فعاد الشاكري ومكثت هي في انتظاره وقد سرها أن تتقدم إلى زبيدة بهذا الاسم فلعله يكون فألا حسنا. وما عتم الشاكري أن عاد وهو يقول: «تفضلي يا خالة، ادخلي.»
فدخلت في أثر الشاكري وهي تتوكأ على عكازها حتى تجاوزت الحديقة إلى باب القصر، ونزعت نعالها ودخلت في الدهليز فانتهت منه إلى غرف يستطرق بعضها إلى بعض، والجواري المقدودات يخطرن بين يديها وهن ينظرن إليها ويعجبن من حالها. أما هي فظلت تمشي مطرقة حتى وصلت إلى قاعة كبيرة فاحت منها رائحة الطيب، فلما أطلت على القاعة رأت سقفها قبة مصنوعة من خشب الصندل، مكسوة بالوشي والسمور وأنواع الحرير بألوانه الزاهية، ويتدلى على جدرانها ستائر مطرزة بأبيات من الشعر، معلقة بكلاليب من الذهب. وفي أرض الغرفة بساط واحد من السجاد الثمين عليه من الوسائد والكراسي ما يبهر النظر ولكنه لم يبهر عبادة؛ لأنها ألفت مثله في قصر ابنها أيام نعيمها وإقبال سعدها، وإنما كان همها اليوم أن تنال رضى زبيدة لتنقذ حفيدتها.
فلما وصلت إلى الباب رأت زبيدة في صدر القاعة متكئة على وسادة من الحرير الموشى فوق سرير من الآبنوس المرصع، فتركت عصاها خارجا وألقت التحية باحترام ونظرت إلى زبيدة ووقفت تنتظر أمرها بالدخول أو الجلوس. وكانت زبيدة مرتدية ثوبا سماوي اللون يأخذ بالأبصار، وقد تعصبت بعصابة مرصعة بشكل الطاوس من الحجارة الكريمة على غير عادتها، كأنها فعلت ذلك لتزيد في النكاية بعبادة المسكينة. فظلت هذه واقفة وزبيدة تلهو بجام من العاج فيه فتات المسك، وتساقط بعضه فأخذت في التقاطه فظنت عبادة أنها لم تنتبه إليها وسعلت، فرفعت زبيدة بصرها إليها شزرا وقالت: «من هذا؟»
فاستأنست بالسؤال ومشت نحوها وقالت: «أمتك عبادة.» ولما وصلت إلى وسط القاعة نظرت إليها زبيدة وقلبت شفتها السفلى ورفعت حاجبيها استخفافا وقالت: «عبادة؟ قيل لي إن أم الرشيد تطلب الدخول علي؟»
قالت: «هي نفسها جاريتك يا مولاتي. انظري إلى وجهي فعسى شحوبه لا ينسيك صاحبته.»
فضحكت زبيدة وقالت: «عرفتك يا عبادة! ألا تزالين على قيد الحياة؟»
فاستغلظت عبادة هذا السؤال لما فيه من الاحتقار، ولكنها كظمت وقالت: «نعم، لا أزال حية لسوء حظي.»
فقهقهت زبيدة وقالت: «ذلك جزاء العقوق يا عبادة، اجلسي.»
فجلست وهي ترتجف من الغيظ وندمت على مجيئها، ولكنها تذكرت ميمونة وأنها جاءت لإنقاذها فهان عليها الأمر وقالت: «لم أنكر جميلا يا مولاتي، ولكن لله الأمر، يفعل ما يشاء.»
قالت: «صدقت، لله الأمر، وهو يجزي كل نفس بما قدمت. أرأيت عاقبة سعيك وسعي زوجك وأولادك في نزع الخلافة منا؟ أرأيت عاقبة الغدر؟ أرأيت عاقبة الجرأة على مولاكم؟ أرأيت كيف رد الله كيدكم في نحركم؟ لقد كنت أحسبك قضيت كمدا من الثكل، فإذا أنت حية تسعين!»
Неизвестная страница