قال: «ليس أبو مسلم أول شهيد قتله العرب غدرا بعد أن أيد سلطانهم، وسلم الدولة إليهم؟ أترضون أن يذهب دمه هدرا فضلا عن دماء آبائكم؟»
فقال رجل منهم كبير السن جليل الطلعة: «إنك تدعونا إلى أمر عظيم، ولكنك لم تخبرنا من أنت؛ نعم إنك فارسي مثلنا وشريك لنا في هذا الأمر، غير أننا نحب أن نعرف الغرض من مجيئنا إلى هذه الخرائب وقد كنا في غنى عن ذلك بالاجتماع في بيت أحدنا.»
فقال بهزاد: «يعد الناس هذا المكان خرابا وما هو كذلك؛ إنه أثر حي لعظمة دولتنا، وقد عجز المنصور بعد أن غدر بأبي مسلم عن هدمه. إن بقاء هذا الإيوان رمز على بقاء دولة أصحابه؛ فأحببت أن نتعاهد على الانتقام بين جدرانه، وهذا أنو شروان العادل كأنما يرانا ويسمعنا، فإذا تعاهدنا أمام صورته كان عهدنا وثيقا.»
ثم رفع السراج إلى رأس كسرى في الصورة وقال: «انظروا، إنه ينظر إليكم بعينيه نظرة عاتب كأنه يقول: «لقد تقاعدتم عن نصرة أمتكم ورضيتم بالرضوخ لقوم استخدموكم وأذلوكم وقتلوكم غدرا، فكيف تصبرون على الذل وفيكم العظماء والحكماء والقواد، ومنكم رستم وقورش ودارا وسابور وبرويز وأنو شروان وبزر جمهر، وقد حاربتم الإغريق والرومان والهند والصغد وفتحتم بلادهم. كيف يغلبكم على أمركم أعراب كانوا يفدون علينا للاستجداء فننعم عليهم بالطعام واللباس، وكان أحاسنهم من جندنا وموالينا، فتسلطوا عليكم بالسيف، ثم نصرتموهم فقتلوا كباركم غدرا وملكوا رقابكم وأنتم صابرون، ولو لم تصبروا لكنتم الملوك وهم عبيد لكم. ومع هذا أليست مقاليد الأحكام في أيديكم، ومنكم وزراؤهم وقوادهم ورجال العلم والسياسة فيهم؟ فكيف تحنون رقابكم لرجال ما فيهم إلا الضعيف، وإنما غلبوكم بالحيلة والمداجاة. إن الصبر إذا طال أصبح مذلة وعجزا.» هذا خطاب أنو شروان، ولأجله جئت بكم إلى هذا المكان. أما أنا فإذا كنتم من الناقمين لأبي مسلم فاعرفوني؛ إني رسول إخوانكم في خراسان، فما قولكم؟»
وكان بهزاد قد ارتفع صوته ونسي التكتم والتستر وأشرق وجهه حماسة وشهامة؛ فرقص قلب ميمونة فرحا لرؤيته وسماع خطبته، ولكنها ظلت متشوقة لمعرفة ما في الصندوق، وقد فهمت من حديثهم أن فيه رأس رجل مظلوم، فتلهفت لمعرفته.
ولما انتهى بهزاد من كلامه وهو ينظر إلى القوم والسراج في يده، نهض أحدهم وقال: «هل أنت رسول إلينا من إخواننا الخرمية في خراسان؟»
فقال: «إني رسول إليكم منذ بضعة أعوام.»
قالوا: «وما الذي عاقك إلى الآن؟»
قال: «تربصت حتى جاءت الساعة وسنحت الفرصة؛ لأن الأمور مرهونة بأوقاتها؛ فالآن مات الرشيد.؛ ذلك الذي غلبنا بمبادرته وكيده، فقتل كبيرنا وعمدتنا وعرقل مساعينا، أما خليفته فغلام غر همه أكله وشربه و...»
فقطع الرجل كلامه قائلا: «ولكننا أقمنا دولة فارسية أساسها الآن في خراسان، وهذا أخوه المأمون ولي العهد لا يلبث أن يتولى العرش بعده، وهو آلة في يد الفضل بن سهل، وهذا إنما أسلم وتقرب منه رغبة في نصرة الفرس وتطلعا إلى هذه الفرصة؛ فإذا أفضت الخلافة إلى المأمون بلغنا الغرض المطلوب على أيسر سبيل؟»
Неизвестная страница