فلم تعد ميمونة تقوى على السكوت وكتمان ما في خاطرها فقالت: «وهل نحن خائفون على حياتنا؟ وحياتك هي العزيزة. إن حياتك عزيزة يا سيدي ... أتظننا لم نسمع حديثك؟ لقد عرفنا مهمتك وفي نفسي من هذا الصندوق شيء أحب الاطلاع عليه.»
فقال: «ربما أطلعتك فيما بعد، وأما الآن فلا بد من الذهاب إلى البيت، إني لم أتعود الفرار.»
فازدادت ميمونة إعجابا به، ولم يروا بدا من إطاعته فقالوا: «نسير جميعا حيثما تشاء ويصيبنا ما يصيبك.»
فمشى وسلم زمام الفرس إلى سلمان، وأراد هذا أن يحمل الصندوق عنه فأبى، ومشت عبادة تتثاقل في خطاها وتبالغ في إظهار عجزها وكذلك سلمان وميمونة، كأنهم مساقون إلى القتل مكرهين، وبهزاد يجاريهم ويتأنى في خطاه.
بين ميمونة وبهزاد
مشت ميمونة مع جدتها وبهزاد وسلمان، وهي سابحة في بحار من الهواجس تراجع ما سمعته ورأته في الطاق، وكلما تصورت مساعي حبيبها في نصرة الفرس اختلج قلبها فرحا، ثم يعترض فرحها ما تخلل أقواله من تلميحه بالذهاب إلى خراسان فتنقبض نفسها، وهي مع ذلك لا تعلم محلها من قلبه.
وقطعوا مسافة الطريق والظلام شامل وهم سكوت يمشون الهوينى، وكل منهم يفكر في أمره ويتشاغل بتحسس الطريق؛ لأن أكثرها وعر. وكلما اقتربوا من البلدة تطلعوا إلى ما عساه أن يكون من أمر أولئك الجند. فلما دخلوا الأسواق استأذن سلمان في المسير أمامهم ليستطلع حال المنزل، فمضى ثم عاد وقال: «لقد جلا الجند عن البيت بعد أن كسروا أبوابه ونهبوا ما فيه.»
فقال بهزاد: «لا يهمني مما في البيت إلا شيء واحد أرجو أن يكونوا قد أبقوه.»
فظنه سلمان يعني كتبه وأوراقه فقال: «إنهم أخذوا الكتب ومزقوا الأوراق.»
فقال: «وهذا لا يهمني.» وظل ماشيا وهم يتبعونه حتى وصلوا إلى المنزل، فرأوا الباب مكسورا فدخلوا منه، وسبقهم سلمان إلى غرفة يعهد فيها مسرجة، فأضاء السراج وعاد ليضيء طريقهم، فرأوا آثار النهب، وظل بهزاد يسير والصندوق بيده وهو يتفرس في الأرض، فمروا في باحة كبيرة فيها كثير من الآثار الدالة على أن البيت بني على أنقاض إيوان سابور، حيث كان المنصور يقيم قبل بناء بغداد، ثم استطرقوا من الباحة إلى باب البيت الداخلي فرأوه مفتوحا فدخلوا وبهزاد يمعن في إظهار عدم اكتراثه بما أصاب بيته من النهب. وبينما هم يسيرون في الدهليز رأوا بهزاد تحول عنهم إلى كوة في جداره الأيمن فتناول منها معولا كان هناك فدفعه إلى سلمان وقال: «احتفظ بهذا.» وبدا البشر في محياه ومشى لا يلتفت إلى شيء حتى دخل غرفة كبيرة في وسط المنزل، في أرضها بساط عليه تراب من أثر المشي وأوراق مبعثرة من أثر النهب، وعلى جوانبها وسائد، فأشار إلى عبادة وميمونة بالجلوس، وأمر سلمان أن يتبعه ودخلا من باب في صدر الغرفة إلى حجرة وأغلقا الباب وتركا السراج في الغرفة.
Неизвестная страница