وكانت عبادة تسمع كلام زبيدة مطرقة، فلما انتهت قالت لها: «إنما جئت الآن يا مولاتي مستعطفة، فإنك والدة وتعرفين انعطاف الوالدات، وقد صرت جدة وتعرفين انعطاف الجدات.»
فقطعت كلامها وقالت: «لشد ما أبطأ حنو الوالدة والجدة؟ أين كان ذلك الحنو لما أراد ابنك المقتول أن يخلع ابني من ولاية العهد ليجعلها لابن مراجل.» تعني المأمون.
فقالت وقد جاشت أحزانها في صدرها وكاد الكظم يخنقها: «قلت لك يا مولاتي إنما جئتك مستعطفة، ولا أستعطفك بحسنة أتيتها وإنما أتقدم إليك مستشفعة بصاحب هذه الآثار.» وأخرجت حق الزمرد ومفتاحه الذهب من جيبها، ونهضت ومدت يدها نحوها لتعطيها إياه. فتباطأت زبيدة في تناوله مبالغة في الازدراء، تاركة يد عبادة ممدودة كأنها سائل يستعطي. وأخيرا قالت لها زبيدة: «وما الذي يحويه من الآثار؟»
فأخذت عبادة تعالجه بالمفتاح ويداها ترتعشان من ضعف الشيخوخة وشدة التأثر، وتقدمت به إلى زبيدة، فإذا في الحق خصلة من شعر زوجها وبضع أسنان من أسنانه وقد فاحت منها رائحة المسك، فقالت: «ما هذا الشعر والأسنان؟»
قالت: «إنها شعر مولانا الرشيد وأسنان طفولته. ألم أكن ظئره؟ ألم أرضعه؟ ألم يكن يدعوني أم الرشيد؟ بهذه الآثار أتوسل إليك أن تسمعي شكواي وترحمي ضعفي، ليس من أجلي أنا، بل من أجل فتاة بريئة من كل ذنب، وكانت في عهد تلك الأحداث طفلة ناشئة في مهاد الرغد والرخاء، وهي الآن يتيمة طريدة لا ملجأ لها ولا نصير، وحياتها أو موتها بين شفتيك. بالله اعطفي عليها بكلمة تنقذها من الموت.» قالت ذلك وشرقت بدموعها وناهيك بعجوز تبكي وتستعطف.
فلما سمعت زبيدة كلامها ورأت ثنايا زوجها وشعره كاد الحنو يغلب على عواطفها، فسكتت هنيهة وعبادة تراقب حركاتها ولم تشك في أنها أصغت إلى ندائها.
على أن زبيدة أغلقت الحق وقالت لها: «ألم تتقدمي بهذه الآثار إلى الرشيد في حياته؟»
قالت: «بلى، فعلت.»
قالت: «ولماذا تقدمت بها إليه؟»
قالت: «تقدمت إليه بها ليعفو عن زوجي يحيى.»
Неизвестная страница