيخ ولسانه. (يظهر الملك)
الملك :
هل جاء القاضي ابن أدهم يا جوهر؟
جوهر :
أجل يا مولاي رأيته في ساحة القصر.
لؤلؤ :
وقد عادت الأميرة من قرطبة يا مولاي.
الملك :
أوعادت الآن؟
لؤلؤ :
أجل يا مولاي.
الملك :
أهي بخير؟
لؤلؤ :
بأتم عافية يا مولاي.
الملك :
إذا انتهى ابن أدهم من زيارته فأت بها إلي.
لؤلؤ :
أمرك يا مولاي. (يخرج لؤلؤ)
الملك :
وعليك يا جوهر أن تستقبل ابن أدهم وتأتيني في أوفر بشاشة وتعظيم. (يخرج جوهر ثم يرجع. يتقدم القاضي ابن أدهم وينادي من باب الحجرة)
جوهر (مناديا من الباب) :
القاضي ابن أدهم.
القاضي :
السلام على الملك ورحمة الله وبركاته.
الملك :
وعليكم السلام أيها القاضي ومقدم الخير، فقد علمت أنك كنت نزيل المغرب في الأيام الأخيرة، وكنت به ضيفا على أمير المسلمين يوسف بن تاشفين.
القاضي :
هو ذاك يا مولاي.
الملك :
فكيف الحوادث والأحوال هناك؟
القاضي :
عندي من ذلك الشيء الكثير وسأذكره في مجلس تال يأمر به الملك، ولا أذكر الآن إلا رسالة حملنيها الأمير سيري بن أبي بكر.
الملك :
وما هي أيها القاضي؟
القاضي :
أويعرف الملك الأمير سيري؟
الملك :
كيف لا أعرفه! هو كافل الدولة المغربية، وكبير وزراء السلطان وقائد جيوشه الأكبر، وما يبتغي مني الأمير أيها القاضي؟
القاضي :
إنه يخطب إليك الأميرة بثينة.
الملك :
ألشخصه يخطبها أم لواحد من أولاده، فهم فيما أعلم كثر، وأصغرهم فيما أذكر يوافق ميلاده ميلاد بثينة!
القاضي :
بل يخطبها لنفسه أيها الملك.
الملك :
إن هذا عجيب أيها القاضي، وما كان جوابك؟
القاضي :
قلت له إن الملك ابن عباد يذهب ببنته بثينة كل مذهب، ولا أظن قلبه يطاوعه على تزويجها في الغربة وإخراجها إلى بلاد بعيدة.
الملك :
أحسنت أيها القاضي؛ فما هذا زواجا، إن هذا إلا قبر أخطه بيدي لبثينة، على أنني محضر إليك بثينة لتحدثها وتسمع منها.
الملك (إلى جوهر) :
جوهر، جئنا بالأميرة يا جوهر. (يختفي جوهر لحظة ثم يعود بالأميرة)
الأميرة :
أبي!
الملك :
بنيتي!
الأميرة :
أطلبتني يا أبي؟
الملك :
تعالي بثينة حيي عمك القاضي ابن أدهم.
الأميرة :
السلام عليك يا مولانا القاضي ورحمة الله وبركاته.
القاضي :
وعليك السلام يا بنت أكرم الملوك. تعالي خذي مجلسك بين أبيك وعمك.
الملك :
مع من عدت من قرطبة؟
الأميرة :
مع لثامي وجوادي.
الملك :
وكيف وجدت قرطبة؟
الأميرة :
وجدت طرقاتها تموج بالفقهاء يعرفهم الناظر بزيهم، فذكرت عندئذ شهرة هذا البلد بالفتنة والتشغيب وجرأة أهله على أمرائهم وحكامهم، وأشفقت منه على أخي الظافر، وإن كنت واثقة بحزمه وعزمه.
القاضي :
ومن أنبأك أيتها الأميرة أن الفتنة والشغب يجيئان من ناحية الفقهاء؟
الأميرة :
لم يبق سرا يا سيدي القاضي أن الفقهاء يعلقون سعادة الأندلس وخلاصه بإلقائه في أحضان جيرانه سلاطين المغرب.
القاضي :
وأنت يا بنت ملوك المسلمين، أما تجدين ما يطلبه الفقهاء في قرطبة أجدى على الأندلس من بقائه على الحال التي هو فيها مشرفا على التلف والضياع؟
الأميرة :
لا يا سيدي القاضي، ليس في الحق أن يغتصب جماعة من المسلمين أوطان جماعة غيرهم من المسلمين، فإن الوطن هو كالبيت في قداسته، وكالضيعة في حرمتها.
الملك (متدخلا في الحديث) :
لقد بعثت يا بثينة في طلبك لغير هذا الشأن، وفي أمر ذي بال، وإني أترك للقاضي التحدث معك فيه.
الأميرة (ملتفتة إلى القاضي) :
تكلم يا عم فكلي إصغاء.
القاضي :
لقد خطبك إلى أبيك رجل من عظماء الإسلام في هذا الوقت، هو الأمير سيرى بن أبي بكر وزير الدولة المغربية.
الأميرة :
أفارغ هو أم مشغول يا سيدي القاضي.
القاضي (في حيرة) :
بل له من الأزواج ثلاث وستكونين الرابعة، وستكونين المدللة الممهدة من بين أزواجه.
الأميرة (في غضب) :
إنك يا سيدي القاضي تدعوني إلى خطة لا أنا مضطرة فأحمل نفسي الكارهة على قبولها، ولا الأمير ابن أبي بكر معطل البيت من الربة الصالحة فيتشبث بها ويصر عليها، بل تلك خطة لم أجد أبوي عليها، ولم آلف رؤية مثلها في حياة أسرتي؛ فهذا أبي جعلني الله فداءه لم يتخذ على أمي ضرة ولم يكسر قلبها بالشريكة في قلبه، فجاءت بنا أولاد أعيان، نجتمع في جناح الأبوة ولا نفترق في عاطفة الأمومة، ولو شاء أبي لكان له كنظرائه الملوك والأمراء نساء كثير، ولكان له منهن بنو العلات تحسبهم إخوة وهم أنصاف إخوة، من كل دجاجة بيضة، ومن كل شاة حمل.
القاضي (متلطفا) :
شهد الله لقد أحسنت يا بنتي، ولكن مصلحة الملك أنسيتها، ونصرة الوالد أغفلت عنها، وسلامة الأندلس أأهملت شأنها؟
الأميرة :
لا يا سيدي القاضي، كل ذلك في المحل الأول من نفسي واهتمامي، ولكننا مختلفان في النظر، فأنت ترى أن الأندلس لا ينهض من كبوته إلا إذا مد السلطان إليه يده، وأنا أتخيلها يد الذئب يمدها إلى الحمل. وأنت يا سيدي القاضي قد أخذك اليأس في أمر الأندلس، وأنا كلي رجاء، ولا أستبعد أن تتهيأ لأبي وهو كهف الأندلس وملاذه الفرصة، لجمع الكلمة وضرب الإفرنج ضربة تريح العرب منهم السنين الطوال. وأنت تعلم أن تاريخ الأندلس مفعم بالفجاءات السعيدة من هذا الطراز.
القاضي :
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، ولقد رددت عنك أيتها الأميرة وعن أبيك الملك، وأحسب أني أحسنت الرد.
الملك :
كل الإحسان أيها القاضي.
القاضي :
الآن لم يبق لي إلا أن أنصرف.
الملك :
مشيعا بحفظ الله ورعايته. (ينصرف القاضي ويشيعه الملك)
الملك (للقاضي) :
كيف تجد بثينة يا ابن أدهم؟
القاضي :
بورك لك فيها، وبورك للأندلس في عقيلته، إني أجدها روح الوالد، وأرى عليها طبعة الزمن وحضارة الجيل. (يعود الملك ومعه مقلاص بعد أن يودع القاضي)
الملك :
أعلمت يا مقلاص! أسمعت أن سيري بن أبي بكر يخطب إلي بثينة؟
مقلاص (ملتفتا إلى بثينة بصوت خافت) :
أهذا الذي وجدته يا سيدتي؟ إني لا أهنيك بتيس المغرب.
الأميرة :
لا يا مقلاص، إن الذي وجدته هو غزال الأندلس لا تيس المغرب.
الملك :
خبريني يا بثينة ماذا وجدت في قرطبة؟
الأميرة :
حال من القذارة تتنزه عن مثله إشبيلية.
الملك :
هذا من توالي الفتنة والاضطراب على الناس، حتى شغلوا عن تنظيف مدينتهم التي كانت المثال المحتذى بين المدن نظافة ونظاما، ثم ماذا؟
الأميرة :
راعتني قصورها المهجورة والموحشة كأنها الأطلال.
الملك :
هذا من انقراض الوارثين أو ضيق نعمتهم عن سكنى الدور الواسعة، وصغر أقدارهم عن نزول المنازل الرفيعة. (يظهر على بثينة التأثر والاهتمام)
الملك :
ماذا غمك يا بثينة؟
الأميرة :
تذكرت يا أبي قصورنا فجزعت، وقلت: الزاهي ترى ما نصيبه، والتاج ماذا غدا يصيبه، والبديع ما يكون مصيره، والمؤنس هل توحش مقاصيره؟
الملك :
بنيتي؟ خلي عنك هذه الهواجس، ولا تحملي على الشباب العبوس والهم فإنه لم يخلق لهما. اصرفي الشباب إلى الضحك والغبطة فإنهما طبيعته وديدنه. ألا نعود لحديث قرطبة؟ خبريني كيف وجدت أسواقها؟
الأميرة :
وجدتها دون أسواق إشبيلية حركة ونشاطا، إلا سوق الكتب فلا أحسب بغداد أقامت مثلها. دخلتها يا أبي فلبثت فيها ساعة أتأمل ما يقع في جوانبها، وأشهد النداء على نفائس الكتب وذخائر المخطوطات وهي في أيدي الناس، يقلبونها في اعتناء وإشفاق كأنها كرائم الحجارة في أسواق الجوهر.
الملك :
وهل كنت تهتمين بكتاب هناك ؟
الأميرة :
أجل يا أبي، نودي على رسالة المنجم الضبي التي سماها: هل القمر مسكون؟ وكنت سمعت بها وكنت أريد إحرازها فسرني الظفر بها، وكان بالقرب مني فتى حسن الهيئة ظريف الثياب وهو لا شك من بني البيوتات، وكان ينازعني الرغبة في الرسالة، فلم يزل يزيد فيها وأنا أحرجه فأزيد حتى بلغها إلى خمسمائة دينار، فقبضت يدي فرجع إليه المنادي فأخذ المال وناوله الرسالة.
الملك :
لا أظن حرص الشاب على الرسالة إلا للمباهاة، ولكي يقال عنده خزانة حوت كل ثمين ونادر حتى رسالة المنجم الضبي، فإن الشهرة في قرطبة من قديم الزمان أن يتنافس الناس في اتخاذ الخزائن للكتب، حتى الذين لا علم لهم بما فيها.
الأميرة :
ظلمت يا أبي غريمي الشاب؛ فقد كنت ألحظ عليه الحرص على الرسالة والسعي لإحرازها حتى ما بقي في نفسي شك أن الفتى من أهل المعرفة والاطلاع.
الملك :
وكيف هو يا بثينة؟ وما شكله؟ وما صفته؟
الأميرة :
شاب يناهز الثلاثين، جميل، وقور، يشبهك يا أبي أو كأنه أخي الظافر، وما كان أعظم أدبه ومروءته فإنه حين غلبني على الرسالة بادر فقال: أيها الفتى الملثم، إن كان اعتناؤك بهذه الرسالة شديدا كما رأيت فعرفني بموضع إقامتك، وأنا أستصنع منها نسخة وأبعث بها إليك. فشكرت واعتذرت بكثرة أسفاري في الأندلس، فانطلق شديد الفرح بما نال. وكان جواده بانتظاره فاعتلاه، فوالله يا أبي ما رأيت قط بعدك وبعد أخي الظافر أرشق وثوبا على جواد، ولا أحسن قياما في صهوة من غريمي الشاب.
الملك (مبتسما وهو يضع يده على كتفها) :
أخشى يا بثينة أن يكون غريمك الشاب أعرف بتصيد القلوب منه باعتلاء الجياد.
مقلاص :
الآن عرفته، هو فتى السوق هو فتى الرسالة. (يدخل لؤلؤ ويقول)
لؤلؤ :
الجماعة يتواردون على مجلس الشراب أيها الملك، فانظر ماذا تأمر؟
بثينة :
وأنا أيضا ذاهبة لبعض شأني إن أذنت.
الملك :
في كلاءة الله يا بثينة. (تخرج بثينة)
المنظر الثاني «ترفع الستارة الخلفية عن مجلس شراب إلى جانبه ستر مسدل وفي وسطه مائدة حولها الملك وجماعة من حاشيته، وتطل هذه المنظرة على الوادي الكبير حيث للملك زورق»
الملك :
ما عندك من الشراب لأصحابنا يا لؤلؤ؟
لؤلؤ :
خمور مالقة وزبيب إشبيلية.
الملك :
وماذا هيأت لهم من نقل وطعام؟
لؤلؤ :
الجوز واللوز من وادي الطلح.
الملك (يرفع عقيرته ويغني) :
الجوز اللوز. يا رب الفوز.
أحد الحاضرين (إلى جاره) :
هذا لحن الملك الذي يحبه ويهتف به حتى في الحمام.
مقلاص :
ولحني أيها الملك، أتسمعه؟
الملك :
قل، هات يا مقلاص.
مقلاص (يغني) :
الجوز اللوز بوادي الحوز
1 .
الملك :
مرحى! مرحى!
الحاضرون (جميعا) :
مرحى! مرحى!
الملك (لمقلاص) :
تعال قف خلفي يا مقلاص وقم عند رأسي.
مقلاص :
ها أنا قائم عند رأسك الشريف، هل أفليه؟
الملك :
تأدب يا وقاح، القمل لا يوجد في رءوس الملوك.
مقلاص :
ما أدري يا مولاي، ولكني أعلم أن القمل يوجد في لبدة الأسد، وأنت أسد الأندلس الذي يعنو له الملوك.
الملك :
لله ما أمر لسانك وما أحلاه! فهو كمشرط الجراح الماهر، جمع مرارة القطع وحلاوة الشفاء.
الملك (إلى لؤلؤ) :
ثم ماذا يا لؤلؤ؟
لؤلؤ :
كل ما لذ وطاب من السمك، بعضه مجلوب من بحر الزقاق وبعض من صيد الوادي الكبير.
الملك (يغني) :
الجوز اللوز يا رب الفوز.
الملك (إلى وزيره ابن سعيد) :
ماذا يقولون في المدينة يا ابن سعيد؟
الوزير :
لا حديث اليوم لأهل إشبيلية إلا تلك النكبة التي حلت بأبي الحسن التاجر.
الملك :
واها لأبي الحسن وويح الأندلس! ما أعظم مصيبته في تاجره العامل الموفق الأمين!
الملك (إلى ابن سعيد) :
وكيف وقعت الكارثة يا ابن سعيد؟
الوزير :
كانت لأبي الحسن التاجر في لجج البحار ثلاث بوارج، وهي: الزهرة، والثريا، والجوزاء. خرجت الزهرة إلى الإسكندرية تحمل إليها مقدارا عظيما من الزيت الإشبيلي، فأخذها عاصف فغرقت في الطريق. وأقلعت الثريا بعد ذلك بأيام مشحونة بالمتاجر المتنوعة إلى ثغور الأندلس، فصادفها أسطول للفرنجة كان يتجول على الشواطئ فأخذها مغنما باردا. وكانت الجوزاء قد سبقت أختيها إلى عرض البحر تقصد سواحل المغرب محملة بالشيء الكثير من مصنوعات الأندلس ومتاجره، فشبت فيها النار فأعيا إطفاؤها فسقطت شعلة في الماء.
الملك :
ويح لأبي الحسن، ويح!
الوزير :
إن أبا الحسن أيها الملك شيخ كبير قد فرغ من الدنيا وفرغت الدنيا منه، فمصيبته أقصر عمرا وأهون وقعا من مصيبة ابنه الواحد وولده النابه الشاب حسون.
الملك :
قد ذكر لي اسمه وسمعت الثناء عليه من كثير من الناس.
الوزير :
وإنه لكما نعتوه أيها الملك وفوق ما نعتوه: شاب جميل وقور جريء، وافر القسط من العلم والأدب، تعلم لغة الأسبان حتى أجادها حديثا وكتابة، يجري بها لسانه كما يجري بها قلمه.
الملك :
إن شابا هذا شأنه وهذه همته في الحياة لا يترك نبوغه سدى، ولا يوكل إلى اليأس القاتل، بل يجمل بنا أن نأخذ بيده فنهون عليه عثرة أبيه البريء.
الجماعة (يتهامسون) :
ما هذا الستر؟
آخر (همسا) :
ترى ماذا يخفي هذا الستر؟
ثالث (همسا) :
ماذا خبأ الملك وراءه؟
الملك :
فيم تتهامسون؟ لعلكم تذكرون الستر. اشربوا الآن ما بدا لكم واطربوا، وأما الستر فستعلمون نبأه بعد حين.
لقد وزعت عليكم من أيام وفد النصارى من نبلاء الأسبان فماذا صنعتم بهم، وكيف أنصبتكم؟
الملك (ملتفتا إلى وزيره داني)
الوزير داني :
كانت حصتي يا مولاي أطيب الحصص، فضيفي شاب نبيل طروب لطيف الأذن، مولع بالقيثارة لا يضعها من يده، وله عليها ضرب يأخذ بالألباب.
الملك (مبتسما: يسأل آخر من الجلساء) :
وأنت يا ابن الصائغ كيف ضيفك؟
ابن الصائغ :
أنا أقل الإخوان حظا أيها الملك، فضيفي رجل كهل قسيس يقطع الليل بالصلاة وقراءة الإنجيل.
الملك :
بل لعلك أعظم الجماعة حظا ولا تدري.
ثالث من الجلساء (مخاطبا الملك) :
أما أنا أيها الملك فقد ابتليت برجل شيخ شريب خمر لا يرويه في اليوم دن ولا دنان، فإذا كان قبل كل طعام قدمت له زبيبى إشبيلية، فأقبل يعبه عبا كما يقع الظمآن على الماء الزلال. وقد شرب من خمر مالقة في ثلاث ليال أقامها عندي ما يكفيني أنا شهرا، وأنا الذي يعرف الملك ولعي بالخمر المالقي.
الملك :
وأنت يا لؤلؤ كيف ضيفك وما حاله؟
لؤلؤ :
إنه شاب يا مولاي خفيف الظل والروح، مولع بالرقص، وأنا أتلقى عليه كل ليلة دروسا في الرقص الأسباني حتى كدت أحسنه.
الملك :
وأنت يا مقلاص، كيف ضيفك وماذا يصنع معك؟
مقلاص :
ضيفي يا مولاي رجل كهل بادن ضخم الجثة كالخنزير المتدلي البطن من تراكب الشحم واللحم. إذا جاء في البيت وراح ارتجت الجدران واهتز ما على الرفوف من آنية، وإذا نام خرج الغطيط والنخير من حلقه ومن أنفه ومن كل موضع فيه، ولو نام في جبانة لأيقظ غطيطه الأموات.
الملك :
وكيف طعامه يا مقلاص، وما أحب الألوان إليه؟
مقلاص :
هو يا مولاي مجنون المعدة بالإوز، له كل صباح على الريق إوزة، وغداؤه إوزة، وعشاؤه ...
الحضور (جميعا) :
إوزة.
الملك (ملتفتا لوزيره داني) :
وما عندك أنت يا داني مما يقولون في المدينة؟
داني :
يتهامسون في المدينة بأن الفتنة قد تحركت شياطينها في قرطبة، وأن القادر صاحب طليطلة يسعى لأخذها من ولدك الأمير الظافر، وأنه يستعين في دسه وكيده وتدميره بالبطل حريز وصاحبه ابن لاطون.
الملك :
الولايات يا داني كخلايا النحل، فيها العسل وفيها الأسل، وأنا واثق بحزم الظافر وعزمه، والله يفعل بعد ذلك ما يشاء، إن ضيوفكم النبلاء أيها الأصحاب سيكونون هنا بعد ساعة.
الملك (إلى جوهر) :
وأنت يا جوهر انظر أين الجنديان؟
جوهر :
بالباب يا مولاي.
الملك :
أدخلهما.
جوهر :
يدخل الجنديان.
الملك (إلى الجنديين) :
أين الكلب؟ أجئتما به؟
الجنديان :
هو بالباب يا مولاي يرسف في قيوده.
الملك :
أدخلاه. (يدخل ابن شاليب اليهودي يجر قيوده)
ابن شاليب :
التحية والإجلال للملك.
الملك :
تحية لا نتقبلها من رجل شتمنا بالأمس بمسمع من رجالنا وأعواننا.
ابن شاليب :
معاذ الله أيها الملك، ما شتمت ولا تهجمت ولا نسيت أني نزيل هذه المملكة، يجب علي لصاحبها التوقير والإكبار.
الملك :
بل أنت تكذب يا ابن شاليب.
ابن شاليب :
على رسلك أيها الملك، أنسيت أن ورائي ملكا عظيما يسأل عن أمري، وأنا سفيره عندك ورسوله إليك، وقد يغضب لي إن أنت نلتني بسوء.
الملك :
فإن كان السفير وقاحا قليل الأدب؟
ابن شاليب :
هذا كثير أيها الملك، فاجعل للإهانة حدا ولا تنس لي مكاني.
الملك :
ستعلم مكانك بعد قليل. (إلى ابن وهب)
الملك :
أعد يا ابن وهب على هذا الكلب ما لهث به حين عرضت عليه مال الجزية.
ابن وهب :
لقد هم مولاي برد المال معتلا بسوء العيار ونقصان الإتاوة عن السنة الماضية، وقال بلغ سيدك أنه لا يحول الحول حتى آتي فآخذ عينيه.
ابن شاليب :
هذا كذب واختلاق.
الملك :
بل أنت الكذاب، فما أنا بالملك الذي يكذب عليه وزراؤه وأعوانه، وما شرف الأندلس وجلاله إلا عدل قضاته وقلة شاهد الزور فيه.
ابن شاليب (يمرغ خديه على البساط ويقول) :
ألا تعفو أيها الملك الكريم، فهم يقولون إن العفو شيمتكم معشر العرب.
الملك :
إلا ما مس الشرف والكرامة.
ابن شاليب :
أتقتلني أيها الملك من أجل كلمة سبق بها لساني، وأعماني الغضب فلم أزنها ولم أقدر عواقبها؟
الملك :
عجبا يا وزير ألفونس! أنت تزن القناطير المقنطرة من الذهب والفضة فلا يفلت من حسابك برادة مثقال، ثم لا تحسن أن تزن كلمة تخرج من فيك!
ابن شاليب :
اعف عني واستبقني أيها الملك، وأنا أشتري منك حياتي بوزن جسمي ذهبا.
الملك :
لا والله ولا بثقله لآلئ ويواقيت، وأنا أعلم أن وراءك ملكا عظيما هو عبد المال، أما أنا يا ابن شاليب فعبد الله.
الملك (للجنديين) :
أيها الجنديان خذا هذا المجرم فأمضيا أمري فيه. (الجنديان ينقضان على ابن شاليب فيأخذانه إلى ما وراء الستر المسدل)
الحاجب (يدخل) :
نبلاء الأسبان بالباب يا مولاي.
الملك :
يدخلون.
كبير النبلاء :
التحيات للملك.
الملك :
مرحبا بضيوفنا النبلاء. تفضلوا وخذوا مجلسكم واطرحوا الكلفة.
كبير النبلاء :
شكرا يا مولاي، هذه الحفاوة بالضيف لا تستغرب من ملك العرب الكريم.
الملك :
تعال اجلس بجانبي أيها النبيل. (يجلس كبير الأسبان حيث أشار الملك. يطوف لؤلؤ على القادمين بالشراب والنقل.)
لؤلؤ :
ماذا تشتهي من الشراب؟
كبير الأسبان :
ما دمنا في إشبيلية يا فتى الملك، فإني لا أقدم على زبيبها الصافي المعطر شيئا.
أحد الحاشية (في أذن جاره) :
انظر السكير يا أخي كيف تجاهل خمر مالقة، وكيف نسي أنه أنفد ذخيرتي منها في ثلاث ليال أقامها عندي. (ضجة وشراب وأحاديث همس)
الملك (إلى لؤلؤ) :
دلنا يا لؤلؤ على ضيفك الرقاص.
لؤلؤ (يشير إلى أحدهم) :
هو هذا النبيل يا مولاي.
الملك (إلى الأسباني) :
إن فتاي لؤلؤ أيها النبيل مغتبط بما تعلم عليك من أصول الرقص.
الأسباني :
وأنا يا مولاي ما رأيت أسرع خاطرا، ولا أرشق حركات، ولا أحسن حفظا لما يلقى عليه في فنون الرقص من صاحبي لؤلؤ.
الملك :
إن مطربي هذا ابن حزم يحسن الضرب على القيثارة، وقد تعلم في صغره الكثير من ألحانكم ونغمات رقصكم.
الملك (إلى لؤلؤ) :
فليرقص لؤلؤ على إيقاعه.
الملك (إلى الأسباني) :
وأنت ترسم له أيها النبيل النغمة التي تصلح للرقصة. (لؤلؤ وصاحبه الأسباني يرقصان، ويعزف لهما ابن حزم ويصفق لهما الملك والجماعة، ثم يجلس الثلاثة بين الاستحسان والإعجاب.)
الملك (في جد إلى جليسه الأسباني) :
أيها الضيف النبيل، أمر يشغل بالي ويهتم به أصحابي وينتظرون حكمي فيه، وقد رأيت أن أنتهز فرصة الأنس بحضوركم لأسير على ضوء رأيك في تصريفه.
النبيل الأسباني :
ليس أحب إلي أيها الملك، ولا أزيد في شرفي من مشورة خالصة نافعة ألقيها إلى جلالتك.
الملك :
إذن فاعلم أيها الضيف النبيل أن أحد جيراننا الملوك أوفد إلي رسولا في مهمة معلومة، فنسي الرسول مكاني حتى سبني بمسمع من رجالي وأوعد وتهدد، فما الذي يقضي به عرفكم على رجل هذا فعله؟
النبيل الأسباني :
مثل هذا جزاؤه القتل يا مولاي.
الملك (إلى النبلاء) :
أسمعتم يا معشر النبلاء؟
النبلاء :
سمعنا أيها الملك وقد أفتى كبيرنا وهو العدل والصواب.
الملك :
إذن فانظروا.
الملك (ثم لأحد الجند) :
أيها الجندي ارفع الستر. (يرفع الستر عن جثة ابن شاليب جثة هامدة معلقة على عود.)
الجماعة (صائحين) :
ابن شاليب.
الملك :
هذا صاحبكم ابن شاليب قد رماني أنا ووزيري هذا ابن وهب بتزوير العيار والغش في الميزان، وقال لرجالي وأعواني: بلغوا سيدكم أنني آت في العام القابل فآخذ عينيه من رأسه.
أحد الجماعة (مستنكرا) :
وما ذنبنا نحن أيها الملك حتى عاقبتنا بهذا المنظر؟
الملك :
لقد ترددت بين أن أقتله بأعينكم وبين أن أعرضه عليكم وهو كما ترون جثة بلا روح، ولكني وجدت في الرأي الثاني تخفيفا على ضيوفي فعملت به. (ثم ينهض الملك علامة الإذن في الانصراف، ويختلط بهم وهو يشيعهم).
الملك :
انقلوا أيها النبلاء إلى الملك ألفونس ما سمعتم، وصفوا له ما رأيتم، وتحدثوا به في طول بلادكم وعرضها؛ ليعلم الناس هناك أن الأسد العربي لا يشتم في عرينه، وأنه لو غلب على غابته حتى لم يبق له منها إلا قاب شبر من الأرض لما استطاعت قوى الإنس والجن أن تنفذ إلى كرامته من قاب هذا الشبر. (ينسل النبلاء الأسبان من المنظرة وهم يجرون سيقانهم جرا من الرعب).
الملك (إلى حاشيته) :
الآن يا نبلاء العرب نطوي هذا البساط، ويبقى هذان الجنديان حتى إذا خلت منا المنظرة رفعا الستر عن جثة ابن شاليب، ليعلم أهل إشبيلية كيف يحل العقاب بمن يجترئ على شرف أميرهم الذي هو شرفهم الرفيع.
المنظر الثالث «الملك نشوان ومعه مضحكه مقلاص يدنو من زورق على الوادي الكبير فيثب فيه ويقول»
الملك :
انظر يا مقلاص إلى هذا الزورق ما ألطفه، صدق القول: كل صغير لطيف.
مقلاص :
إلا وظيفتي في قصرك فإنها لا لطيفة ولا شريفة، وإن هذا الزورق قد ينقلب فيأخذ شكل النعش، ولن يكون النعش لطيفا أبدا.
الملك :
هبه انقلب يا مقلاص فصار نعشا، أليس النعش مركب كل حي وإن طالت سلامته؟
مقلاص :
أما أنا فيعفيني الملك.
الملك :
لا يا مقلاص لا أعفيك، ولا أحسبك تدعني أسير في لجة النهر وحدي وأنا كما تراني نشوان.
مقلاص :
وإن كان ولا بد أيها الملك فإني أقترح ...
الملك :
وما تقترح؟
مقلاص :
أن أكون أنا المجدف وحدي.
الملك :
ولماذا؟
مقلاص :
الأمر بين؛ التيار مجنون، والسكر مجنون، وأنت سلطان وكل سلطان مجنون. وهذا الزورق خشبة لا عقل لها فهو أيضا مجنون، وإني أربأ بحياتي أيها الملك أن أجمع عليها مجانين أربعة.
الملك (مستضحكا) :
لا يكون إلا ما اقترحت يا مقلاص، تعال اركب وجدف وحدك واترك لي أنا الدفة.
مقلاص :
أما هذا فنعم. وإني أرجو أن تكون دفة هذا المركب الصغير أحسن مصيرا في يديك من دفة المملكة.
الملك (مستضحكا) :
تعال ثب، هات يدك. (مقلاص ينزل إلى الزورق ويأخذ المجدافين).
الملك :
انظر يا مقلاص وراءك، إني أرى قاربا يندفع نحونا مسرعا كأنه حوت مطارد مذعور.
مقلاص :
هو ذا قد دنا منا يا مولاي، فأحسن مسك الدفة واجتنب الصدمة، وأنا أزوده عنا بمجدافي هذا وأضربه ضربة تقذف به إلى الشاطئ الآخر من النهر.
الملك :
إياك أن تفعل بل ائسره، فلا بد لنا أن نؤدب هذا الشاب المغرور، فإني أرى الملاح فتى كريم الهيئة فهو لا شك من أبناء أعيان إشبيلية. (يصطدم الزورقان ويظهر مقلاص ارتباكا وجبنا، فيقبض الملك على الزورق المهاجم بيد قوية ويقول لمقلاص)
الملك :
اقذف الآن به إن استطعت إلى الشاطئ الآخر من النهر. (ثم يلتفت إلى الشاب الملاح ويقول:)
مكانك أيها الغلام الوقاح، ما هذه الجرأة على التيار وعلى شبابك هذا الغض النضير! وما غرك بالملك حتى قربت عودك من عوده تريد أن تأخذ عليه الطريق.
الملاح :
مولاي إن الرعية يهفون، وإن الملوك يعفون، وزورقي إنما اندفع بقوة التيار القاهر فوافق مرور مركبك المحروس، فكان ما كان مما أعتذر للملك منه.
الملك (بصوت منخفض) :
ويح أذني ماذا تسمع؟ هذا الصوت أعرفه؟ (ثم يلتفت إلى الملاح قائلا)
قد عرفت أيها الفتى من نحن، فعرفنا بنفسك. (يرفع الملاح قناعه)
الملك (صائحا) :
بثينة!
الأميرة (الملاح) :
أجل أيها الملك ابنتك وأمتك بثينة.
الملك :
عجبا! أأنت هنا بين العبب والتيار، وعلى هذا العود الذي يشفق أبوك من ركوبه، وأبوك من تعلمين أشجع العرب قلبا؟
الأميرة :
ولم لا تكون ابنة الملك شجاعة القلب مثله! إن الأسد لا يلد إلا اللبؤة.
الملك (يهدأ غضبه) :
ومن أين مجيئك الساعة يا بثينة؟
الأميرة :
من الموضع الذي أحبه كما أحب الحجرة التي ولدت فيها، ومن ناحية السرحة التي أحن لها كحنيني للمقاصير التي ضمتني طفلة ممهدة، ومن بقعة مباركة، وقفت السعادة بك في ظلها على أمي الرميكية فرأيتها فأجبتها أول وهلة. ولم تكن إلا غسالة مغمورة فتزوجتها فرفعتها أعلى ذرى الشرف، ومن هذا الزواج الموفق السعيد ولدت أنا لأب قصر الأبناء عن بره، وملك جل عن النظراء والأمثال. أليس ذلك المكان الذي هو مهد حبكما الأول من حقه أن يحن إليه أحيانا، بل من حقه أن يحج آنا فآنا!
الملك (متأثرا) :
بنفسي وروحي أنت يا بثينة! لقد عظمت المهد وقضيت الحق، والآن ألا ترجعين إلى القصر بسلام، فلا أحسب القصر إلا قائما لغيبتك على ساق، حتى لكأني بأمك تسأل عن أمرك، وبجدتك أشغل وأشد قلقا.
الأميرة :
لقد كنت يا مولاي في طريقي إلى القصر، لولا هذا الاتفاق السعيد الذي صدم عودي بعودك، والآن إذ أمرت فإني أنطلق في سبيلي، وأستودعك الله يا مولاي.
الملك :
اذهبي يا بنيتي في كلاءة الله، وإياك والمجازفة فيما تفعلين، فإن الحياة أعز وأنفس من أن تعرض للتهلكة، وأنهاك عن الخروج بعد اليوم إلا مصحوبة بلؤلؤ أو جوهر، فإنهما لا يألوانك خدمة وحراسة.
الأميرة :
لا يكون يا مولاي إلا كما أشرت. (تندفع بثينة بالزورق وتغادر الملك، وقد أطرق مليا إلى أن بدا لمقلاص أن ينبهه من هذه السنة).
مقلاص :
مولاي إن الشط قريب، وإن الأرض أصلح مجلسا لمثل ما أنت فيه من الهم والتفكير.
الملك :
كيف رأيت بثينة، وكيف وجدت جرأتها يا مقلاص؟
مقلاص :
تلك اللبؤة من هذا الأسد يا مولاي.
الملك :
ما كل جريء فطن، وهذه الفتاة جمعت الحجا والشجاعة. إنها تعلم أنني رجل رقيق القلب مجيب العاطفة، وتعلم كذلك أن شيئا من النفور قد دخلني نحو أمها منذ حين؛ فانظر كيف تحيلت حتى ذكرتني العهد القديم، فو الله ما أنا الساعة بأقل حبا للرميكية ولا عطفا عليها مني منذ عشرين سنة. جدف يا مقلاص جدف. سبحانك اللهم، جعلت الولد سفير المودة والرحمة بين الوالدين. (يندفع الزورق)
الملك (يغني) :
الجوز اللوز، يا رب الفوز.
مقلاص (يجيب) :
الجوز اللوز، بوادي الحوز.
الفصل الثاني
«خان التميمي في إشبيلية حيث صفت الموائد والأرائك وجلس إليها قوم يتحدثون ويحتسون الشراب. ابن حيون منفرد وحده إلى مائدة، وأبو القاسم قادم عليه من باب الخان. حريز يجلس إلى مائدة أخرى وأمام ابن حيون، ورجال هنا وهناك يلعبون النرد والشطرنج أو يطالعون بعض الرسائل ...»
أبو القاسم :
ابن حيون؟ ما أطيب هذا اللقاء!
ابن حيون :
سيدي أبو القاسم؟ يا مرحبا يا مرحبا، ها هنا صدفة لينة ومجلس كريم فلو جلسنا نتحدث. أزائري أنت أبا القاسم أم جئت الخان في شأن يعنيك؟
أبو القاسم :
بل إياك قصدت يا بن حيون، وإن الشوق إليك لشديد.
ابن حيون :
شوق بعضه من بعض يا أبا القاسم، ولكن من أنبأك أني مقيم بخان التميمي؟
أبو القاسم :
لقد عرفناك كالرواد الرحل، لا ترى إلا في خان أو عند دوارس الأحجار.
ابن حيون :
الخان والسوق يا أبا القاسم مدرستان من مدارس الحياة، ينتفع بهما الرجل الأريب. ألست في هذا الخان كل يوم أبدل أهلا بأهل وجيرانا بجيران، وأستعرض صورا متحركة من الخلائق كلما احتجبت صورة خلفتها صورة. وكيف حال إشبيلية يا أبا القاسم، وهل من حوادث هناك؟
أبو القاسم :
الحال إن لم يصلحها الله فما لها من صلاح، والحوادث يا ابن حيون تتوالى ولا تتولى، واليوم مغبر والغد مكفهر.
ابن حيون :
ابن عباد في غوايته مستمر!
أبو القاسم :
خل ابن عباد يا أخي، لا تجر ذكره بسوء فإنه السيف الذي يرجوه العرب، والحصن الذي يحتمون غدا فيه.
ابن حيون :
لم تنصف يا أبا القاسم، طبعت للعرب من الخشب سيفا، وبنيت لهم من الشفير الهائر حصنا.
أبو القاسم :
اتق الله يا بن حيون بعض هذا البغي، للمعتمد من المحاسن ما يغطي على مساوئه؛ أجهلت إحسانه على أهل العلم وعطفه على أهل الأدب؟ أجهلت كيف يربي أولاده تربية لم نعرفها من الأمراء والملوك؟ أجهلت كيف يعامل الرميكية زوجته الفاضلة معاملة تحسدها عليها عقائل الأندلس؟
ابن حيون :
آه يا أبا القاسم، من هاهنا دائي وهاهنا ثأري عند صاحبك ابن عباد.
أبو القاسم :
يا عجبا كل العجب! ما هذا الثأر؟ ما حديثه؟
ابن حيون :
اسمع أبا القاسم وأنصفني ...
أبو القاسم :
تكلم يا ابن حيون فكلي مسامع.
ابن حيون :
كنت في صدر شبابي صيادا شابا مليحا، رأس مالي شبكة، وقوام معيشتي سمكة، وكانت تختلف إلى المواضع التي أختلف إليها من النهر للصيد وابتغاء الرزق صبية غسالة حلوة الدلال بارعة الجمال، كأن حديثها السحر الحلال، فانعقدت بيننا ألفة، وكانت لنا مجالس على الماء كأنها أعراس النهر، ولقاءات على الوادي الكبير كأنها أعياد الدهر، أحببت الصبية وأحبتني، وتكلمنا في الزواج وشرعنا نأخذ له أهبته.
أبو القاسم (مقاطعا) :
وبينما أنتما على ذلك طلع عليكما من النهر فلك عليه شارة الملك، يحمل ملكا شابا جميلا، فنظر الصبية فراعه حسنها، وكلمها فأعجبه أدبها، وارتجلت الشعر بين أذنيه فبلغ إعجابه بها الغاية، فتزوجها من يومه فملأت قصوره غبطة وبهجة، وولدت له الشموس والأقمار. هذا حديث الرميكية يا ابن حيون، وهذا خبر زواجها يعلمه كل من في الأندلس ويتناقلونه بالإعجاب، ويتحدثون أن بنت الشعب نزلت قصور الملك من أول يوم نزول الأقمار في هالاتها من عشرين عاما إلى اليوم، قدوة عقائل الأندلس والمثال الأعلى بين أميراته وملكاته.
ابن حيون :
وما كان ذنبي يا أبا القاسم حتى احتقرت حبي واستهانت بخطبتي؟ وكيف تريد مني بعد ذلك أن أكون لصاحبك المعتمد من المخلصين.
أبو القاسم :
هب الأمر كان معكوسا يا ابن حيون، وهب الفلك الذي وقف يومئذ بكما كان لملكة شابة فاتنة الجمال، بيمينها الجاه، وفي شمالها المال، فنظرتك فأحبتك ودعتك لتبني بها وتشاطرها عزة الملك وثراء المال - أتراك كنت تعرض عن الملكة وفاء بعهد الغسالة؟ لا والله يا ابن حيون، ما كنت فاعلا ذلك. وهذا ما فعلت الرميكية: رأت ملكا كبيرا وشبابا نضيرا وفضلا وأدبا غزيرا، فحلت نفسها من ذلك الوداد، وفضلت أصيد على صياد. عرفت يا ابن حيون أن ذنب الرميكية ليس بالعظيم كما توهمت، بقي المعتمد، وأنا لا أجده اقترف إليك ذنبا أو أراد لك ضرا، أنا أقسم لو علم ابن عباد يومئذ بما كان بينكما من الحب وما صرتما إليه من الخطبة ووشك الزواج، لأخذكما في كنفه، وتكفلت لكما نعمته بالزواج ونفقته، وبالبيت وجهازه، وبالضيعة التي تغل عليكما وتبقي بعدكما على الأولاد. (ابن حيون مطرقا)
أبو القاسم :
ابن حيون، ما بالك مطرقا لا تنبس! ما بال عينيك تمتلئان؟ استرح يا أخي للبكاء واسكب دموع الندم.
ابن حيون :
الآن استرحت يا أبا القاسم، وانطرح عن صدري أتون من الحقد حملته عشرين عاما حتى حنى الظهر، وأكل الصدر، وأدنى من القبر.
أبو القاسم :
مسكين أنت يا ابن حيون! إن حقد عشرين عاما لو جمع وقذف به في جهنم، لكان لها منه وقود لا ينفد.
ابن حيون :
لقد شفيتني أبا القاسم من ضلالي القديم، فأرشدني كيف أعتذر إلى الرميكية عن سوء ظننت، وبغض أسررت وأعلنت. وكيف أكفر عما سلف مني في ذات المعتمد من جهر السوء وهمسه؟
أبو القاسم :
يغفر الله لك يا ابن حيون. إن الحقد ما خرج من قلب إلا دخلته الرحمة، وإني لأرجو أن ستحب صاحبيك وترحمهما وتحسن إليهما، كلما وجدت إلى الإحسان سبيلا. (يطوف قيم الخان على الجالسين حتى يقف به الطواف على المائدة التي جلس إليها حريز وابن لاطون).
قيم الخان :
لعل السيدين قد وجدا الراحة في هذا الخان الصغير ببنائه، الكبير بأقدار رواده ونزلائه؟
حريز :
ومن السيد؟
ابن لاطون :
هذا الأديب التميمي صاحب الخان وقيمه.
قيم الخان :
لعلي أيها السيدان بحضرة الأمير حريز أسد الأندلس، وصديقه ابن لاطون في الجزيرة.
ابن لاطون :
هو ذاك يا أخا تميم؛ هذا الأمير حريز بطل الأندلس وواحده، وأنا ابن لاطون خادمه وكاتب ديوانه.
قيم الخان :
يا طيب هذه الزيارة، وما أعظم شرفي بها، لقد مر بنا أيها السيدان منذ ساعة، ركبان حدثونا العجب عن ذلك السباق الذي أقامه ملك الفرنجة ألفونس في معسكره، إكراما لك وحفاوة بك، وخبرونا كيف احتلت على الطاغية فمرقت من ذلك الجيش الجرار ناجيا بجوادك الصاعقة، وظافرا بالأمير بطرس شقيق الطاغية.
حريز :
وكلاهما الساعة تحت سقف خانك هذا؛ ففي بعض غرفه بطرس أمير الأسبان يأخذ قسطه من الراحة، وفي الإسطبل الصاعقة أمير الجياد يعلف ويستجم.
قيم الخان :
يا فرحا يا شرفا! أخو الطاغية أسير في خاني! نبأ والله عظيم، لا تطلع شمس الغد حتى ينتشر في الأندلس، فتشتغل الدنيا بالتميمي ويهتم بخانه الناس.
حريز :
والصاعقة أمير الجياد، أنسيته يا رجل؟ إن إسطبلك ليتيه به على مغاني الفرنجة وقصورهم. فاذهب فمر رجالك أن يعتنوا به، وليأتوا بما كان عليه من الأمتعة والأسباب فيضعوا ذلك كله في هذه الزاوية من الخان.
قيم الخان :
سيكون ما أمرت يا سيدي. (يخرج الأمير بطرس من غرفة الخان، فينهض حريز وابن لاطون حفاوة به.)
الأمير حريز :
الأمير بطرس؟ لعلك أخذت قسطك من الراحة.
الأمير بطرس :
أجل قد استرحت يا حريز، والآن خبرني ما أنت صانع بي، لقد أصابت الحبالة فما أنت صانع بالصيد؟
حريز :
إنها أيها الأمير حبالة كريم.
بطرس :
ولكني على كل حال أسيرك يا حريز.
حريز :
أجل، ولكنك الحاكم في الأسر.
بطرس :
لم تنصف أخي الملك يا حريز، اطمأن إليك فخدعته، ووثق بك وخنته، وأطلق لك جوادك الصاعقة وأسرت أخاه.
حريز :
نحن في حرب معكم أيها الأمير، والحرب لا تسأل عما تفعل، وأنا صاحب حصن للعرب يحاصره أخوك، وفي الحصن أبطال لا يعرفون الخوف ولكنهم بشر يعرفون الجوع، ومنهم المرأة والصغير والشيخ الفاني الكبير، وحصني يوشك أن يسقط بعد طول الحصار وضيقه.
بطرس :
إذن يهمك أن يخرج النساء والأطفال والشيوخ من الحصن؟
حريز :
أراك فهمت أيها الأمير.
بطرس :
إذن فاعلم يا حريز أنك إن خليت الآن سبيلي فرجعت الليلة على معسكري وقومي، فإنه لا يصبح الصبح حتى يطلق سراح كل من في حصن رباح، وينالهم من بر أخي وعطفه ما ينسيهم جراحهم، ولا ينزع من رجالك سلاحهم، بل تترك للأسد أظفارها.
حريز :
هذا ما أبغي أيها الأمير.
بطرس :
وأي الأقسام تريد أن أعطيك عليه؟
حريز :
إن الرجل الشريف كلمته قسم وإشارته يمين، فأنا أكتفي بما سمعت من وعدك، فانطلق الآن محروسا بعناية الله، وعد لأخيك الملك فبلغه تحيتي وإجلالي، وخبره بأن ربحي من ذلك السباق كان عظيما فقد غنمت صحبة أخيه الأمير النبيل الكريم، وغنمت أيضا خلاص رجالي في الحصن، وخرجت فوق ذلك من الميدان بكنوز طليطلة وجواهر ملوكها بني ذي النون.
الأمير بطرس :
كنوز طليطلة؟ خرجت بها بين عين الجيش وأذنه! يا لك من داهية عنيد! أكانت هذه الكنوز معك حين أتيت للمعسكر؟
حريز (ضاحكا) :
كلا أيها الأمير، بل كانت في طليطلة وفي خزائن ملوكها بني ذي النون، وإنما احتلت حتى حملت إلي مع الصاعقة، إذ أمر أخوك الملك أن يذهب إلى المدينة المحصورة من رجاله ورجالي من يأتي بالصاعقة.
بطرس :
عجبا! لقد رأيت الصاعقة حين جيء به من طليطلة فلم أر عليه شيئا من الأحمال والأثقال، فهل كان يحمل في بطنه الكنوز؟
حريز (ضاحكا) :
ولم لا تقول إنها كانت على ظهره أيها الأمير ... (مناديا)
يا تميمي.
التميمي :
مولاي.
حريز :
ادفع إلى الأمير جواده قيصر، وشيعه بفارسين من أشد رجالك يرافقانه حتى يبلغ خطوط الفرنجة.
بطرس :
في حفظ الله يا حريز.
حريز :
بذمة الله أيها الأمير. (يخرج حريز مشيعا الأمير بطرس إلى باب الخان، ويعود فيجلس على مائدة مع ابن لاطون)
ابن لاطون (يسأل حريز همسا) :
لقد ذكرت أيها المولى كنوز طليطلة للأمير الأسباني، فأين هي منا الآن؟!
حريز :
هي معنا يا بن لاطون بين أعيننا وفي خفارة سيفينا، ولكنك لا تراها ولا يقع في وهم واهم بأي موضع هي من الخان. (يسمع من خارج الخان مناد ينادي متغنيا)
مناد :
أنا ذا طاه أتاكم
من شريش بقطائف
من يذق حلواي يبرز
لحريز غير خائف
حريز :
لله ما ألذ الصوت وما أحسن الشعر!
ابن لاطون :
وإنا نرجو ألا تكون القطائف دونهما لذة وجودة. (حريز متجها إلى باب الخان)
حريز :
تعال يا صاحب القطائف. أتعرف أيها الرجل حريزا الذي أشدت بذكره فيما أشدت؟
البائع :
أو تجهله أنت كائنا من كنت، وهو عنترة البيد وحيدرة الحمى ونادرة الزمان؟ أعرفه بأمسه ويومه كما يعرفه سائر الناس.
حريز :
وكيف صفته؟
البائع :
رجل عملاق أشم طويل الساعدين عبل شمردل.
حريز :
كفى يا شريشي كفى، اكشف عن بضاعتك لنرى أين المنادى عليه من النداء. (البائع يعرض الصينية مكشوفة)
صوت (من الحاضرين) :
تعالى الله ما أشهى!
صوت (آخر) :
تعالى الله ما أطيب!
حريز :
بكم تبيعني هذه الصينية يا رجل؟
البائع :
كل ما أعطيت مقبول أيها السيد الكريم.
حريز (ويلقي إليه صرة دنانير) :
خذ هذه الصرة مباركا لك فيها.
البائع :
ولكم في القطائف أيها الطاعم الكريم.
حريز (للحاضرين) :
تعالوا أيها الإخوان نتقاسم هذه اللقمة الطيبة، تفضلوا، أقبلوا. ذوقوا معنا من هذا اللون الذي ذاعت شهرته في البلاد حتى قيل إن من دخل الأندلس ولم يذق من مجبنات شريش فما عرف من متاع الأندلس شيئا.
أحد الحاضرين :
إن لهذه القطائف لطيبا يسكر من بعيد. (الجميع يأكلون)
أحدهم :
ما ألذ!
ثان :
ما أطيب!
حريز (وهو يأكل ملتفتا إلى ابن حيون) :
ما بال الأديب لا يجيب الدعوة؟
ابن حيون :
إني صائم أيها الأمير.
حريز :
تقبل الله منك وإن أنت لم تقبل منا.
أحد الحاضرين (على المائدة وهو يأكل) :
وهذه المائدة جمعت العلف والشرف؛ فو الله ما كان أحدكم يحلم أن يؤاكل أسد الأندلس.
آخر :
حق إن هذا لهو الشرف العظيم. (يفرغون من الأكل)
حريز :
يا الله ما هذا الدوار؟ ابن لاطو ...
ابن لاطون :
وأنا أيضا كأني داخل في غيبوبة.
رجل (لصاحبه) :
كيف تجد الدنيا في عينك يا ضبي؟
الضبي :
مظلمة صاعدة نازلة.
الرجل :
وأنا أيضا أجد الدنيا ...
أبو القاسم :
لقد رحمت بصيامك يا ابن حيون فإني أظن القطائف طبخت بالبنج وأخذت تصرعني ...
ابن حيون (مذعورا) :
يا ويح للجماعة غودروا صرعى، وويح لك أبا القاسم سقطت سليب العقل والحراك. (يظهر صاحب القطائف ويصفر فيدخل جماعة من اللصوص)
ابن حيون (وقد امتلأ المكان باللصوص) :
يا الله! امتلأ المكان باللصوص. الآن تبينت أن القطائف كانت مصيدة لم يعصمني منها إلا الصيام. (ثم لنفسه همسا)
تناوم يا ابن حيون (ويتناوم على مقعده).
صاحب القطائف :
يا أصحاب الباز، غدا يتحدث الأندلس أن صاحبكم صرع الأسد وأخذ الصاعقة من فارسه الجبار، وقد خصصت نفسي بأمير الخيل الصاعقة فهو حصتي من غنائم اليوم، وما سواه فهو لكم تقتسمونه بينكم، فدونكم الجيوب ففتشوها، وعليكم بالحقائب فانبشوها، وخذوا أثاث الخان وعروضه، كل ما خفت زنته وعظمت قيمته.
أحد اللصوص :
ولكن الصاعقة عريان لا سرج عليه أيها الزعيم.
الباز :
بجياد الأندلس جميعا هو كاسيا كان أو عريانا.
لص آخر :
لقد لمحت أيها الزعيم في زوايا الإسطبل سرجا محلى بالذهب والفضة.
الباز :
أوأنتم تاركين لي السرج المذهب المفضض أيها الأصحاب؟
اللصوص :
نحن وما نملك للزعيم.
الباز للص :
إذن فاسبقني يا شهاب فضع السرج المذهب على الصاعقة وانتظرني هناك. (يأخذ اللصوص في السلب والنهب وينسلون واحدا إثر واحد بما حوت أيديهم، ويبقى رجل منهم فينحني على سرج عاطل يتأمله، ويظن ابن حيون المكان قد خلا فيستوي في مجلسه، ويقع نظر اللصوص عليه فيرمي السرج العاطل عليه قائلا).
أحد اللصوص (لابن حيون ويرمي عليه السرج العاطل) :
خذ يا شيخ السوء هذه الخشبة، لعل فيها العوض عما أفاتك الصيام من القطائف. (ويخرج اللص)
ابن حيون (لنفسه) :
شلت يد اللص؛ لقد قذف السرج بقوة حتى كسره، ولو أصابني به لتركني جثة بلا روح، يا الله! ترى أي شيء في فروج هذا السرج. (يدنو منه ويمسك به ثم يتأمله ويدس فيه يده)
رب ما هذا الحصى! أي مجنون يملأ سرجه بهذه الأحجار! (ثم يستخرج عددا من الأحجار البارقة ويقلبها بين يديه مذهولا قائلا:)
والفقه، قد حشا ردني باللآلئ واليواقيت. (ثم لنفسه)
يا ابن حيون أين يذهب بك! هذا كنز ملك عظيم من أقيال الروم، جد به الحرص وخاف امتداد الفتنة إلى كنزه فاختار له هذا السرج البالي وفي نفسه أن يصونه أو يموت دونه، فأخلف الدهر ظنونه. (يجمع اللآلئ بين الدهشة والاضطراب ويقول:)
ابن حيون (وينظر إلى اللآلئ) :
لآلئ، يواقيت، ماس، زمرد! رباه هذا عجل الذهب، هذا هو معبود الناس بعدك! هذا هو المال.
الفصل الثالث
«بستان أمام دار أبي الحسن. إلى يمينه باب الدار ومن ورائه شاطئ الوادي الكبير، أبو الحسن جالس في هذه الساحة وبين يديه تابع له هو «سعيد» وجماعة بالقرب منه من السماسرة يتهامسون.»
أبو الحسن :
ما هذا؟ ما أرى؟ إني لا أعرف هذه الوجوه، فمن الرجال يا سعيد وما يبتغون؟
سعيد :
هذه الوجوه تحوم على الدار منذ حين يا مولاي، وتسأل عن أجزائها وتستفهم عن مشتملاتها، وتتحدث عن المكتبة خاصة وما عسى تضم من نفائس الأسفار.
أبو الحسن (رافعا وجهه إلى السماء) :
لطفك اللهم! لقد لهج الناس بالنكبة واشتغلوا بالمنكوب، وما أولع الناس بالناس! (ثم إلى الرجال)
أيها الرجال تعالوا، فإن كنتم ضيوفا فيا مرحبا بكم، وإن كانت لكم حاجات تريدون قضاءها فهاتوا اذكروا.
أحدهم :
ائذن لي يا سيدي التاجر أن أصارحك القول، فليس مركزك بسر، والدار معروضة لا محالة فلتبعها اليوم، فقد تغبن جدا في الغد.
أبو الحسن :
أتشفق على الدار أن يكسد سوقها في غد؟ أم تشفق على نفسك أن يكون السمسار غيرك؟ بكم قومتم الدار أيها الوسيط المجتهد؟ وأي ثمن تعطون؟
أحدهم :
عندي المشترى لها بخمسين ألف دينار يا سيدي التاجر، تحمل إليك في الصباح إن قبلت.
أبو الحسن (إلى الثاني) :
وأنت فماذا عندك؟
الثاني (من السماسرة) :
عندي الراغب الذي يزيد خمسة آلاف دينار.
أبو الحسن (مشيرا إلى الثالث) :
وهذا الثالث ماذا عنده؟
الثالث :
عندي أيها السيد صديق لك لا أسميه، يريد أن يشتري مكتبتك بالثمن الربيح، فهل أنت بائع؟
أبو الحسن (في غضب) :
والمكتبة أيضا أخذوا يتحدثون في شرائها! ووسادتي وفرش نومي أما لهما عندك من طالب أيها الرجل؟ اغرب عني، اغرب وخذ صاحبيك معك وانطلقوا، إن النكبة لم تبلغ بعد تمامها ولم تبلغ إلى اليأس. (يقترب شيخ غريب الثياب ملتفتا إلى الرجال الثلاثة قائلا:)
الشيخ المغربي :
تلك والله وقاحة!
أحد السماسرة :
حجلت فيها يا وجه النحس. (ينصرف السماسرة)
أبو الحسن (يناجي نفسه) :
ظهر فيك السمسار يا دار، اللهم أنت أعطيت وأنت أخذت وأنت تعلم أني لست التاجر اللص ولا المحتال، فالطف بي فيما قضيت، وأعن ولدي حسونا على ما يواجه من فرار النعمة وانتقال الأيام. (ثم يشعر براحة ويقبل على الشيخ المغربي قائلا:)
وأنت يا شيخ البربر ما وراءك؟
المغربي :
أنا زائر يا سيدي التاجر. وربما كلمتك في شأن يكون فيه ارتياحك ورضاك.
أبو الحسن :
مرحبا بالزائر. تعال يا سيدي نتحدث على هذا الفضاء الطلق، وفي ظل هذا الروض الكريم. (يسيران قليلا ثم يجلسان)
المغربي :
أنا يا سيدي التاجر رجل من أغنياء المغرب، حبب الله إلي السياحة في أرضه، أجوب مذ كنت البر وأرفع شراع البحر، إلى أن دفعتني الأسفار منذ أيام على مدينتكم هذه إشبيلية الغناء، وكنت سمعت عنها وقرأت الشيء الكثير، فلما نزلتها ودخلت في مواضعها وخرجت ملأت نفسي وشغلت خاطري، فاعتزمت أن أجعلها قراري وملقى عصاي في رحلة الأيام.
أبو الحسن :
ما أسعد إشبيلية يا سيدي بابنها الجديد البار.
المغربي :
مهلا يا سيدي التاجر وخذ الحديث إلى آخره، لم يبق في نفسي من هوى الأسفار إلا جولة أجولها فيما وراء هذا الأندلس من ممالك للفرنجة وديار، فإذا كتب الله لي السلامة أتيت هذه المدينة فاتخذتها وطنا وديارا.
التاجر أبو الحسن :
مشيعا بالسلامة والكرامة.
المغربي :
ولكني مزمع سفرا، وما يدري المسافر ما وراء الغربة من الفجاءات، وما تدري نفس بأي أرض تموت، ومعي يا سيدي من كريم الجوهر ونادره ما أخشى عليه السرقة أو الضياع، وأنا منقطع الوارث لا أهل ينتظرونني ولا ولد، ولقد مررت بدارك هذه مرارا فكنت كلما زدتها تأملا زادتني بهجة وروعة، حتى حدثتني النفس بشرائها.
أبو الحسن (في غضب) :
أأنت أيضا يا سيدي أتيت تساومني في الدار.
المغربي :
دعني أستتم يا أبا الحسن فإني جاد، ما أنا بالمساوم ولا بالرجل الذي يلتمس الفوائد لنفسه من مصائب الناس، ولكني جئت أخطب إليك الدار وأجعل مهرها ما أقدر أنا لا ما تقدر أنت ولا الناس.
أبو الحسن :
ماذا تريد يا سيدي؟ بين، صرح، إني لا أفهم ما تقول!
الشيخ المغربي (ويخرج عقد لؤلؤ من كمه) :
هذا عقد من كبير اللؤلؤ وخالصه قيمته زهاء المائة ألف دينار، فخذه يا سيدي ثمنا لدارك وابق فيها واحرسها لي حراسة القيم الرفيق، فإن لقيتك سالما بعد ثلاثة شهور تمضي من يومنا هذا نزلت في داري، وإن مضت هذه المدة ولم أعد بقيت عليك الدار مباركا لك فيها ولولدك.
أبو الحسن :
ولكن يا سيدي هذا الثمن كثير جدا لدار يشتغل بها الآن السمسار والدلال.
المغربي :
بربك أيها السيد لا تعرض عن خير ساقه الله إليك، ولا تقف لأهل المروءات في سبيلهم، لا تستنكر على رجل قد زاد ماله حتى ما يدري ما يصنع به، أن يعين بفضيلة منه كريما مثلك طالما آسى الجروح وأقال عثرات الكرام، فأجز الصفقة يا سيدي أجزها.
أبو الحسن (ينظر إلى العقد قائلا) :
أمائة ألف دينار!
المغربي :
أجل يا سيدي في أقل تقدير. (أبو الحسن يأخذ العقد ويتأمله ويقلبه، وفي هذه اللحظة يرسو شراع فتنزل منه بثينة متنكرة في ثياب شاب ومعها جوهر ولؤلؤ.)
أبو الحسن :
ماذا أرى! ما هذا الشراع؟ من الفتية يا ترى؟ ائذن لي أيها الزائر الكريم، وانتظرني فإني عائد إليك من فوري. (يتجه أبو الحسن نحو القادمين من الشراع. المغربي يزيل تنكره فإذا هو بابن حيون. حسون يلمح ابن حيون من داخل الكشك فيناديه من وراء مجلسه.)
حسون :
تعال يا ابن حيون ألاعبك الشطرنج.
ابن حيون :
لبيك يا سيدي حسون. (ويدخل ابن حيون إلى حسون. عند اقتراب أبي الحسن من القادمين يسارع إليه ابن غصين ولؤلؤ وجوهر).
ابن غصين (بثينة) :
السلام عليكم يا عم.
أبو الحسن :
وعليكم السلام يا بني.
ابن غصين :
لمن يا عم هذا القصر المنيف وهذه الربوة الغناء؟
أبو الحسن :
هذا الكوخ يا بني لخادمكم أبي الحسن التاجر.
ابن غصين :
تسمى غرفة الفردوس كوخا! هذا منتهى التواضع يا سيدي التاجر.
أبو الحسن :
ومن السيد ؟
ابن غصين :
ولدك ابن غصين. من أبناء أعيان قرطبة، وهذان جوهر ولؤلؤ صاحباي ورفيقا سفري.
أبو الحسن :
مرحبا مرحبا بشباب قرطبة النابه. إني أرى الدار قد أعجبتكم يا بني، وإنه ليسرني ويشرف قدري أن تدخلوا فتقضوا ساعة مع ولدي حسون. فإني أرى عليكم الفضل والأدب والمجادة، وحسون لا يصاحب ولا يجالس إلا أهل الفضل والنبل، فتفضلوا أيها الأدباء وشرفوا أخاكم بزورة، وأنتم واجدون عند حسون كل ما يشتهي النشء المثقف، ففي خزانته ما قدم وما حدث من آلات الطرب حتى عود زرياب.
جوهر (يصيح) :
عود زرياب!
أبو الحسن :
أجل يا بني، ذلك العود الذي على أوتاره كان عواد الأندلس يسمع الخلفاء ما توحي إليه الجن من روائع الألحان، وتجدون كذلك عند حسون مكتبة لم يجمع مثلها في البلاد، قد حوت الذخائر في كل علم وفن.
ابن غصين :
وكيف ولع فتاك يا سيدي بعلم الفلك؟
أبو الحسن :
أشد الولع يا بني، وقد جمع الكثير من نفائس المخطوطات فيه، وفي أولها رسائل المنجم الضبي.
ابن غصين :
المنجم الضبي؟
أبو الحسن :
أجل يا بني، وأذكر أنه من شهرين أو أكثر أو أقل، قد انتهت إلى حسون رسالة مما وضع الضبي فدخله من ذلك فرح يشبه الجنون.
ابن غصين (لنفسه) :
رسالة للضبي من شهرين أو أكثر أو أقل؟ بشراك يا قلب إنه هو، وبشراك يا عين ستكتحلين به الساعة. (ثم إلى أبي الحسن)
لقد شقتنا إلى ولدك الفاضل أيها السيد، فأين من يستأذن لنا عليه؟
أبو الحسن :
يا مرحبا! يا مرحبا! ما أعظم حظ حسون. اتبعوني يا سادة، اتبعوني، فإني دليلكم إلى ناديه، وإني أرجو أن سيعجبكم، إن حسون شاب قد ألقى الله عليه محبة الناس. (أبو الحسن مع ابن غصين ورفاقه يقفون أمام كشك حسون. ابن غصين يلحظ لعبة الشطرنج.)
أبو الحسن (لابن غصين) :
هو ذا حسون يا سيدي يلعب الشطرنج مع صديق لنا قديم كريم، لا تخلو منه الدار ساعة. (أبو الحسن ينادي ابنه)
أبو الحسن :
حسون يا ولدي.
حسون :
لبيك.
أبو الحسن :
هذا ابن غصين من نبلاء فتيان قرطبة ومعه صاحباه ورفيقا سفره، يريدون أن يجتمعوا بك ساعة.
حسون :
يا مرحبا! يا مرحبا! أهلا وسهلا بالسادة.
أبو الحسن :
لقد جمعتك بضيفانك الكرام يا حسون، والآن أترككم في حراسة الله لأعود إلى زائري المغربي فإنه بانتظاري، وأخاف أن يأخذه القلق. (أبو الحسن يرجع يفتش على المغربي فلا يجده.)
أبو الحسن :
يا الله! أين الشيخ؟ أين ذهب؟ (مناديا)
سعيد
الخادم :
لبيك يا مولاي.
أبو الحسن :
ما صنع الله بالشيخ المغربي الذي كان هاهنا منذ لحظة؟
سعيد :
لا أدري أين ذهب يا مولاي.
أبو الحسن (ينظر في يده وكان قد نسي فيها عقد اللؤلؤ) (لنفسه) :
ويحي ماذا أرى! هذا عقد اللؤلؤ في يدي نسيته فيها. يا خجلا! ماذا يقول الرجل عني؟
ابن حيون (من داخل الكشك) :
سيدي أبا الحسن، لقد لمحت زائرك المغربي خارجا من الدار يهرول فعبثا تبحث عنه. (حسون مع ابن غصين ورفاقه وابن حيون.)
ابن غصين (لنفسه) :
إلهي، صدقني القلب ما حدث، وقلما تكذب القلوب، هذا هو شاب قرطبة الذي لم يخل منه القلب دقة. (ثم إلى حسون)
الآن صدقتني الذاكرة، فنحن يا سيدي قد تعارفنا قبل اليوم.
حسون :
وأين كان ذلك؟ وكيف نلت هذا الشرف؟
ابن غصين :
في سوق الكتب بقرطبة من نحو شهرين أو أقل أو أكثر.
حسون :
الله ما أعظم حظي! أنت والله يا سيدي ذلك الفتى الملثم الذي نازعته رسالة الضبي ونازعنيها حتى غلبته عليها. نعم أنت هو، وهذا صوته، وهذه شمائله، فكيف اهتديت إلى كوخي أيها السيد العزيز! يا مرحبا! يا مرحبا! جعلها الله بيننا صداقة الدهر.
ابن غصين :
ولكن أنت يا سيدي تلاعب صاحبك الشطرنج، وأخشى أن أقطع عليكما لذة اللعب.
حسون :
لا يا سيدي، هذه لذة نجدها في كل وقت، وأما لقاؤكم والأنس بكم فلذة الدهر وخلسة الأيام، تفضلوا يا سادة.
ابن غصين (لجوهر همسا) :
اجتهد يا جوهر أن تلاعب هذا الشيخ وتشغله، حتى يخلو لي وجه حسون.
ابن غصين (إلى لؤلؤ) :
وأنت يا لؤلؤ إذا أخذا في اللعب، فقم عند رأسيهما ولا تدعهما حتى أهم بالانصراف.
جوهر (إلى ابن حيون) :
أتأذن يا سيدي أن أحل محل السيد حسون في ملاعبتك؟
ابن حيون :
تفضل يا سيدي خذ مكان حسون وأرحني من قدرته العجيبة على الظفر بالملاعبين، ومن حظه الذي هو أعجب من قدرته.
ابن حيون (إلى لؤلؤ) :
وأنت يا سيدي أتحب أن تكون من النظارة؟
لؤلؤ :
يا حبذا لو أذنت يا سيدي. (يتأبط ابن غصين ذراع حسون ويبتعدان ناحية.)
ابن غصين :
أحق أننا التقينا يا حسون؟
حسون :
أجل، وكنا نظن ألا نلتقي!
ابن غصين :
عناية ولطف وتوفيق أقدار لأقدار.
حسون :
وقديما جمع الله الشتيتين، وطوى الأرض للبعيدين. (يجلسان)
ابن غصين :
أتذكر يا حسون قرطبة وسوق الكتب؟
حسون :
أجل، وأذكر رسالة الضبي وكيف كنا نتنافس فيها، وكيف غلبتك عليها.
ابن غصين (مبتسما) :
وأين هي الآن يا أخي؟
حسون :
هي هاهنا يا ابن غصين بالقرب منك وفي متناول يدك، إن شئت انتقلنا إلى المكتبة فأخذتها.
ابن غصين :
لا يا أخي بل دعها في موضعها من خزانتك، فإنها عندك في الحفظ والصون وكأنها عندي. ويكفيني نظرة ألقيها على الرسالة من حين لحين كلما جئت دارك زائرة؟
حسون (في دهش) :
زائرة؟
ابن غصين (لنفسه) :
ويح لساني قد عثر، وكشف السر القدر!
حسون (مبتسما) :
كيف تأنثت أخي أما أنت الفتى الذكر؟ أما كفاك هذا الصوت الساحر الرنة اللذيذ النبرة، حتى جمعت إليه أنوثة اللفظ ولين الكلام؟
ابن غصين (في تلجلج وغضب) :
عثرة لسان يا شاب، فمر عليها مر الكرام.
حسون :
وما أثارك يا أخي وليس فيما قلت ما يغضب؟
ابن غصين :
لنطو هذا الحديث ولنرجع لما كنا فيه ... أما يسرك يا حسون أن أخلق لزيارتك العلل والأسباب، أن أجعل رسالة الضبي سلما إلى دارك كلما اشتقت إليك!
حسون :
كل السرور يا ابن غصين، أنا واحد أبي لم أعرف عاطفة الأخوة، ولم أجد لها حنانا ولا رقة، ويخيل إلي منذ عرفتك أن قلبي يفيض منها وأن وجداني بها مترع، فهل ترضاني أخا لك شقيقا، برا بك شفيقا؟
ابن غصين (ويتنهد) :
يا مرحبا، وإن كنت حللت من قلبي محل أخي الظافر من أول يوم.
حسون :
ويح أذني ما أسمع! وما أنت من الظافر يا ابن غصين! وما الظافر منك؟
ابن غصين (ويتلجلج في الجواب) :
عثرة أخرى، ويح لساني اختل عصبه واختلط عضله، اغفر لي هذه أيضا وانسها يا حسون. (وكان ابن غصين ينظر إلى رباط بذراع حسون، فوثب في الحديث وقال:)
ابن غصين :
وقى الله ذراعك بيمينه يا أخي، ما هذا المنديل؟ ما وراءه؟
حسون :
جرح اندمل أكثره وبقي أثره.
ابن غصين :
بعد عنك الشر يا أخي، من جرحك؟
حسون :
هذا واحد من جراح لم يكن يرجى أن أقوم منها، لو لم تلق عليها العناية يدها الآسية الشافية.
ابن غصين :
بالله ألا حدثتني حديثك. أطلع عليك اللصوص يا أخي في مكان خال من الناس فأبليت فيهم وأبلوا فيك؟ أفاجأتك عصابة الباز بن الأشهب فجرحت رجالها وجرحوك؟
حسون :
لا يا سيدي، إن القتال الذي شهدت أعظم شأنا وأنبل أقرانا مما ذهبت إليه ظنونك.
ابن غصين :
وما خبره، وأين كان وكيف؟
حسون :
كان ذلك في قرطبة.
ابن غصين :
قبل تلاقينا في سوق الكتب أو بعده؟
حسون :
بل بعد ذلك بأسابيع، وكنت نزيلا على بعض خانات المدينة، فكان من عجائب القدر أني اكتشفت مؤامرة تدبر في الخان لاغتيال الأمير الظافر وإزالة إمارته عن قرطبة، وكان شيطان الفتنة ورأس أفعاها هو الأمير حريز بطل الأندلس المشهور؛ فما اطلعت على سر المؤامرة وخطط أصحابها حتى ثار ثائري وغضبت لوطني ولقومي، فانسللت من الخان ليلا، وركبت جوادا كان معدا ليركبه بوق الثورة والفتنة، فعدوت حتى أتيت قصر السوسان فنبهت الأمير وحاشيته وحرسه، ولم أكن إلى تلك الساعة رأيت الظافر وجها لوجه ولا حضرت له مجلسا، وتأهب الجميع للقتال، وما لبثت الثوار أن طلعوا علينا آتين من نواحي المدينة يقودهم بطل الأندلس حريز، فتلقيناهم بصدور قد رحبت بالموت، ونفوس قد هشت إليه، وذكرنا إذ ذاك الوطن وحقه، وإشبيلية ومكانها في الأعناق، فحملنا حملة تحيد عنها الجبال، وكان الظافر طيب الله ثراه ...
ابن غصين (منزعجا) :
حدثني يا سيدي عن الظافر، قل لي كيف قاتل، وكيف قتله الغادرون؟
حسون :
تسألني عن الظافر كيف قاتل؟ سل حريزا عنه فهو ينبئك أنه الأسد.
ابن غصين :
وأين كنت من الأمير في ساعة البأس يا سيدي؟
حسون :
كنت حوله أحمي ظهره ويشد سيفي سيفه، إلى أن ناءت به جراحاته فسقط عن جواده، وكنت أنا أيضا قد أثخنت بالجروح، فسقطت إلى جنبه، حتى إذا أفقت من غشيتي نظرت حولي فرأيت عند رأس الظافر هذا الصديق الذي تراه يلاعبك الشطرنج الآن.
ابن غصين :
وما اسمه يا سيدي؟
حسون :
ابن حيون وهو من رجال العلم والأدب.
ابن غصين :
وماذا كان من اهتمامه بالقتيل؟
حسون :
طبع على جبينه قبلة وبكاه ورحم، ثم ألقى عليه رداءه. (ابن غصين يدخل في الإغماء)
حسون :
ما هذا؟ ماذا أرى؟ ما أصابك يا أخي؟ ما لعينيك تغمضان! وما بال رأسك يميل؟ ويحي ماذا جنيت على الشاب؟ قد كان عن حديث الظافر لي غنى؛ رب أصاح أنا أم حالم؟ (وعندما يميل ابن غصين في الإغماءة تقع القلنسوة)
حسون :
هذه ضفائر فتاة قد هوت عنها القلنسوة فانسدلت كجنح الليل على جبين كغرة الصباح. أيها الملك الكريم، لقد عبثت بي إذ كنت تتنكر وتترجل فاعبث اليوم بقلبي ما بدا لك فقد دب لك الهوى فيه، إن شئت فتنكر، وإن شئت فاظهر، فلأكتمن حديثك ولأقدسن سر هواك أن يذاع، ويلاه إن الإغماءة قد طالت. ابن حيون، ابن حيون.
ابن حيون :
لبيك يا سيدي.
حسون :
أنا في حاجة إليك، تعال وحدك أسرع. (يحضر ابن حيون)
حسون :
ابن حيون انظر ماذا ترى، لقد أغمي على ابن غصين فإذا الظبي مهاة، وإذا البدر يا ابن حيون شمس.
ابن حيون (بعد تأمل عميق) :
يا لغرائب القدر، هذا الوجه عرفته وعشقته قبل عشرين عاما من هذه الأيام، وقد لقيت بعشقه الدواهي.
حسون (مندهشا) :
قبل عشرين عاما من هذه الأيام! هازل أنت يا عم؟!
ابن حيون :
بل جاد كل الجد يا ابن أخي، اسمع حسون: هذه بنت الرميكية، هذه أخت الظافر، هذه بنت ابن عباد.
الفصل الرابع
«بإحدى مقاصير قصر الزاهي. العبادية والدة الملك ابن عباد مع بثينة.»
العبادية :
لقد علمت يا بثينة ما كان من زيارتك لدار التاجر أبي الحسن وجلوسك ساعة مع ولده حسون، وأنك كنت في زي الغلام وكان معك لؤلؤ وجوهر.
بثينة :
ومن خبرك الخبر يا جدة؟
العبادية :
عين من الحب وكلتها بك ترعى خطاك وتحرس حركاتك وسكناتك، وإن كنت عظيمة الثقة بنفسك الأبية العالية، وخلقك الفاضل الشريف.
بثينة :
أنت إذن يا جدة كالمنصور بن أبي عامر، لك في كل ناد عين، وفي كل سامر أذن.
العبادية :
لا بل أنا عجوز يا بثينة، والعجائز يتلمسن الأخبار، وأنا أرمل ملك وأم ملك يتجسس لي من لم أندبه للتجسس، ويجيئني بالأخبار من لم أزود. ومهما يكن من الأمر يا بثينة فلا تنسي أننا ما أرخينا لك الحبل إلا ونحن نعلم أنك الفرس النجيبة، التي إذا أرخي لها الرسن لم يخش لها جماح ولا شرود.
بثينة :
جعلني الله عند ظنكم يا جدة. وببغاؤك نادر يا جدة، أنسيته؟
العبادية :
كيف أنساه يا بثينة، وقد كان لدي كريما وكان سيد الطير، وكان أخفها ظلا وأبينها حكاية ونقلا.
بثينة :
أتذكرين يا جدة كيف أشفقت عليه فلم ترضي أن ينزع من ريش جناحيه، كما يصنع الناس بالطير الكريم فيأمنون طيرانه وفراره، وإنما اكتفيت بوضع حلقة صغيرة من الذهب في رجله اليمنى تمنعه من النهوض وتقيده، وإن كان في الظاهر حرا يتنقل في نواحي القصر.
العبادية (مندهشة) :
وماذا أخطر ببغائي نادر على بالك يا بثينة، وماذا تريدين بذكر الحلقة؟
بثينة :
أريد أن أقول لك يا جدة، إن حالي كحال المرحوم نادر؛ قيدتموني بجوهر ولؤلؤ ومقلاص وبالعيون والأرصاد، ثم زعمتم أني حرة طليقة أفعل ما أشاء.
العبادية (مبتسمة) :
ولكن لا أظن حلقة الذهب تثقل رجلك يا بثينة، فإني أرى خدم أبيك الملك لا يقصرون في صحبتك عن خدمة ولا طاعة. على أن كل هذا لا يهمني، إنما يهمني أن أعلم رأيك في الشاب وكيف وجدته. وهل هو على جانب من الفضل والعقل يتميز به عن اللدات ويسمو به على الأتراب؟
بثينة :
أما هذا يا جدة فنعم، حسون فتى جم العلم غزير الأدب عظيم الحظ من الفنون جميعا، إلى ما وهب له الله من الشجاعة التي لا يضارعه فيها اليوم إلا أبي الملك، وإلا شاب كان زين الشباب طاح بالأمس شهيد الكرامة والواجب.
العبادية :
أو أبدا تذكرين الظافر يا بثينة، دعيه يا ابنتي في أعراس نعيمة بين شباب الجنة، خبريني هل في شبان أمراء الديار اليوم من هو الكفء لأميرة الأندلس وعروسه؟
بثينة (في حياء) :
هبي الكفء موجودا حاضرا يا جدة أهذا وقت الفكر في زواجي والاهتمام به، وأنت ترين الحوادث يجد جدها والأمور تسوء مسايرها. مسكين أبي الملك أصبح لا يدري من أين يتلقى البلاء. المغاربة وسلطانهم ابن تاشفين يطلعون من البحر، والأسبان وعاهلهم ألفونس يزحفون من البر، والملك بينهما كالصيد المطارد من جانبيه إن تلفت عن يمينه قتل، وإن تلفت عن شماله أكل، والأندلس في هذه الأثناء كالأسد الواقع في الحفرة إن سكن لم ينفعه، وإن تحرك لم يرفعه؛ وحدة ممزقة، وكلمة متفرقة، وآمال بالعدو معلقة.
العبادية :
إن بنات الملوك إذا بلغن إلى مثل سنك يا بثينة كان الزواج أزكى بسترهن وأليق بجلالهن، وأما ما ذكرت من إظلام الجو وجهامة الحوادث، فتلك حال اختلفت علينا بها السنون حتى ألفناها، وقد تصير إلى الأردأ الأسوأ. وقد يبعث الله برياح اللطف فتعصم السفينة من الصخرة وتقيها كارثة الاصطدام. بثينة بنيتي، أنا الجدة ولدتك مرتين. استريحي إلي بسرك، وبوحي إلي بمكنونه فلن تجدي أرحب بسرك ولا أرحم لك من هذا الصدر. خبريني يا بثينة أتعرفين بين أبناء سروات إشبيلية اليوم فتى يتوسم فيه الخير ويرجى في أمره الصلاح، ويقول الناس عنه: فلان كفء لبنات الملوك؟ بثينة، لقد مررت باسم حسون مرا ولم تصفيه لي، فما شكله؟ وما أوصافه؟
بثينة :
هو يا جدة شاب في أواخر العقد الثالث من عمره، رشيق القامة في طول، أسمر اللون فاحم الشعر جعده، ساحر النظرة، إذا تبسم جذب، وإذا تكلم خلب.
العبادية (تبتسم) :
هو إذن فتى جميل يا بثينة؟
بثينة :
جدا وخفيف الظل فوق ذلك.
العبادية (بعد إطراق) :
ولكن ... (فأجفلت الفتاة ولاحظت الجدة ذلك)
العبادية :
لا تغضبي يا بثينة، فليس وراء «ولكن» شيء أقوله يحط من شأن حسون وينزل به عن مرتبة الفتيان الأمجاد، بل كل ما هناك أن الناس يتحدثون اليوم في همسهم عن نكبة نزلت بالتاجر أبي الحسن، فذهبت بمعظم ماله.
بثينة :
وما يعيبه من هذا يا جدة؟! أليس أبو الحسن تاجرا والتجارة جزر ومد، وحرمان وجد، ونحس وسعد؟ فكم من تاجر بمنزلة أبي الحسن قد نكب فذهب عنه كل شيء إلى الخلق، ثم لم تمض مدة من الشهور أو الأعوام حتى سمع الناس وتحدثوا أن التاجر فلانا المنكوب تغلب بالخلق على نكبته، فعاد دولاب تجارته كأمس عظيم الحركة عميم البركة، ومثل أبي الحسن في خلقه وأمانته وشرف اسمه في الأسواق لا يبعد أن يقوم من هذه السقطة ورجلاه في عافية.
بثينة (مصغية ثم قائلة) :
أسمعت يا جدة؟
العبادية :
أجل، سمعت تنفسا.
بثينة :
ترى من الطارق؟ (يدخل عليهما الملك)
الملك :
صفحا يا أم وعذرا يا بثينة، إذ كدرت عليكما الخلوة وقطعت عليكما الحديث، فوالله ما دفعني إليكما الساعة إلا هم سار وشاغل جليل.
العبادية :
لا بأس عليك يا بني، وعافاك الله أيها الملك. تفضل اجلس.
بثينة :
خذ مكانك بيننا يا أبت واسترح إلينا من همومك، فها هنا الرحمة قد بسطت جناحيها: ها هنا الأم والبنت. (الملك يضع جبينه على كتف بثينة باكيا)
بثينة (باكية) :
هون عليك يا أبت، وتجمل أيها الملك فقبلك لم تبك الآساد، ولا اشتكت الأطواد، ولا ضاق البحر عن الأعاصير الشداد. تحدث إلينا يا أبت ولا تيأس من روح الله. وعليك بهذه الجدة الشفيقة والأم البرة فائتمنها على سرك.
الملك :
الملك ألفونس منذ سقطت طليطلة وقضاها الله له، أصبح لا يعرف لي منزلة ولا يألوني تحقيرا وإهانة، ويطلب المال باستكلاب وشره، والبلاد باستطالة ولؤم، ومن عجيب أمره أنه يغضب من جهة فيصخب ويهدد، ويلين من أخرى فيلومني على الاستغاثة بيوسف بن تاشفين واستنجاد جنوده، ويدعي الطاغية أنه أوفى لي منه عهدا وذمة، وأصفى صداقة ومودة، وأنني إن حالفت سلطان المغرب كانت محالفة الذئب للحمل، وأن بربر المغرب إذا دخلوا الأندلس طغوا في البلاد وهدموا بنيان الحضارة فيها، ومن نكد الدنيا أن تصدق فينا نبوءة هذا الناصح الغاش، فقد طمع ضيفنا ابن تاشفين في ملكنا وسلطاننا، وتطلعت نفسه إلى خيراتنا وأرزاقنا، واستنصرناه على ألفونس فإذا نحن الآن نخشى منه بطش النصير، وإذا إشبيلية قد تضمنت مني ومنه العجب؛ النمر في قصر هناك وراء الضفة يجتمع به أعدائي وأعداء الأندلس من أبنائه الأندلسيين وصغار العقول من الفقهاء ومن يلتف عليهم، وهؤلاء يحسنون له البقاء في الأندلس واغتنام الفرصة لضمه إلى سلطته، ويقيمون عنده الحجج على فساد ملوك الطوائف ويحملونني الهدف الأول. وهنا في هذا القصر أسد مقلم الأظفار مغلوب على العرين وحيد من الأنصار والأعوان.
الحاجب :
شيخ يدعى ابن حيون بالباب يا مولاي.
بثينة :
أدخله يا أبي وبالغ في إكرامه، فقد سلف للرجل إحسان إلينا لا ينبغي لنا أن ننساه أبد الدهر.
الملك :
أدخله أيها الحاجب. (يخرج الحاجب من الباب)
الملك :
خبريني يا بثينة ما إحسان ابن حيون إلينا؟
بثينة :
لقد حدثني من لا أشك في صدق روايته، أن هذا الرجل صلى على أخي الظافر وبكاه وألقى عليه رداءه. (يدخل ابن حيون فتسدل العبادية وبثينة كلتاهما على وجهها القناع)
ابن حيون :
السلام على الملك ورحمة الله.
الملك :
وعليكم السلام أيها الولي الشفيق الحميم.
ابن حيون :
لو أذن لي الملك في خلوة (وقد رأى السيدتين).
الملك :
لا تخش شيئا يا ابن حيون، فهذه العبادية أمي وهذه بثينة بنتي، فحديثك لن يساق إلا إلي وسرك لن يجاوز أذني.
ابن حيون :
أيها الملك نحن اليوم أخوف ما كنا على هذه الأوطان، وفي مثل ما نحن فيه تجب على الأمة النصيحة للملك، وقد انتهى إلى أذني من بعض الفقهاء والمختلفين إلى ضيفك هذا يوسف بن تاشفين، أنه أصبح يرى نفسه أحق بهذا الملك منك. وقد رأيت رأيا فإن أذن الملك رفعته إليه.
الملك :
وماذا رأيت أديب الأندلس؟
ابن حيون :
أعلم أيها الملك أن هذا الضيف الذي نصرته ونصرك، وحالفته وحالفك، وقاتلت معه قتالا يبقى حديث الدهر وهو أهل لأن يغدرك، وفي غدرك ضياع الأندلس جميعا ووقوعه في قبضته البربرية الغاشمة، وقديما كان هذا سلوكه مع غير واحد من أمراء المغرب فنزع منهم ملكهم وسلطانهم وشردهم في الصحاري والقفار، فلا تفوتنك يا مولاي خطة الحزم والعزم في أمر هذا النمر ذي العمامة والمسبحة.
الملك :
وماذا تنصح لي أن أصنع؟
ابن حيون :
ألا توطئ الأرقم سريرك، وأن تقطع السيف قبل أن يقطعك، وأن تقبض من فورك على ضيفك هذا فتسجنه ولا تطلقه حتى يأمر جنوده بمغادرة الأندلس بره وبحره، ثم يحرس أسطولك البحر من كل سفينة مغربية تجري فيه، فإذا تم لك ذلك أخذت على ابن تاشفين الأقسام ألا يعود إلى الأندلس بعدها أبدا. وخذ منه الرهائن فإن نفس الرجل أعز عليه من ملك الأندلس والمغرب مجتمعين، وله أعداء ببلاده يخشى تحركهم وانتقاضهم، ويخاف أن ينتهزوا الفرصة للاستيلاء على ملكه.
العبادية :
أيها المتكلم المحسن والناصح الصادق، لم يخف علي مكان مشورتك، ولكنها خطة أولها لؤم وآخرها شؤم، فإن الملك أكرم وأعظم من أن يغدر ضيفه أو يخون جاره أو أن يحفر الحفرة لمن أقال عثرته.
الملك (لابن حيون وقد رآه يضطرب) :
لا ترع أيها الرجل الصادق، فقد كنا حين نبئنا بوصولك نخوض في هذا الحديث، وكان رأيي كرأيك أما ابنتي بثينة فلم تكن أبدت رأيها بعد.
بثينة :
مولاي، كلا الصوتين نبرة حق، وصيحة صدق، إلا أنني أميل إلى الأخذ برأي الأديب ابن حيون.
الملك :
بورك فيك يا عقيلة الأندلس! مثل هذا السمو في الرأي وهذا الحرص على حقيقة الملك لا يستغربان من بنات الملوك المنشآت بين أعباء الدولة ومهام السلطان.
العبادية (معترضة) :
ونحن بنات الشعب ألا يقام لرأينا وزن يا مولاي.
الملك (مبتسما) :
أنتن تلدن الأجسام الصحيحة والقلوب الجريئة وتحسن تدبير البيوت، ولكن لا تصلحن لسياسة الممالك.
الملك (لابن حيون) :
لو تيقنت يا ابن حيون أن جمهور شبان الأندلس يشاطرونك أنت وبثينة الرأي لما تأخرت ساعة عن العمل بما تشيران به علي. (يدخل مقلاص)
الملك :
كيف قضيت ليلتك عند ضيفنا أمير المسلمين يوسف بن تاشفين؟
مقلاص :
كانت ليلتي يا مولاي، ونحن كما تعلم في آذار/مارس في إبان القمر، طويلة مظلمة باردة، لم أضحك فيها السلطان مرة ولكن بكيت مرارا، ولم أجلب له السرور ولكن جلبت لنفسي الغم.
الملك (متعجبا) :
ما هذا الخبر يا مقلاص؟
مقلاص :
وجدت يا مولاي بحضرة أمير للمسلمين لا يفهم كلام العرب، وعند رأسه ترجمان من كتابه يفسر له كل ما نقوله يا معشر العرب في مجلسه، ويشرح لكل منا ما يشرفه به السلطان من الخطاب.
الملك :
ثم ماذا؟
مقلاص :
رأيت يا مولاي ملوك الأندلس وقوفا بباب السلطان متنافسين في إذنه.
الملك (ملتفتا إلى زائره قائلا) :
أسمعت يا ابن حيون؟ أعرفت؟ ثم ماذا يا مقلاص؟
مقلاص :
ورأيت ثم فقهاء الأندلس بعمائمهم المكبرة وجببهم الموسعة يتمسحون بالأعتاب.
الملك :
أسمعت يا ابن حيون! أعرفت؟
ثم ماذا يا مقلاص؟ قل لنا كيف وجدت السلطان؟
مقلاص :
بوق عليه طيلسان، وبومة في يدها صولجان.
الملك :
وماذا قال لك حين وقعت عينه عليك؟
مقلاص :
أدخلت إليه يا مولاي فحققني من رأسي لقدمي ثم قال لي: أأنت الرجل الذي عمله إضحاك الملك ابن عباد وتلهية أسرته؟
الملك :
فما كان جوابك؟
مقلاص :
قلت له: أجل أيها السلطان، أنا نديم الملك وسميره.
الملك :
فماذا قال لك؟
مقلاص :
قال لي إذن فأضحكنا نحن أيضا، عجل أضحكنا.
الملك :
فماذا صنعت؟
مقلاص :
دخلني خجل شديد، ووقفت ساعة أنظر في ثيابي، ولم يفتح الله علي بشيء يضحك منه ضيفك الكريم، فهممت بأن أقبض على السلطان بكلتا يدي وأقذف به من النافذة.
الملك :
وماذا منعك يا مقلاص؟
مقلاص :
سيفه المعروض على حجره، والزبانية القائمون عند رأسه وبجانبه كأنهم العفاريت، إلا أن السلطان لحظ حرج موقفي فأشار بإخراجي، فحضر من رجاله من صرفني في وقاحة وإذلال، فخرجت وأنا لا أدري فيم طلبني الرجل، وأحمد الله على أن لم يجعلني في خدمة سلطان مثله له وجه كوجه الأسد، لا يعرف التبسم ولا البشاشة. (مقلاص يريد أن ينقذ الملك من تأثره)
مقلاص :
لقد وجدت ضالتي يا مولاي.
الملك :
وما ضالتك التي وجدت؟ وقد عدت تهذي يا مقلاص؟
مقلاص :
لا يا مولاي، ألا تذكر أنني كنت من الإعجاب بجمال الأميرة بثينة وكمالها وسمو منزلتها بين عقائل الشرق والغرب، بحيث لا أعتقد أن بين فتيان الدنيا من هو أهل لأن يخطبها إليك.
الملك (مبتسما) :
والآن هل وجدته يا مقلاص؟ ومن ترى يكون؟
مقلاص :
فتى جريء جميل رأيته يوم الزلاقة يحمي ظهرك هو وحريز وابن لاطون، فظل سحابة نهاره معلنا بالسيف دونك حاميا لحوذتك، حتى لقي البطلان حريز وابن لاطون حتفيهما وحمل هو إلى داره مثخنا بالجراح.
الملك :
ومن الفتى يا مقلاص؟
مقلاص :
هو يا مولاي أجمل فتيان الأندلس وأشجعهم، وهو الآن طريح الفراش ما يزال يشكو من جراحه.
الملك :
ومن يكون؟ وما اسمه؟
مقلاص :
هو حسون ابن التاجر أبي الحسن.
ابن حيون :
لقد صدق فتاك يا مولاي، فإني كنت عند حسون الليلة البارحة أعوده وقد أفاق من جراحه وقص علي حديث بلائه يوم الزلاقة حين اشتد القتال بينك وبين الإفرنج، فأخبرني أنه رأى يومئذ جوادك وقد ضعف وخار من شدة الجراح، فقدم لك الصاعقة أمير الجياد، ركبته وكان تحت الباز بن الأشهب لص الأندلس فخر عنه قتيلا.
الملك (مندهشا) :
أوكان الباز بن الأشهب بجانبي يقاتل معي أعداء البلاد؟!
ابن حيون :
نعم يا مولاي، ويقول حسون إنه أبلى يومئذ بلاء عظيما.
الملك :
يا الله! أيكون اللصوص أوفى للأندلس من أمرائه وفقهائه، وأبذل للأرواح دون لوائه، وأين حسون الآن؟
ابن حيون :
هو كما ذكرت يا مولاي ما يزال طريح الفراش، ولكن لا خطر على حياته .
الملك :
الآن تذهب أنت ومقلاص فتنوبان عني في عيادته والسؤال عن أمره، وإبلاغه تحيتي وشكري وما أعد له من جليل المكافأة.
بثينة :
وأنا أيضا أبلغ حسونا تحيتي وشكري يا سيدي ابن حيون، وأرجو أن يعلم أن أخت الظافر لم تنسه ساعة، وأنها قد جمعت له هذه الأزهار بيدها فاحملها إليه، وقل له لو كنت الملك لبعثت له بالغار في الأزهار، وبالصولجان مع الريحان. (وفي هذه الأثناء يدخل جوهر)
جوهر :
مولاي لقد وقع ما كنا نحاذر وحل بإشبيلية البلاء.
المعتمد :
البلاء! تريد أن الصديق قد انقلب وأن الحليف قد عاد حربا. هذا ما خفت أن يكون وقد كان. (يدخل لؤلؤ)
لؤلؤ :
أغث أيها الملك المدينة، أدركها فقد خلفتها وجنود السلطان يتدافعون فيها كالسيل بعدما اشتد ضغطهم على باب الفرج، وأقاموا ساعة يدفعونه حتى ناءت به الكثرة فانفتح فنفذوا منه إلى كل مكان، فاخرج يا مولاي فقاتل حتى تستنقذ الوطن أو تموت دونه، وإلا فالنجاء النجاء.
الملك (مغضبا) :
تدعون يا شاب للفرار! هيهات هيهات! الأسد لا يهرب ولا يخاف الموت. (ملتفتا إلى جوهر)
خبرني يا جوهر أين كان فتيان إشبيلية؟ وأين هم الآن؟
جوهر :
قبع الفتيان في البيوت يا مولاي، إلا مائة أو ما دون المائة شهدوا معك يوم الزلاقة وتعلموا منك الكر والإقدام، واليوم قد لبسوا السلاح وخرجوا يلاقون الموت وهم بانتظارك ليجعلوك اللواء الذي تسيل نفوسهم عليه.
الملك :
يا بشراي! مائة شاب وطنوا النفس على الموت، أما والله لو صدقت يا جوهر لكان لي من مائة قلب مجتمعة مؤتلفة متواصية بالحق وبالموت قوة أرمي بها في العباب فيمحى، وأقذف على الجبال فتزول. البدار البدار يا جوهر، امض لوقتك فضع بيدك السرج على الصاعقة والقني به على الباب.
جوهر (بصوت عال) :
أبشري إشبيلية، هذا الليث قد تحرك لنصرة العرين.
الملك :
في ذمة الله وفي حفظه يا بنات المعتمد.
بثينة :
في درع من وقاية يا أبي، فإني أراك أخذت سيفك ونسيت درعك. (المعتمد وهو منطلق والسيف مسلول في يده ولا درع عليه )
الملك :
إن يسلب القوم العدا
ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه
لم تسلم القلب الضلوع
قد رمت يوم نزالهم
ألا تحصنني الدروع
وبرزت ليس سوى القمي
ص على الحشا شيء دفوع
ما سرت قط إلى القتا
ل وكان من أملي الرجوع
شيم الألى أنا منهم
والأصل تتبعه الفروع
الفصل الخامس
المنظر الأول «في دار الحسن في غرفة حسون، حسون راقد على سريره مريضا وأبوه أبو الحسن داخل عليه.»
أبو الحسن :
قم يا حسون انهض، إن العناية بلغتك مناك، وشفت بعودك للحياة أباك. (ينتفض حسون من رقدته جالسا)
أبو الحسن :
أوشك يا بني أن أهتدي لموضع بثينة، فهل تساعدني وهل تخف معي لعلنا نجد الكنز الضائع، ونظفر بالأمنية المنشودة.
حسون :
ماذا حدث يا أبي؟ ماذا رأيت أو سمعت حتى امتلأت تفاؤلا واستبشارا؟
أبو الحسن :
أتذكر يا بني خاتم الزمرد الذي كانت تطوف علينا به في سوق الجوهر، سيدة كهلة من وصائف القصر، وهي تبحث عن توأم للفص وتلتمسه فلا تجده؟
حسون :
نعم يا أبي، وأذكر أنها كانت تنسب الخاتم للأميرة بثينة، وتصف رغبة الأميرة في الحصول على فص يكون في حجمه وصفاء لونه وسلامته من العيب، ليكون لها من الجوهرتين قرط عزيز المثال.
أبو الحسن :
فاعلم إذن يا بني أنني كنت منذ حين في سوق الجوهر، فما راعني إلا رجل قوي من قواد المغاربة قد جعل يطوف على التجار يعرض عليهم حلية، فأخذتها عيني فإذا هي خاتم الأميرة بفصه، فتريثت إلى أن كف المساومون وكان آخر ثمن بذل في الخاتم ثلاث مائة دينار، وكان التجار يقولون للرجل لو جئتنا بصنو هذا الحجر لنقدناك فيها الألف أو زدنا. وهنا أومأت إلى الرجل أن يتبعني فتبعني، فانتبذت به ناحية وقلت له: أنا آخذ الخاتم بالثلاث مئة وأزيدك عليها مئة، إن أنت أصدقتني الخبر عن مصدره وكيف وصل إليك ومن أي المعادن التقطته؟ فانبسط الرجل وتهلل وقال: هذه الحلية يا سيدي لجارية من قصر ابن عباد وقعت لي سبية يوم هجومنا على إشبيلية، فنقلتها إلى داري فلم أجد عليها غير هذه الحلية، وكانت في يدها فأخذتها، وأما الجارية فلم أجدها مغنما بل مغرما فإنها سقيمة مستسلمة للأحزان، طعامها قليل، ونومها غرار، ودمعها لا يرقأ حزنا على سادتها. ونحن لا نحب من النساء إلا القويات الصحيحات الأبدان، ولا أكتمك يا سيدي أني بأمر الجارية تعب وبودي لو تخلصت منها. فقلت له: خذ الآن الأربع مئة دينار مباركا لك فيها. واعلم أنني طبيب مولع بالمشاهدة والتجريب، كثير الاعتناء بالمريض البائس، فلو مضيت بي إلى بيتك لعلني أنظر الجارية فأعرف علتها وأصف لها دواءها أو أخفف آلامها. فقمنا فمضينا حتى انتهينا إلى داره، وهناك أدخلني على الجارية المريضة فدنوت منها وقلت لها: عوفيت يا جارية ولا خوف عليك إن شاء الله تعالى.
حسون :
والنونة يا أبت؟
أبو الحسن :
رأيتها يا حسون فوجدتها فوق ما كنت تصف لي لطفا وجمالا. والتفت إلى القائد البربري فقلت له: أوتعطيني هذه الصبية أيضا وأنا أتمها لك خمس مائة؟ فتهلل الرجل وارتاح وقال: خذها يا سيدي وأرحني منها وداوها أنت فعساها تصح على يديك، فنقدته المائة الخامسة وحملت الصبية فوق ذراعي وخرجت بها فركبت جوادي وأركبتها خلفي وانطلقت حتى بلغت الدار.
حسون (صائحا) :
وأين هي يا أبت؟ أتراها هي بنونتها؟ ربي اجعلها هي، وأين تركتها يا أبي؟ وفي أي موضع من الدار؟ (يفتح باب غرفة مجاورة فإذا بثينة من وراء الباب، فيندفع إليها حسون صائحا)
حسون :
بثينة! حبيبتي! أميرتي.
بثينة :
حسون! أخي! صديقي!
أبو الحسن (قاطعا عليهما لذة اللقاء والحديث) :
الآن وقد جمعتك يا أميرة بصديقك وخادمك حسون، أستأذن في الخروج إلى بعض شأني ساعة.
بثينة :
لا يا عم بل ابق، البث، إن وجودك معنا يزيد الموقف بهجة وطيبا.
أبو الحسن :
إن أذنت يا أميرة فإن احتجابي عنكما لن يطول.
حسون :
بل ابق معنا يا أبي.
أبو الحسن :
سأعود يا بني، سأرجع. (ويخرج أبو الحسن.)
حسون (إلى بثينة) :
ماذا أقول يا أميرتي؟ وكيف أقول في هذه الساعة التي هي العمر؟
بثينة :
انظر حسون كيف جعل الله هذا اللقاء الذي لم يكن في الحسبان، عوضا لما فاتنا من نعيم الحياة ومتاعها، حتى كدت أنسى ذلك الملك المنزوع والسلطان الذاهب، وأسلو القصور وضجتها والدولة وأعراسها.
حسون :
وأنا أيضا يا بثينة غفرت هفوات الدهر لهذه الساعة المحسنة الطيبة، وإن لم أخل ولن أخلو ما عشت من تفجع للوطن العزيز، وتوجع لرزئه الجليل.
بثينة (متنهدة بعد انبساط) :
آه من الدهر ماذا صنع! لطف الله بك يا إشبيلية فيما حل عليك من قضائه، وجعل وطأة المغاربة خفيفة عليك وعلى جاراتك من حواضر الأندلس.
حسون (مطرقا متنهدا) :
دهر ببنيه يا بثينة قلب، ودنيا ترتجل العجائب، وملك في السماء يفعل بعباده على الأرض ما يشاء، ولكن بثينة حبيبتي، أميرتي، أحق أننا التقينا في يقظة أم نحن خيالان في رؤيا من الأحلام؟ أتذكرين يا بثينة يوم السوق؟ أتذكرين قرطبة؟ أتذكرين رسالة الضبي؟ لله ما كان أحلاك يومئذ وراء اللثام!
بثينة :
وأنت يا حسون، لله ما كان أجملك وأكملك، وكأنك يومئذ ملك كنت تنتقل في السوق فتخرج من مكتبة وتدخل غيرها، وتدع كتابا وتأخذ كتابا، والكتب حلية الشباب النابه، وجمال الفتوة النابغة.
حسون :
أتذكرين كل ذلك يا بثينة؟
بثينة :
أجل، كل ما كان من حركاتك وسكناتك يومئذ، ومن عباراتك وإشاراتك ما يزال مرتسما في ذهني لم تمحه الشهور، ولا أحسب الموت يمحوه.
حسون (يمد يده إلى ذقنها ويقول) :
بحياتي نونة، كالدرة المكنونة.
بثينة (في شيء من الغضب) :
نح يدك يا ابن أبي الحسن، لا تمدها إلى ما لم تملك بعد.
حسون (في انكسار واستحياء) :
اغفريها للحب وللشوق يا أميرة. شلت يدي إن كنت أضمرت سوءا أو هممت بريبة. (يدخل أبو الحسن)
حسون :
أبي، أبي! لم تبطئ يا أبي؟!
أبو الحسن :
كنت مشغولا يا بني بتهيئة طعام الأميرة.
بثينة :
جزاك الله خيرا يا عم ومد لنا عمرك.
أبو الحسن (يأخذ مجلسه ويقول) :
الحمد لله يا ولدي على هذا التلاقي الذي هو من توفيق الأقدار، فاليوم جمعكما هذا البيت على أثر الكارثة وفي أعقاب النكبة، كما يجمع الشاطئ الغريقين سالمين بالرمق، من انكسار الفلك ومن ثورة الريح وطغيان الماء، لقد تعارفتما بالأمس فنشأت بينكما الألفة وأنست الروح الروح، وانعطف القلب على القلب، وقديما يا أميرة صاهرت الملوك والرعية، وأبوك لطف الله به وبنا جميعا فيما حل علينا من قضائه وقدره، أسمح من سن هذه السنة، فرفع على عرش إشبيلية امرأة من رعاياه هي الرميكية خيرة الملكات، وأم العقائل من البنين والبنات.
بثينة :
أراك يا عم قد بالغت في مؤاساتي حتى أنكرت يد الدهر وما نالت منا، وإلا فأين أبي مني اليوم؟ وأين من أبي ملكه؟ وهل نحن اليوم إلا سوقة نتنصف؟!
أبو الحسن :
هوني عليك يا أميرة! إن أباك لم يخلعه قومه ولكن خلعه المغيرون، فهو في نفوسنا معشر الإشبيليين حاضر الجلالة ماثل المهابة مرتسم الكرامة، يومه كأمسه وغده كيومه، وإن اختلف به اليوم والغد وتصرفت به الأيام. وأنت أيتها الأميرة فما زلت بنت الملك المعتمد ابن عباد، فهل تنزلين إلى القبول بابني هذا حسون زوجا؟
حسون :
وخادما أمينا.
بثينة :
هذا كثير من المجاملة والمواساة يا عم، إن حسونا كفء ويشهد الله أني أحبه وأجله، وكأني بأبي في غياهب سجنه ينظر إليه كما أنظره، ويشعر نحوه بمثل ما أشعر، ولكني كما علمت مفجوعة بأب منكوب، وملك معزول، أخذ فغل، ثم سربل الذل، وبأم ثكلى وإخوة قتلى، وأخوات أميرات يتعذبن من الخلع، ويتكسبن من غزل أيديهن.
حسون :
قد قلت حقا يا أميرة، وأنا لا أتخيل الجميع هناك إلا مشغولين بك فوق منفاهم، يفتشون عن مكانك بعين حيرها الدمع، ويد قصرها العجز، وقدم أعجزها القيد.
بثينة :
إذن فأنت ترى أنه ليس من الحق ولا من البر أن أوجد ولا يعلمون أني وجدت، وأن أتزوج ولا يعلمون كيف وبمن تزوجت، وماذا يقولون إذا هم علموا أني اتخذت من مأتمهم عرسا؟
ابن حيون (يدخل ويقول بعد أن رأى بثينة، مندهشا) :
سيدتي بثينة هنا؟ الأميرة بخير؟ ما أعظم منتك يا رب! (ويحاول تقبيل يد الأميرة فتمنعها منه)
بثينة :
لا تفعل يا عم. أهلا بك يا ابن حيون، وما أعظم سروري بلقائك.
أبو الحسن :
انظر ابن حيون نعمة الله علينا بهذا الكنز الغالي الثمين.
حسون :
انظر ابن حيون كيف رد الله علي راحتي وروحي، وأعاد لي الحياة والآمال.
ابن حيون :
الحمد لله الذي جعلك في حفظه وفي ذمته، والذي ردك إلينا سالمة يا سيدتي، والذي هو قادر على أن يجمعك بأهلك كأمس على جاه الأمور، وفي ظل شاهقة القصور.
بثينة :
لقد رأينا يا عم كيف تنتقل الأمور، وعرفنا كيف تبدل أهلها القصور، وأصبحت لا أطمع من دهري إلا بالعيش في ظل الأمن والخمول، وبين قلب يحنو ونفس تعطف.
ابن حيون :
طيبي إذن يا سيدتي نفسا، إن الذي تشتهين قد اجتمع لك، فالأمن والسكون لا تعدمينهما في جناح من هذه الدار، أو في جنة بعيدة عن الناس من جنات هذا الإقليم، وإني أشهد أن هذا الفتى يحبك، وأنك ملء قلبه ملء نفسه، فاقرني يا سيدتي حياتك بحياته تجدي حقيقة السعادة في ظل الحب المشترك الصحيح.
حسون :
كان هذا حديثنا يا عم قبل حضورك ولكن لم نكن فرغنا منه بعد، وقد رأت الأميرة برا بوالديها وقضاء لحقهما أن يكون زواجنا بعين أبيها وسمعه، وبقبول أمها ورضاها، وكل زواج رضيه الأبوان وارتاحا إليه سيقت فيه البركة وطافت به الرحمة.
ابن حيون :
لقد رأيتم صوابا، واتفقتم على واجب كان لا بد من قضائه، ولا أظن هذا المقترح لقي منك اعتراضا يا أبا الحسن.
أبو الحسن :
معاذ الله يا ابن حيون، ولكن ألا ترى معي أن حسونا والأميرة محتاجان إلى الراحة واسترداد العافية؟
ابن حيون :
أما هذا فنعم، ولم لا يقضي حسون والأميرة هذا الأسبوع في هذه الدار، حتى تثوب إليهما القوة والعافية.
حسون (مقاطعا) :
أتأذن لي يا أبي إن رأيت غير رأيك ورأي ابن حيون؟
أبو الحسن :
تكلم يا بني فأنت حر.
ابن حيون :
الكلام حر في الأندلس يا حسون فتكلم.
حسون :
أرى يا أبي أن نسافر من ليلتنا بل من ساعتنا إلى أغمات منفى الملك.
أبو الحسن :
نسافر؟ نسافر الساعة؟ وأنت والأميرة على هذه الحال من الضعف والسقام!
حسون :
أبي، إني ذكرت الوالدين المنكوبين فخيل إلي أنهما على جمر لا يهدأ من اللوعة، لاحتجاب الأميرة والشك المعذب في مصيرها، وليس ما ذكرتما أنت وابن حيون من ضعفي وضعف الأميرة وأثر السقم والهم فينا إلا حالا لا يلبث الشباب أن يتغلب عليه، فالمروءة تأمرنا جميعا ألا نؤخر الرحيل ساعة، إذ لا معنى للإسعاف إذا هو لم يعجل ولم يأت في أوانه.
ابن حيون :
هو ذاك.
أبو الحسن :
نعم الرأي.
الأميرة :
ليكن كما أشار حسون.
حسون :
إذن فهلم أبي، هلم ابن حيون، هلمي يا أميرة، الساعة نسافر فنقضي الواجب.
الأميرة :
ويقضي الله ما يشاء. (يدخل الغلمان الخدم صائحين)
الغلمان :
سيدي أبا الحسن، سيدي حسون، سيدي ابن حيون، خذوا حذركم، أدركوا الدار.
حسون :
ما يزعجكم أيها الغلمان، وماذا حول الدار؟ إني أسمع ضجة، أما تسمع يا ابن حيون، أما تسمع ضجة يا أبي؟
بثينة :
حول الدار ضجة.
خادم من الغلمان :
أولئك جنود المغاربة يا سيدي.
الثلاثة (بصوت واحد) :
جنود المغاربة حول الدار!؟
الخادم :
أجل، أتوا يسألوننا عن بنت الملك هل رأيناها وهل آويناها، وهم يقولون إنها دخلت الدار منذ ساعة، وإنها طريدة الأمير سيرى بن أبي بكر قائد جيش الفتح.
حسون (مغضبا) :
بل قل جيش الفضح يا غلام، فقد باء الغادرون بفضيحة الأبد.
بثينة :
الآن فهمت يا حسون، الآن أدركت يا عم أن سيرى ابن أبي بكر كان قد خطبني إلى أبي، وكان رسوله يومئذ القاضي ابن أدهم، فلا أبي أجاب، ولا أنا قبلت، ولعله تذكرني اليوم فهو يريد أن يأخذني عنوة.
حسون :
لا والله يا بنت الملك لا تسقط من رأسك شعرة وأنا حي، ساعدي معي وسيفي بيدي مسلول. (وبعد إطراق يستأنف ويقول)
حسون :
لا بأس عليك يا أميرة، ولا علينا يا أبي من طلعة البربر، ولا من اجتماعهم بنا في هذه الحجرة أو غيرها من الدار، ولا خوف علينا من فتشهم ونبشهم.
التاجر :
وكيف يا حسون؟ وماذا اعتزمت أن تصنع لتدفع عنا هذا البلاء؟
حسون (بعد فكرة طويلة) :
اسمع يا أبي، في هذه الغرفة صندوق مملوء من ثياب المغاربة وأسلحتهم، فاتبعوني، ادخلوا من فوركم فاخلعوا ثيابكم هذه وخذوا من الصندوق ما شئتم من ثياب المغاربة وتزيوا بزي القوم ثم نخرج فتختلط بهم أو ندعهم وسبيلهم ونأخذ سبيلا غيره.
ابن حيون :
هو لا شك سبيل الفرار.
حسون (مبتسما) :
هو ذاك يا ابن حيون، السرعة السرعة. (ثم ملتفتا إلى الأميرة)
حسون :
ادخلي يا أميرة، أسرعي، أسرعي، لا يضيعن الوقت، فإن الجنود في طلبنا. (يدخل الأربعة الحجرة ثم يخرجون في الزي المغربي ويكون الجنود قد دخلوا وهم يقولون).
الجنود (داخل المنزل لبعضهم) :
فتشوا، انبشوا.
الأربعة (خارجين قائلين) :
فتشوا، انبشوا. (ويكررون ذلك ثم ينسلون من المكان)
المنظر الثاني «تحت أسوار السجن في أغمات حيث ترى بثينة وحسون وأبو الحسن وابن حيون على مقربة من حارس السجن».
ابن حيون :
ها نحن أولاء شارفنا أغمات، وهذه أيها الرفاق هي القلعة التي شاءت الأقدار أن يسجن فيها الملك العظيم.
حسون :
يا لعجائب القدر! قرية ظلت القرون الطوال مجهولة مغمورة، أصبحت اليوم تسافر إليها الظنون من كل مكان، وتشتغل ممالك العرب بها وبنزيلها العظيم، وتشرف الأسماع لمطالع قوافيه، وينتظر الرواة ما يقول فيه الشعراء من كلمات التوجع ونفثات الحنين!
بثينة (بعد إطراق واستعبار) :
يا لقسوة القدر! أهذا قفص الأسد يا ابن حيون؟ أهاهنا منفى الملائك من عقائل بني عباد؟ تبا لك يا ابن تاشفين، ما كان أبخل جاهك على الكرام، وما كان أكثرك في القيود على الأحرار!
ابن حيون :
صه أيتها الأميرة، فهذا السجان ينظر إلينا، وقد يدخل الريبة في نفسه أن يسمع منك هذا الكلام.
حسون :
كفكفي الدمع يا بثينة وأقلي الجزع، ولا تنسي أن وراء هذه الجدران جروحا من الدهر لم يبق لها بلسم سواك، فكوني المفاجأة الشافية، واطلعي عليها بابتسامتك الحلوة طلوع العافية.
السجان :
من الرجال؟ ما تبتغون؟ متى كان حرم السجن موضع وقوف وهمس؟
حسون :
نحن أيها السجان طائفة من آل الملك السجين وحاشيته، قد هزنا الشوق إلى زيارته والسؤال عن أمره، فادخل فاستأذن لنا عليه.
السجان :
أنسيت أيها الفتى أن هذه القلعة هي من السجون التي يعيرها السلطان اهتمامه. فلا يدخلها داخل إلا بإذنه، ولا يخرج منها خارج إلا بإذنه، فهل بأيديكم جواز يبيح لكم زيارة السجين؟
ابن حيون :
أنت تعلم يا أخي أن مولانا السلطان يعطف على أسيره الكريم.
السجان (متهكما) :
كل العطف يا سيدي.
ابن حيون :
وأنت تعلم أن الملك المعتمد قد رخص له من أول يوم في استصحاب من يشاء من خواصه وذوي قرباه.
السجان :
أعلم هذا أيها السيد.
ابن حيون :
فكر إذن في الأمر قليلا، فليس يضرك أن تدخلنا إلى الملك وتتركنا عنده ساعة، لعلنا نشفى برؤيته وحديثه الشوق والصبابة (ويلقي للحارس صرة ويقول:)
ومع ذلك فإليك هذه الصرة خذها وبلغنا الأرب.
السجان (وهو يضع الصرة في كمه) :
ما هذا أيها السيد؟
ابن حيون :
هذا قد لمسته بيدك، هذا قد سمعت رنينه بأذنك، هذا يا أخي هو الذهب مفتاح الأبواب كلها إلا باب الجنة.
السجان :
هذا كثير يا سيدي.
ابن حيون :
بل هو قليل يا أخي، ولك مثله عند خروجنا من حضرة الملك.
السجان :
لقد سألتموني أمرا صعبا أيها السيد، ومع ذلك ... فما في دخولكم من بأس. تفضلوا يا سادة ادخلوا.
المنظر الثالث «في سجن أغمات حيث يرى ابن عباد بين أمه وزوجه وسائر أولاده وحاشيته، وقد شاعت آية البؤس والتعاسة وجوه الجميع، واليوم يوم عيد، وقد جلس ابن عباد يتلقى تحية العيد وكلهم صامت خاشع».
ابن عباد (مناجيا نفسه) :
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
فساءك العيد في «أغمات» مأسورا
ترى بنات في الأطمار جائعة
يغزلن للناس، ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة
أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية
كأنها لم تطأ مسكا وكافورا
من عاش بعدك في ملك يسر به
فإنما عاش بالأحلام مغرورا
الرميكية (للملك) :
الأميرات بين يديك أيها الملك أتين يهنئنك بالعيد.
الملك :
يا مرحبا بهن ، ولا مرحبا بالعيد ولا أهلا به، عيد! بأية حال عدت يا عيد! اذهب فأنت على السجين حرام.
الملك (لنفسه) :
لكن يا ابن عباد، بعض هذا الجزع، وتجلد رحمة بهذه الحمائم الموثقة، ورفقا بهذه الملائكة المسجونة.
الملك (إلى بناته) :
العيد يا أخوات بثينة، يوم يجمعنا بأختكن.
إحدى الأميرات :
والعيد أيضا أيها الملك يوم يرد الله عليك ملكك، فتدخل إشبيلية عليك التاج مؤتلقا.
أميرة أخرى :
بل العيد يا أبي يوم تدخل الأندلس فتنتقل في ربوعه وممالكه، تنقل الشمس من دار إلى دار.
الملك :
تقبل الله منكن يا عباديات ورحمني.
إحدى الأميرات :
هون عليك يا أبي فلم يدم في النعيم والبؤس قوم.
الملك :
لقد هون الصبر الحوادث عندي يا بنتاه، إلا حادثة أصبح القلب جريحا لا يقوى على حملها.
الأميرة :
وما تلك يا أبتي؟
الملك :
أختك بثينة واحتجابها الذي طال، وانقطاع الأخبار عن مصيرها.
الرميكية :
لا تيأس من رحمة الله أيها الملك، وانتظر فرجا يأتي به فضله وكرمه، فهذا قلبي يحدثني، وقلما كذبت قلوب الأمهات، أن بثينة قد وجدت، وأنها بخير وأمان.
الملك (باكيا متضرعا) :
اللهم اسمع من أمتك الرميكية وتقبل منها وأدخل علينا السرور ولو ساعة، فإن عهدنا به عهد طويل. (الأميرات يتنصتن)
الرميكية :
ضجة؟
أميرة :
حركة!
أخرى :
نقل أقدام!
الملك :
انظري يا رميكية من الداخلون! فإن عيني أصبحت لا تحقق الأشباح.
الرميكية :
سلم الله عينيك يا مولاي وأقرهما بلقاء بثينة. (وفي هذه الأثناء يثب مقلاص إلى الباب ويرجع مع القادمين يقبل ثوب الأميرة بحرارة قائلا:)
مقلاص :
سيدتي بثينة! أميرتي، يا طربا، يا فرحا!
الملك :
رب ما أرحمك! ماذا أرى؟ ماذا أسمع؟ ما هذا الطيب الذكي؟ إني أجد ريح بثينة!
الرميكية :
بشراك يا قلب هذه فلذتك ردت إليك، (وملتفتة إلى الملك)
سيدي، ملكي، انظر كيف استجاب الله لنا، هذه بثينة مقبلة.
الملك :
أجل أيتها الملكة، أقبلت الدنيا وعاد الزمان.
إحدى الأميرات :
بثينة! أختي! ما أعظم إحسانك يا رب!
الملك :
بنيتي، بنيتي، تعالي املئي ذراعي كما كنت تختبئين فيهما طفلة صغيرة. (تنطرح بثينة على صدر والدها)
بثينة :
أبي، سيدي، ملكي، لا بأس عليك يا ملك العرب.
الملك :
ولا عليك يا ابنتي، ثقي بالله وأملي وجهه الكريم.
بثينة :
الصبر منك تعلمناه يا ملك الصابرين.
الملك :
والجدة يا بثينة أنسيتها؟ أما بك إليها شوق؟ أما لها منك قبلة؟
بثينة (وتقوم لجدتها) :
جدتي، سيدتي، ملكتي، شهد الله ما خلا القلب منك ساعة، وما وجدت في مضيق فذكرتك إلا انقلب فضاء، ولا أظن الله سبحانه وتعالى أنقذني من البلاء، وردني إلى أسرتي ورد أسرتي إلي إلا ببركة رضاك، أطال الله عمرك يا جدة. (ثم ترتمي في أحضان العبادية جدتها، وهي محاطة بأخواتها الأميرات تقبلهن ويقبلنها حتى أطردت اللوعة وأخذها أبواها بينهما، وانتظمت من الأسرة الملكية حلقة. وهناك أقبل الملك على ابنته بالحديث فقال:)
الملك :
خبريني كيف اختطفت يا بثينة وما حديث اختفائك؟ حدثينيه ليطمئن قلبي، فقد كان احتجابك في غليان الفتنة، وعند احتدام الفتن يزال المصون ويهون العزيز وتقع الفجاءات.
بثينة :
ولكن الله سلم يا أكرم الآباء.
الملك :
حدثينا إذن حديثك يا بثينة.
بثينة :
حديثي يا أبت عجيب، مخزن سار، مبك مضحك، حافل بعجائب القدر ومدهشات القضاء.
الأميرات :
حدثينا إياه يا أخت أسرعي.
الرميكية :
قصي علينا يا بنتاه قصتك.
الملك :
خبريني يا بثينة.
بثينة :
نظرت إليك يا أبي يوم هجوم المغاربة على إشبيلية، فرأيتك تقاتل وحيدا قليل العون والمساعد، وكأن إشبيلية تحتك العرين، وكأنك الأسد يحمي عرينه شبرا شبرا، فقلت في نفسي: علام تعلمت الضرب بالسيف، وعلام كنت أركض جياد الخيل في سهول الأندلس وحزونه، إذا أنا لم أقض حق وطني، ولم أحم ظهر أبي في هذا اليوم العصيب؟ ثم جعلت على وجهي لثاما وتقلدت سيفا وامتطيت جوادا وخرجت من القصر فلحقت بك، فلم أزل أقاتل بجانبك وأحامي عنك حتى امتدت إلي يد من حديد فاقتلعتني من سرجي، فأغمي علي، ثم انتبهت فإذا أنا في دار رجل من قواد المغرب.
الملك (مغضبا) :
وماذا لقيت من المغربي الخشن؟
بثينة :
لم ألق إلا خيرا يا أبي، فقد كان الرجل دينا وتقيا، أخذ ما علي من الحلي.
الملك :
يا له من دين تقي.
بثينة :
وتركني، فلبثت في داره أياما طريحة الفراش لا أذوق طعاما ولا أطعم رقادا، إلا ما كان من سكرات الحمى، إلى أن سخرت له العناية هذا الشيخ الجليل (وتشير إلى أبي الحسن)
فلم أدر كيف نقلت إلى داره، وهي لا تقل رفعة عن قديم دورنا، ولا تقصر بشاشة نعمة عن زائل قصورنا.
الملك (في قلق وغضب، مشيرا إلى حسون) :
هذا الشاب من يكون يا بثينة؟
بثينة :
هذا حسون ابن هذا الشيخ الجليل، التاجر أبي الحسن، وله عندنا أياد يذكرها مثلك في الكرام، فقد قاتل الثوار في قرطبة مع أخي الظافر رحمة الله عليه، وأبلى في وقعة الزلاقة بلاء كان له خطره وأثره في ذلك الفتح المبين.
ابن حيون (متدخلا في الحديث) :
وقد جرح حسون يومئذ جرحا بليغا فحمل إلى داره، فما بلغها حتى بعث إليك أيها الملك بالصاعقة، ذلك الجواد الأشقر، فركبته والوطيس حام والحرب مجنونة، فكان ميمون الناصية، من صوته نصرت، وفي ركابه غلبت وظهرت.
الملك (مفكرا مهتما) :
الصاعقة؟ فرس الباز بن الأشهب لص الأندلس؟
ابن حيون :
أجل أيها الملك، وقد كان تحتك في وقعة الدهر بين الفرنجة والمسلمين، وكان رابع فرس قدم لك يومئذ وأنت كلما هلك تحتك فرس ركبت غيره.
العبادية :
أعرفت محدثك هذا يا مولاي؟
الملك :
كيف أجهله أو أنساه، هذا ابن حيون الذي زارنا في إشبيلية ونصح لنا فلم نسمع منه، فالحمد لله الذي جمعنا به حتى نستأنف شكر إحسانه.
ابن حيون :
أطال الله بقاءك يا مولاي وأعانك على هذه الشدة، وردك إلى ديارك ورد ديارك إليك.
الملك :
وأنت يا حسون، فقد ذكر لي بلاؤك، ووصفت عندي كثيرا بمحاسن الصفات ومكارم الأخلاق.
حسون :
مد الله حياتك يا مولاي، وظللت برعايته وأمانه.
بثينة :
ائذن لي يا أبي أن أعترف في مجلسك بأني كنت في بعض أيام تنكري أجتمع بهذا الشاب النبيل، فلا أجد إلا أدبا حسنا، وعلما جما وخلقا فاضلا، وشمائل قد لا توجد في أبناء الملوك.
الملك :
أتذكرين يا بثينة كيف كنت معك ضد القاضي ابن أدهم، حين جاء يخطبك للأمير سيرى بن أبي بكر؟
بثينة :
أذكر ذلك يا أبي ولا أنسى لك فضلك ما حييت.
الملك :
اعلمي إذن يا بنية أن الأوان قد آن، وأن الإسلام لا دير فيه ولا رهبانية، وأن السجن قد يحتمله الطفل وقد يطيقه الكهل، ولكنه يرهق الشباب ويزهقه، فلن نرضى لك أن تشاطرينا هذا المنزل الخشن وهذه العيشة الجافية، وإن قلبي ليحدثني بأن ألفة روحية قد انعقدت بينك وبين هذا الشاب النبيل.
حسون (متدخلا) :
أيأذن لي الملك إن عرضت أن قوله الكريم إنما يعرب عما أكن لسيدتي الأميرة من الحب والإجلال، وإني أجد أقصى التشريف وغاية السعادة أن يأذن لي الملك في أن أخطب سيدتي بثينة إليه.
الملك (ملتفتا إلى بثينة) :
وأنت ماذا تقولين يا بثينة؟ (الأميرة تغضي حياء وتسكت)
الملك :
من الصمت كلام.
الملك (إلى أبي الحسن) :
وأنت يا أبا الحسن ماذا ترى؟
أبو الحسن :
ما يرى الملك أفضل، فيما شئت فمرنا يا مولاي.
الملك (إلى الرميكية) :
والملكة ما رأيها؟
الملكة :
قد أمرت يا مولاي بما فيه الخير، جعله الله زواجا مقرونا بالسعادة واليمن.
ابن حيون :
أيأذن الملك لي أنا الآخر بالكلام؟
الملك :
تكلم يا ابن حيون. فقد عرفت مودتك وإخلاصك، وتبينت نصحك واهتمامك، ولو لم يكن من إحسانك إلي وإلى أسرتي إلا تجشم هذه الرحلة من إشبيلية إلى أغمات، لكفى في باب المروءة والوفاء.
ابن حيون :
لا شكر على واجب يا مولاي، وقد طوقتني الساعة منة لا ينزعها من عنقي الموت، بما رسمت من بناء هذا الفتى الماجد الباسل بهذه الأميرة التي لم يلد الملوك أجمل ولا أكمل منها، والآن بقي لي ملتمس أرجو أن يجيبني الملك إليه.
الملك :
اقترح يا ابن حيون تجد ملبيا مجيبا فيما تبلغه قدرة ملك مخلوع. (يخرج ابن حيون جرابا كان قد شده على وسطه ثم يفتحه وينثره عند قدمي الملك فتنتثر اللآلئ واليواقيت).
الملكة :
جواهر!
الأميرات :
لآلئ! يواقيت !
مقلاص :
يا لك من كنز ثمين غال.
الملك (وهو ينحني على الكنز) :
ومن أين لك يا ابن حيون كل هذا المال؟ فمثل هذا الكنز لا يكون إلا ذخيرة ملك وابن ملوك.
ابن حيون :
هو كما تقول يا مولاي. فهذا الكنز كان لملك ووارث ملوك فساقته العناية إلي، واليوم قد هلك أصحابه وبادوا فأصبح لي وحدي أتصرف به كيف أشاء، وبالأمس قومت هذه الجواهر بما يقرب من ألف ألف دينار، وأنا مقسم هذا المال ثلاثة أقسام: ثلث تأخذه أنت يا مولاي فتستعين به على ما أنت فيه من الشدة، وثلث يأخذه حسون وزوجته فيعيشان به رغدا، والثلث الثالث يكون لي ولأبي الحسن التاجر هذا، (مشيرا إلى أبي الحسن)
نؤسس به تجارتنا ونعقد بيننا شركة نتحدى بها تجارات الفرنجة في الأندلس.
أبو الحسن :
الله أكبر! أنت والله هو المغربي الذي دخل على داري، وما كنت يومئذ إلا متنكرا محسنا للتنكر، فأسوت جرحي وحفظت علي داري واستنقذتني من عوادي البؤس والفاقة، والآن ترد علي تجارتي وتشاطرني كرائم مالك، فبأي لسان أؤدي شكر إحسانك!
ابن حيون :
بل اشكر الله يا أخي، فإني لم أعنك بمالي ولكن أعنتك بماله، ولا أجدني صنعت يومئذ إلا واجبا ولا قضيت إلا دينا علي للصداقة القديمة وللود الصحيح.
الملك :
ولكن ما عساي أصنع يا ابن حيون بهذه الثروة، وأنا كما تراني ... صيد في قيد، وأسد في صفد، وحي في قبر، ودنيا في شبر؛ إنها لهبة مشكورة وإن كانت هي والحرمان سواء.
ابن حيون :
لقد أراح الله بالك من هذه الناحية يا مولاي، وأذهب عنك الحزن ... ألا يسرك يا مولاي أن تنتقل من هذه القلعة المظلمة الرطبة إلى منزل بظاهر المدينة جديد البناء، حسن الأثاث، تحيط به الأشجار من كل جانب، فتنزله وقد طرحت هذه القيود فتستقبل الراحة والحرية، وتتمتع بالعزلة التي هام بها العقلاء في كل زمان؟
الملك :
ومن لي بهذا الذي تصف يا ابن حيون؟
ابن حيون :
بل هو أمر قد تم يا مولاي، فقد فرغ من شرائه وتأثيثه وتهيئته لنزولك به في أهلك وعيالك، وأما النقلة فغدا أو بعد غد إن شاء الله.
الملك :
وابن تاشفين؟!
ابن حيون :
هو الذي أمر أن يكون كل ذلك، وقد تذكر كلمتك المشهورة التي سارت مثلا في فم الأندلس، إذ سئلت أي المفزعين أحب إليك: ملك الأسبان أم سلطان المغرب؟ فأجبت: «رعي الجمال ولا رعي الخنازير!» فأمر أن يحمل إليك في المنزل بعيران من نجائب إبله لترعاهما له في خميلة الدار الجديدة.
الملك (في إطراق) :
الآن تذكرت. لقد سئلت مرة في مجلس الحكم إن كان لا بد لي أن أخضع لسلطان أو أدين لملك بالطاعة، فأي الملكين أفضل وأي السلطانين أختار: سلطان المغرب أم ملك الأسبان؟ فأجبت: «أرعى الجمال عند أمير المسلمين، ولا أرعى الخنازير لملك الأسبان» وأظن أن عبارتي هذه نقلت يومذاك إلى ابن تاشفين فأعجبته ووجدها شريفة.
بثينة :
ولكن المكافأة كانت غير شريفة يا أبي.
الملك :
تريدين يا بثينة أن تقولي إن مروءة السلطان لم تزد على أن جعلني راعيا لجماله، بعد ما سلب نعمتي واغتصب ملكي ونفاني أنا وأسرتي في أغمات.
الرميكية :
هذا جهد الرجل في المروءة يا مولاي، وهذه غاية كرمه، فلا تكلفه فوق قدرة باعه، ولا تسأله ما ليس في طباعه.
الملك (لابن حيون) :
ولكن قل لي يا ابن حيون، من أخذ لنا هذا التافه القليل من ذلك السلطان الشحيح؟ ومن ذا الذي اجتهد لنا وصنع كل هذا، حتى غير رأي السلطان، وصرفه عن العنف إلى اللطف؟
بثينة :
هو لا شك ابن حيون يا مولاي.
ابن حيون :
ما اجتهدت ولا صنعت شيئا ولكن المال صنع. (ويشير إلى الجواهر)
الملك :
سنذكر لك هذه الهمة الكبرى يا ابن حيون.
بثينة :
وتلك الهمة الصغرى أتذكرها للسلطان يا مولاي؟ فقد تسمح فنقلك من هذه القلعة إلى دار غيرها في أغمات.
الملك (ويبتسم ابتسامة تهكم) :
أعيش فيها حرا طليقا بين أربعة جدران، وأرعى له فيها الجمال.
بثينة :
أنت الذي رعيت لله في إشبيلية قوما شيدوا حضارة الإسلام، وشعبا عزيزا كريما طالما ناضل دون عرينه، وصبر على عداوة الفرنجة وتألبهم عليه القرون الطوال.
Неизвестная страница