قضى بهزاد مدة طويلة على هذه الحال حتى اشتد الحصار وبلغه حديث الناس عن الأمين، فتوقع قرب استسلامه. وفيما هو ذات ليلة في منزل أحد الخرمية بالكرخ وقد انتصف الليل ونزع ثيابه وعلق سلاحه فوق رأسه ونام، جاءه أحد الغلمان ينبئه بقدوم سلمان، فعلم أنه لا يأتيه في مثل ذلك الوقت إلا لأمر مهم، فنهض وأمر بإدخاله، فدخل سلمان وعليه ثياب لا هي لرئيس المنجمين ولا للخادم سلمان، ودلائل التعب بادية في وجهه، فصاح فيه: «ما وراءك يا سلمان.»
قال: «أبشر بالنصر.»
قال: «إني مستبشر به وواثق من الحصول عليه، ولكن ماذا حدث؟»
فقص عليه الحديث كله إلى أن قال: «فالأمين الآن مختبئ في بيت لبعض الناس على الجانب الشرقي، وقد تركته عريان وليس عليه من الثياب إلا السراويل والعمامة وعلى كتفيه خرقة خلقة، ومعه أحمد بن سلام صاحب المظالم لأنه لقيه في فراره عرضا. وسمعت الأمين يسأله عن اسمه، فلما عرفه استأنس به وقال له: «ضمني إليك فإني أجد وحشة شديدة.» فضمه إليه وكانت عنده مبطنة ألقاها عليه، ثم سمعته يقول له: «يا أحمد ما فعل أخي؟» فقال له: «هو حي.» فقال: «قبح الله بريدهم، كان يقول قد مات.» وأنا واثق بعلمه أنه حي، ولكنه ما قال هذا إلا استرضاء واعتذارا. فأجابه ابن سلام: «قبح الله وزراءك.» وسمعته يقول: «وما تراهم يصنعون بي، أيقتلونني أم يفون لي بأمانهم؟» فقال له: «بل يفون لك.» وقد كذب فأله.» وتنحنح سلمان، فأدرك بهزاد غرضه من ذلك فقال: «ماذا تعني يا سلمان؟ أترى أن ننكث عهد الأمان؟»
قال: «وهل تريد أن يبقى هذا الرجل حيا؟ فإذا حمل إلى أخيه وقع الصلح فيذهب سعينا عبثا؟ لماذا حملت هذا الخنجر معك من خراسان؟ ألم تذكر أنك نذرت أن تنتقم به لأبي مسلم وجعفر؟ فكيف تنتقم لهما؟ ها قد سنحت لك الفرصة والرجل في قبضة يدنا وفي قتله ختام فوزنا. أنتركه يفلت منا؟»
قال بهزاد: «أنت تعلم أني أول ناقم على هذه الدولة، وقد كرست حياتي لمناهضتها ونجحت في مسعاي والحمد لله. وأقصى رغبتي أن أقتل هذا الخليفة بيدي وبخنجري لأضيف رأسه إلى الرأسين اللذين تركتهما في مرو. نعم أريد أن أقتله في ساحة الوغى، أقتله متقلدا سلاحه بالمبارزة وليس غدرا وخلسة وهو أعزل خائف دخل في أماننا. أننكث ونحن إنما نقمنا على هذه الدولة لأنها نكثت العهود وغدرت ببعض رجالنا؟ والغادر تعود عاقبة غدره عليه.» قال ذلك وبانت الحماسة في عينيه. فتكدر سلمان من هذه الأريحية لأنه لم يكن يفهم مغزاها، وإنما هو رجل ماكر داهية يهمه تنفيذ مآربه لا يبالي ما يعترضه ولا يهمه ما يأتيه في سبيل ذلك من أساليب الكذب والمكر والغدر، لا يخاف ضميرا ولا يرعى ذماما؛ ولذلك اختاره صاحب الأمر بخراسان للعمل الذي تقتضيه هذه الخصال، على خلاف بهزاد؛ فإنه رئيس شريف وكل أعماله تؤيد ما طبع عليه من الأريحية وصدق اللهجة والبسالة .
فلما سمع سلمان إباءه لم يستغربه، ولكنه ندم على تكليفه ذلك وتظاهر بأنه اقتنع وقال: «صدقت يا بهزاد، بورك في بطن حملك.» وتناعس فنام ونام بهزاد وهو يفكر فيما انتهت إليه هذه المهمة وما عساه أن ينجم عنها. وبينا هو في رقاده في أواخر الليل إذ سمع خربشة فاستيقظ وفتح عينيه فرأى شبحا واقفا بجانب فراشه وهو يتطاول إلى الحائط، فنهض والتفت ولم يذعره ذلك وقال: «من هذا؟»
فرأى شيئا وقع من يد الرجل على الفراش فتوسمه فإذا هو خنجره والرجل سلمان، فقال: «ماذا تفعل يا سلمان؟»
قال: «لا أفعل شيئا، وقد فعلت ما أريده، وهذا خنجرك خذه.»
فمد يده إلى الخنجر فرأى عليه أثر الدم فقال: «ماذا فعلت؟ هل قتلت الرجل؟»
Неизвестная страница