ونشأ المأمون على احترام دنانير احترام الولد لأمه، وكثيرا ما كان يجالسها في ساعات الفراغ ويباحثها في بعض المسائل ويسر من تعقلها؛ فلما رزق بابنته زينب سلمها إليها وهو على ثقة من أنها تربيها كما يحب. وكانت زينب كثيرة الشبه بأبيها من حيث الرغبة في البحث واستطلاع الأسباب؛ فلم تكن دنانير تدخر وسعا في ترقية مداركها، فشبت وهي تدعوها أمها، نظرا إلى أن أمها كانت متوفاة. وربما أحبتها أكثر من حبها لأبيها لاشتغال المأمون عنها بأموره. على أن الآباء قلما كانوا يعاشرون أبناءهم وإنما يعهدون في تربيتهم إلى الجواري، فربيت زينب تربية فلسفية ونشأت لا تبالي إلا بحقائق الأمور، وطرحت ما كان يتسابق إليه أترابها من اللعب والقصف. وبلاط الخلفاء مسرح واسع لأسباب اللهو يومئذ حتى في القصر المأموني نفسه؛ فقد كان فيه كثير من وسائل اللعب يتمتع بها الجواري والخدم، وزينب لا تميل إلى ذلك ولا تخالط من الخدم غير مربيتها؛ فكانت ألزم لها من ظلها تصاحبها حيثما توجهت؛ فتخرج معها إلى الحديقة لقطف الأزهار، وتعرج إلى بيوت السباع لتشاهدها في أقفاصها والسباعون يقدمون لها الطعام من قطع اللحم الكبيرة. فإذا أعوزها اللهو تشاغلت بالشطرنج، وكانت هذه اللعبة حديثة العهد في بلاط الخلفاء؛ لأن الرشيد أول من لعبها منهم، وكانت دنانير تجيد اللعب بها وربما شغلت بها زينب أحيانا، أو خرجت بها إلى الباب الغربي عند المسناة لتجلسا في روشن أو شرفة تتفرجان من بين الستور على السفن المارة في دجلة. وكثيرا ما يكون الجلوس هناك مطربا لكثرة من يمر من أهل القصف والطرب ومعهم المغنون والعوادون.
فاتفق في اليوم الذي بدأنا فيه روايتنا أن كانت زينب جالسة مع مربيتها في شرفة فوق المسناة تطل على دجلة، وعليها رداء وردي اللون، وفي عنقها عقد من اللؤلؤ أهداه إليها جدها الرشيد قبل سفره. ودار بينهما الحديث في مسألة تتعلق بالطوالع والأبراج، وأشكل فهمها حتى على دنانير فقالت: «إن هذه المسألة من المسائل العويصة، فمتى جاء طبيبنا سألناه عنها.»
فقالت زينب: «وهل يفهم الأطباء النجوم؟»
قالت: «يغلب في الطبيب أن يعرف كل علم، ولا سيما أطباء الفرس، وطبيبنا على الأخص؛ فإنه من نوابغ الفلاسفة وقهارمة الأطباء، و... و...»
فضحكت زينب ملء فيها ضحكة فتاة لا تعرف من الدنيا غير أسباب المسرات، وقالت والاستغراب باد في عينيها: «إذن هو أعلم منك؟» قالت ذلك لاعتقادها أن مربيتها أعلم أهل الأرض. وذلك شأن الناس فيمن يشبون في حجره أو يتلقون العلم عنه؛ فالأولاد يعتقدون الكمال في آبائهم أو مربيتهم، ويتوهمون أن معلميهم من كبار الفلاسفة ولو كانوا أجهل من قاضي جبل. فيروون عنهم ويستشهدون بأقوالهم ويعظمون من أمرهم، فإذا كان المعلم صغير العقل صدق تلميذه وظن في نفسه التفوق على العلماء والحكماء، وقد يكون علمه محصورا في مبادئ الصرف والنحو فيتوهم أنه لا يشق له غبار فيزداد غرورا.
وكانت دنانير تعلم حقيقة منزلتها، فلما سمعت زينب تطري علمها ابتسمت وقالت: «إني يا سيدتي لا أعرف شيئا، وإنما التقطت بعض المسائل من أفواه العلماء. وأما هذا الطبيب فقد تفقه في الطب والفلسفة في مدرسة «جندي سابور» المشهورة التي تخرج فيها ابن بختيشوع طبيب أمير المؤمنين. ولكنه أعلم منه بأمور كثيرة، ولا سيما بالكيمياء والنجامة، ولولا ذلك لم يهتم الفضل بن سهل بأمره حتى وصى مولاي المأمون به.»
فقطعت زينب كلامها وقالت: «الفضل بن سهل أوصى به؟ ومتى كان ذلك؟ أليس الفضل مع أبي الآن في خراسان.»
قالت: «بلى، هما معا هناك، ولكن هذا الطبيب جاءنا منذ بضع سنين بتوصية من الفضل بن سهل ذكر فيها أنه نابغة خراسان في الطب والعلم، حتى إنك لترين ذلك ظاهرا في وجهه.»
فقالت: «فلماذا لا يقيم عندنا دائما؟ هل منعه أبي من ذلك؟»
قالت: «كلا، ولكنه اعتذر لمولاي المأمون يوم مجيئه من أنه لا يستطيع الإقامة عندنا لأسباب ذكرها له.»
Неизвестная страница