قالت: «إذا استفحل الأمر بين الأخوين فعلى الفرس أن ينصروا المأمون فينصرهم ويرعى حقهم، ولكنهم إذا أرادوا بعد ذلك أن يتخلصوا من المأمون، ليستأثروا بالسلطان لأنفسهم بلا خلافة، فلا شك في أن سعيهم يذهب عبثا؛ لأن العامة لا يحكمون إلا بالدين.»
قال: «ولكن معنا خليفة هو المأمون نحكم الناس به.»
قالت: «وهل يخلد المأمون؟ إنه إذا مات انتقل الأمر إلى بعض أهله، وقد يكون خليفته راضيا عنا وقد يكون ناقما علينا، كما كان الرشيد، فينتقم منا شر انتقام!»
فوقع قولها من نفسه موقعا عظيما، وأعجب بدهائها وتذكر ما دار بينه وبين كبار الخرمية ليلة الإيوان في المدائن وقال: «وما الرأي إذن؟»
قالت: «الرأي أن تهيئوا منذ الآن مستقبلا ثابتا لأعقابكم. فإذا لم يكن بد من وجود خليفة عربي، فالعلويون أقرب مودة لنا من سائر العرب؛ فاشترطوا على المأمون إذا نصرتموه أن يجعل الخلافة بعده لبعض العلويين (الشيعة) فيتم لكم ما تريدون. فاعرض هذا الرأي على الفضل بن سهل، وانظر ماذا يرى.»
فلما سمع نصيحتها هم بيدها فقبلها، واستأذنها في الذهاب إلى الفضل ليطلعه على كتاب سلمان ويباحثه في الأمر. ثم خرج وتوجه إلى القصر فبلغه عند الضحى، ودخل دون أن يعترضه الحاجب لعلمه بمنزلته عند مولاه، فمر في الحديقة وسار توا إلى مجلس الفضل وأخيه وكانا يقيمان معا بذلك القصر فرأى في طريقه قبة وسط الحديقة، يقف ببابها غلام، فأيقن أن الفضل جالس تحتها، واتجه إليها محاولا الدخول، فإذا بفتاة خارجة منها في غير كلفة؛ لأنه لا تعلم بوجود أحد غريب هناك، فوقف بهزاد ذاهلا ووقع نظرها عليه فأجفلت وبدت البغتة في محياها وتوردت وجنتاها خجلا، ووقفت لحظة كأنها صنم لا يتحرك، وارتبكت في أمرها لا تدري؛ أترجع إلى القبة وفي رجوعها ضعف؟ أو تقابل القادم وتحييه؟
وكانت بملابس البيت، وعلى رأسها نقاب خفيف إذا أسدلته على وجهها لم يغط إلا بعضه، فلما وقع نظر بهزاد عليها أعجب برونق جمالها وإشراق محياها وبريق عينيها بما يتجلى فيهما من الذكاء والحياء؛ فخجل لما سببه لها عفوا من الانزعاج، وابتدرها قائلا: «العفو يا مولاتي، أظنني أزعجتك؟ وإنني أريد مولانا الفضل وقد حسبته في هذه القبة على عادته.»
فقالت وهي تنظر إليه نظر السذاجة وصفاء النية: «إن عمي الفضل خرج مع أبي هذا الصباح للاجتماع بالمأمون، وليس في قدومك أي إزعاج، وإذا صدق ظني فأنت صديقهما بهزاد!» وسكتت كأنها تنتظر جوابه فابتدرها قائلا: «نعم يا سيدتي، يسمونني بهزاد.»
فقالت: «إن والدي وعمي معجبان بك، ولو كانا هنا لفرحا بقدومك. اجلس إذا شئت.»
فأعجب بهزاد بظرف الفتاة وذكائها على صغر سنها، وعلم أنها بوران بنت الحسن بن سهل، وتذكر تلميح عمها في شأنها فرأى أنها جديرة بأفضل الرجال، ولو لم يكن قلبه مشغولا لكانت نصيبا حسنا. فأجابها بقوله: «أشكرك يا سيدتي على تلطفك، وكنت أود البقاء هنا ولكني أراني مضطرا إلى الذهاب إلى مجلس المأمون أيضا.» قال ذلك وتحول يطلب قصر المأمون، وهو قصر الإمارة؛ لأن المأمون كان يومئذ أميرا على خراسان.
Неизвестная страница