Амин Хули и философские аспекты обновления
أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد
Жанры
مقدمة
الباب الأول
1 - أمين الخولي ورسالة التطور في الفكر الديني
2 - في الآفاق الفلسفية للتفسير
الباب الثاني
3 - حوار مع الفكر المتطرف
4 - التفكير العلمي
5 - قتل القديم بحثا
6 - أول التجديد
مقدمة
Неизвестная страница
الباب الأول
1 - أمين الخولي ورسالة التطور في الفكر الديني
2 - في الآفاق الفلسفية للتفسير
الباب الثاني
3 - حوار مع الفكر المتطرف
4 - التفكير العلمي
5 - قتل القديم بحثا
6 - أول التجديد
أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد
أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد
Неизвестная страница
تأليف
أ.د. يمنى طريف الخولي
الشيخ المجدد أمين الخولي (مايو 1895-مارس 1966).
أول التجديد قتل القديم بحثا وفهما ودراسة.
أمين الخولي
مقدمة
سيرة شبه ذاتية
منذ مطلع النهضة العربية الحديثة مع بدايات القرن التاسع عشر ونحن ندرك جيدا أن التجديد يكاد يكون فرض عين على المعنيين بالفكر فينا. والمقصود بالتجديد البحث في بعث وتحديث وتنهيض وتنمية معاملات أصالتنا، أو بمصطلح أفضل وأكثر حيوية وحركية وتطورية نقول: تحديث معاملات خصوصيتنا الحضارية.
وعلى مدار القرن العشرين كان فرض التجديد يزداد وجوبا وإلحاحا؛ لمواجهة المستعمر ورياح التغريب العاتية، ثم لتوطيد وتدعيم الثورات القومية وحركات التحرر الوطني التي أينعت وازدهرت مع بدايات النصف الثاني من القرن العشرين. إنها نفس الحقبة التي شهدت أخطر تحدياتنا الحضارية طرا، وأكثرها وبالا، غرس العدو الصهيوني في قلب الوطن العربي معززا ومدعما بتأييد الحضارة الغربية التي تملك عناصر القوة والتقدم والعلم والحداثة، ومدعما بنموذجها الحضاري ذاته، ليزداد فرض التجديد إلحاحا، لا سيما بعد أن حططنا السلاح وسلكنا طريق المفاوضات والمواجهة المباشرة. ثم يشهد العقد الأخير طوفان العولمة يندفع مهددا باكتساح كل الخصوصيات الحضارية، فيفقد العالم الإنساني ثراءه وتنوعه وتعدديته، ولا يبقى إلا النموذج الغربي الأمريكي. وفي مواجهة العولمة يغدو فرض التجديد أكثر وجوبا من كل ما سبق. هكذا فرض القرن العشرون قضية التجديد علينا، فرضا متواترا يزداد إلحاحا. وها هو ذا القرن ينصرف عنا ويودعنا ليكون مثمرا أن نلقي نظرات شمولية عامة لتقييم وسبر حصائله، وحصائل الأعلام الذين ساهموا في توجهاته الكبرى.
ومن منطلق الإحساس بخطورة قضية التجديد في حضارتنا لكي تتواصل فيها عوامل النماء ، والتقدم والازدهار، دون أن تتماوه حدودها وتتميع شخصيتها، دون أن تتحول إلى ظل باهت للآخر الغربي وتندثر خصوصياتها بحرائر العلم الأمريكي ونجومه الزاهية. من هذا المنطلق يتقدم الكتاب بمحاولة لتعيين الأبعاد الفلسفية العميقة، وأيضا تطويرها وتفعيلها عند واحد من رواد التجديد في النصف الأول من القرن العشرين، وهو الشيخ أمين الخولي، فتتكشف أمامنا آفاق فلسفية رحيبة يمتد إليها إسهامه الفكري. •••
Неизвестная страница
ومع هذا يبدو من الملائم طرح صورة عامة للإطار الخاص الذي تخلقت فيه سطور هذا الكتاب.
فقد كان لدي بطبيعة الحال تصوري لأمين الخولي، كإنسان فذ الشخصية، وكعالم لغوي لا يشق له غبار، وكأستاذ من جيل الرواد الذين اضطلعوا بعبء تمصير الجامعة، وكمفكر هو واحد من التجديديين العظام. وكنت طبعا قد قرأت له وعنه بعض الشيء، في إطار قراءاتي الغزيرة المتنوعة، وقد دربني عليها أبي الطبيب النطاسي - رحمه الله وأكرم مثواه بقدر ما ملك من كريم الشمائل - وعلمني كيف أقتنص رحيق الحياة وآفاق الثراء الباذخ من صفحات الكتب. ومنذ بواكير الصبا لا يمر علي يوم دون أن أفتح كتابا.
وأعترف بأنني لم أكن أتوقف إزاء قضية التجديد ومجدديه وضرورته الحضارية، وأبعاده الفلسفية وتشغيلها في منظومتنا الثقافية، لم أكن لأتوقف بإزاء هذا منذ البداية وحتى لقائي الحقيقي الواعد بأمين الخولي.
بداية، واصلت تفوقي الدراسي، وكنت من أوائل الثانوية العامة، وتحت تأثير الافتتان بعالم الثقافة والفكر والفلسفة التحقت بكلية الآداب العريقة التي تعتز كثيرا بأمين الخولي في الصف الأول من روادها، حين كان تاريخ النهضة العربية وقيم الحرية والاستقلال وتحديث العقل العربي، يسجل من قاعاتها الأثيرة ذات العطاء الجزل للأمة.
بيد أنني تخصصت في واحد من أحدث فروع الفلسفة: فلسفة العلم، التي تفلسف ظاهرة العلم الحديث فتبحث في منهجه ومنطقه وخصائص المعرفة العلمية وشروطها وطبائع تقدمها وكيفياته وعوامله ... على الإجمال، التفكير في الإبستمولوجيا؛ أي في نظرية للمعرفة العلمية، ثم العلاقة بينها وبين المتغيرات المعرفية الأخرى، والعوامل الحضارية المختلفة. هكذا تتقدم فلسفة العلم بوصفها تقنينا لأصلاب أشد عناصر الحضارة الغربية إيجابية وفاعلية واتقادا ؛ أي العلم الحديث.
وحين كنت - ولا أزال - أبذل قصارى العزم في تمثل فلسفة العلوم واستيعابها ونقلها للمكتبة العربية بأفضل ما أستطيعه، كنت أحسب في هذا - بما يحمله من مقولات للتحديث والعقلنة والتقدم المطرد - ردا لدين ماء النيل على شراييني وخلاياي، وتعبيرا كافيا عن التزامي إزاء الثقافة العربية، التي أراها دائما تمثيلا لوحدة حضارية واحدة أبقى من كل متغيرات السياسة وألاعيبها وترهاتها. هكذا انصرفت بمجامع نفسي وتفكيري إلى الفلسفة الغربية وميراث الحضارة الغربية وأصول العلم الغربي الحديث، وعوامل نشأته وتناميه وتقدمه المطرد في الحضارة الغربية. وكنت في حالة تصالح تام مع نموذجها الثقافي الذي بدا لي خيار التقدم المطروح وليحاكيه من شاء تقدما، خصوصا بعد أن انتهى الاستعمار واجتثت ثورة يوليو المباركة جذوره. وزاد من هذا التصالح أنني قضيت شطرا من طفولتي في أوروبا، وتفتحت عيناي على ظلالها الوارفة وتلقيت تعليما في مدارسها ورأيت قطوفها الدانية رؤية العين، وترددت عليها فيما بعد. زادني هذا انكبابا على إيجابيات الثقافة الغربية، فاستقطرت مني صدر الشباب، واندفاعته المتحمسة، عشر سنوات أو يزيد وأنا غارقة حتى الأذنين في الفكر الغربي، ولا ألتفت إلى واقعي، إلى الأنا، إلى الذات، إلى موطئ القدم الذي قدر له أن يواجه المحن تلو المحن. وكانت المحصلة أن أنشغل فقط بإشكاليات مطروحة في الفكر الغربي، وأعرف عن الحضارة الغربية ومسارها وأعلامها أضعاف أضعاف ما أعرفه عن الحضارة العربية، وأدرس من نصوصها كل ما أستطيعه بينما لا أتعامل مع نصوص التراث العربي إلا لماما، وبقدر ما يفيد كهوامش لفكرة أعالجها في التراث الغربي. من هنا خرجت كل أبحاثي وأعمالي، بل ومقالاتي حتى نهاية الثمانينات، وكل سطورها محصورة حصرا داخل أطر الفكر الغربي، ولا تكاد تتمايز عنه إلا في أنها مكتوبة باللغة العربية!
حتى كان مطلع التسعينيات والهيئة العامة للكتاب مضطلعة بإصدار مجموعة الأعمال الكاملة لأمين الخولي، ووجدتني متورطة في هذا، ولم ألق مفرا. انشغلت في عملية تجميع الأصول وإعدادها للنشر، ومراجعة مستنسخات الطباعة، وكتابة نبذة الغلاف، وما إليه. وكما هو معروف، مراجعة المستنسخات أسخف شيء، ولعلها الفصل الوحيد السخيف المضجر في تجربة التأليف التي تظل بكل المقاييس أروع التجارب الإنسانية طرا. لكن مراجعة المستنسخات هنا كانت بالنسبة لي فتحا مبينا. لقد قرأت بدقة - وبعيون أصبحت مدربة - كل أعمال أمين الخولي، وأذكر على وجه التحديد كتابيه «المجددون في الإسلام» و«مناهج تجديد»، وأيضا مجموعة محاضرات مخطوطة غير منشورة، كانت في مكتبة أبي تحت عنوان «كتاب الخير»، وهي محاضرات في تاريخ فلسفة الأخلاق من الفكر الشرقي القديم حتى العصر الحديث، ألقاها أمين الخولي في أعقاب عودته من ألمانيا عام 1927. وفي هذه المحاضرات يدافع الخولي ببسالة عن نظرية التطور لتشارلز دارون، والفلسفة التطورية مع هربرت سبنسر وليزلي ستيفن وأمثالهما! وقد قدمت «كتاب الخير» إلى المجلس الأعلى للثقافة، لتنشره مطبعة دار الكتب لأول مرة عام 1996، في إطار أعمال الندوة التي أقامها المجلس «أمين الخولي: الأصالة والتجديد» في أبريل من ذلك العام. وخرج «كتاب الخير» مصحوبا بدراسة كتبتها كتقديم له، يتضمنها هذا الكتاب أيضا
الفصل الأول
بعد إضافة وتنقيح. «المجددون في الإسلام» و«مناهج تجديد» و«كتاب الخير» فعلت بي فعلة أمين الخولي بتلامذته، ومن يقترب من الجذوة المضرمة في عقليته وفي أسلوبه لطرح الأفكار القادر على تثوير كل خلجة بعقل المتلقي، في خضم وابل من المنهجية والرصانة والدقة والعمق والاستنارة التي تفيض بها أعمال الخولي. وأنا أتتبع أمين الخولي في جولاته بأنحاء التراث وصولاته لتجديده، كنت أستجمع فرائد كنز مذخور من الأصول المنهجية للنظرة الحضارية التي لا تنفصل أبدا عن ذاتها وعن تراثها، ما دامت تراه قابلا للتجديد والتطوير. وأدركت كم كان بصري حسيرا.
وكانت تلك فاتحة لسلسلة من الزلازل والتوابع سوف تتصدع لها ثوابت في عقليتي وفي منظوري وأسلوبي للتفكير. لقد تزامن معها كارثة الخليج الكابية التي اهتزت لها الأركان وتبعها ما سمي بالنظام العالمي الجديد - إثر الانهيار المدوي للاتحاد السوفيتي - ليعني تنظيم العالم وفقا لقيم ومصالح أمريكا، ولماذا لا نقول؛ وأيضا مصالح إسرائيل؟! تدفق طوفان الحيرة من عيون ابني وطلابي، توالت تساؤلاتهم القلقة الموجعة ، وقد فجرتها أزمة الخليج التي اختلط فيها العدو بالصديق بالشقيق: ما القومية؟ ما العروبة؟ ما الوطن؟ من نحن؟ هل ستبقى هذه الأمة؟ هل انتهى عصر الاستعمار؟ أيهما أقسى: الاستعمار الأوروبي البائد أم الاستعمار الأمريكي الراهن المجلوب جلبا؟
Неизвестная страница
وفي الإجابة على هذا لم أكن أملك إلا وقد اللهيب وحمم البركان بين ضلوعي، ما دمت أؤمن دائما بأن القومية العربية أشد حقيقية من الهواء الذي نتنفسه معا، ومن التاريخ الذي عشناه معا والكتاب الذي نقرؤه معا، وقيم الحياء الجميل، ولهفة الأمومة، ومنزلة الأخ الأكبر، والانتماء للأسرة، التي نحياها معا، والفيلم المصري الذي نشاهده معا، والأغنية التي نستمع إليها معا والشعر العربي الذي نردده معا ...
وكأن الله شاء أن يزداد الجرح القومي في النفس إيلاما، فأحصل في عام الطوفان وكوارث المعمعان عام 1991 على جائزتين من الطرفين المتناحرين، جائزة العلماء العرب الشبان من مؤسسة عبد الحميد شومان الفلسطيني في الأردن، وجائزة الإبداع الفكري بين الشباب العربي من الكويت. يتقاتل الطرفان، ويجتمعان على تقدير خاص لكتابي «مشكلة العلوم الإنسانية»، تأكيدا على أن البحث العلمي العربي كالإبداع الفكري العربي لن تقف في وجهه الحدود المصطنعة، ولو كانت بضراوة الأسلاك الشائكة وحقول الألغام. ويلتقي تقدير الطرفين المتقابلين وفي صلب الزمن العصيب، تجسيدا لثابت باق يعلو على كل الكوارث ومؤامرات الفرقة، ومصداقا لقول أستاذ الأجيال الدكتور زكي نجيب محمود: «العروبة ثقافة لا سياسة»، وهذه الأولى - الثقافة عند الله وعند الناس خير وأبقى.
تبدو المتغيرات والوقائع آنذاك وكأنها تريد أن تعصف بهذا الثابت الباقي، وتؤكد أن سؤال القومية والهوية وخيار التقدم الحضاري ليس محسوما كما كنت أتصور، ومن ثم بدا لي الموقف الفكري القاصر على ميراث التقدم الغربي، والمنبت الصلة بتعينات واقعنا ومشاكله التي تستلزم المعالجة ... ذاك الموقف ليس مجرد بصر حسير، بل هو جريمة في حق الوطن، وكانت أزمة نفسية وعقلية طاحنة.
مثلت الأصول المنهجية التي استقيتها من صحبتي لأمين الخولي طوق نجاة ومرشدا لتدارك ما فاتني. ورحت أستقبل بفعالية بالغة مؤثرات نفر من أساتذتي العظام ذوي الطرح الأبعد لإشكاليات التجديد في الفكر العربي الحديث، وقرناء لهم في أنحاء شتى من الوطن العربي، وأيضا مؤثرات نفر من تلامذتي النابهين من شباب الباحثين الجادين في أطروحات الفكر العربي الحديث ومناقشاتهم المستفيضة. هكذا تجمعت عوامل عديدة فشهدت التسعينيات منحنى حادا في طريقة تفكيري وأبعاد معالجاتي وطرحي لما أخرجته من أعمال.
وتظل فلسفة العلم دائما هي البوصلة الموجهة لعقليتي ومسار أبحاثي. ومن حسن الطالع أن تواكب مع هذا تطور ملحوظ في فلسفة العلم إبان العقود الأخيرة من القرن العشرين، يتلخص في أنها انتقلت من وضع مبتسر - استمر طويلا - يولي ظهره لتاريخ العلم ولدوره في تمكيننا من فهم ظاهرة العلم فهما أعمق، فضلا عن دفع معدلات التقدم العلمي، ويكتفي بالنسق العلمي المنجز الراهن، ويفلسفه بما هو كذلك على أساس النظرة إليه من الداخل، أو النظرة إلى النسق العلمي في حد ذاته. انتقلت فلسفة العلم من هذا إلى وضع مستجد يرتكز على الوعي بتاريخ العلم، فيفلسف العلم في ضوء تطوره التاريخي، وعبر تفاعله مع البنيات الحضارية والاجتماعية، مما يعني تطورا ذا اعتبار في منطلقات وحيثيات وعوامل النظرة الفلسفية إلى العلم. وهذا التطور في الواقع هو تكامل النظرة إلى العلم من الداخل مع النظرة إليه من الخارج؛ أي باختصار نظرة فلسفية أشمل لظاهرة العلم، ترتكز - كما أشرت - على الوعي بتاريخه. وباستيعاب هذا البعد الجديد سرعان ما علمتني فلسفة العلم أن تاريخ العلم - وليس تاريخ العروش والتيجان والحروب والمؤامرات - هو التاريخ الحقيقي للإنسان وصلب قصة الحضارة في تطورها الصاعد.
من هنا سهل علي اتخاذ الخطوة الأولى للخروج من ذلك الموقف الحسير، بل بدت واجبا أكاديميا، وهي أن أمد نطاق معالجاتي المصمتة لظاهرة العلم الحديث الأوروبية إلى المرحلة الأسبق منها، والمفضية منطقيا وتاريخيا إليها؛ أي مرحلة تاريخ الرياضيات والعلوم عند العرب. فانكببت بعزم أكيد على نصوص من تراثنا متصلة بالحركة العلمية التي كانت قمة الازدهار والعطاء في عصرها الوسيط، واكتشفت - لأول مرة - في الحضارة الإسلامية عقلا مبدعا باذخ العطاء، وعالما هائجا مائجا يفيض زخما وثراء. ورحت أطرح السؤال: كيف وصل إلى طريق مسدود؟ وكيف يمكن مواصلة ما انقطع؟ فتعود معاملات أصالتنا قوة دافعة للتقدم والازدهار والسؤدد، وإزالة ما يعتريها من وهن أو تصلد. في هذا الإطار خرجت أعمالي في التسعينيات وقد أصبحت إيجابيات الحضارة الغربية أدوات لدفع تقدمنا الحضاري وليس مجرد تراتيل نرددها. والهم ينطلق من إشكاليات يطرحها واقعنا نحن الحضاري. وضمن هذا السياق خرجت الفصول التي تمثل كتابا عن الآفاق الفلسفية لفكر أمين الخولي التجديدي. •••
كانت السطور السابقة التي أفاضت واستفاضت - رغما عني - ضرورية لكي توضح أن قراءتي لأعمال أمين الخولي - التي كانت هي الأخرى رغما عني - لم تأت مجرد اطلاع وتلق لأفكار وأطروحات، وهل يستطاع التلقي السلبي لأفكار أمين الخولي؟ واتضح كيف كانت بدايات ثورة في تفكيري، ثورة منهجية تعني استملاك أدوات جديدة للبحث والنظر، فيخرج إنجاز مختلف يحمل أبعادا لم تكن مطروحة فيما سبق.
من هنا لم يقتصر هذا الكتاب على مجرد عرض لبعض الأبعاد والآفاق الفلسفية للتجديد التي حاولت تعيينها واستكشافها في فكر أمين الخولي، ويحملها الباب الأول من هذا الكتاب - بفصليه - تحت عنوان «منهاج»، بل كان لا بد من إردافه بالباب الثاني الذي يحمل آفاق محاولاتي لتطبيق بعض من فرائد هذا المنهاج، لتفعيلها وتطويرها، طبعا بمصاحبة أدوات منهجية ومعرفية أخرى، لم تكن مطروحة في زمان الخولي، في النصف الأول من القرن العشرين. ألم يطرح أمين الخولي معادلته الشهيرة: التلميذ = الأستاذ + الزمن؟!
في المحاولات التطبيقية المنصبة على الهم الراهن، بدا لي أن جنوحات وترديات الفكر السلفي المتطرف الذي بلغ حد الإرهاب راجعة إلى أنه يفتقد على وجه التحديد أسسا منهجية حرص أمين الخولي - بوصفه شيخا أصوليا - على إرسائها وترسيخها. وبتطوير وتعميم هذا كانت أول محاولات التطبيق المطروحة في الباب الثاني، الفصل الثالث، وهي مواجهة عامة أو حوار مع الفكر المتطرف.
ثم أعقبته بفصل تال، هو تطبيق لتأكيد أمين الخولي على أن الإسلام دين العقل والتفكير يدفع للنظر العلمي في الكون و«قادر على تحرير العقل والعلم أكمل حرية يمكن أن تتحقق» فيستوعب على الرحب والسعة ظاهرة العلم. لكن الإسلام «هدي وإرشاد» و«ليس البتة درسا في الفيزياء أو الكيمياء» و«لا يقصد إلى شيء في العلم الرياضي أو الطبيعي» بتعبيرات الخولي الذي رفض بشدة وبحسم التناحر والجدل السطحي بين مضامين النظريات العلمية وبين النصوص القرآنية، لافتا الأنظار إلى أن الأولى متغيرة متطورة، والثانية مطلقة ثابتة.
Неизвестная страница
لقد كان الخولي في طليعة الرافضين لما يسمى بالتفسير العلمي للقرآن، وأكد أن «إنكاره من كبريات قضايا المنهج الأدبي للتفسير» الذي أسسه ودعا إليه، كما سنرى. ومن أجل طرح تطبيق أشمل يوضح أن هذا هو قمة الاستنارة الدينية، أتى الفصل الرابع عن «التفكير العلمي والعلاقة بينه وبين الاستنارة الدينية».
إذن عقائد الإسلام موجهات للحضارة، بدلا من الخوض الظاهري العقيم في التفاصيل العلمية المتغيرة، فكيف السبيل إلى جعلها موجهات لتوطين ظاهرة العلم الحديث ذاتها في ثقافتنا مجددا، تأكيدا على أن الإسلام في كل عصر هو دين العقل والعلم؟ هذا هو أهم سؤال حاولت الإجابة عليه إجابة مستفيضة في كتابي «الطبيعيات في علم الكلام: من الماضي إلى المستقبل»، وقد نال جائزة البحوث المستقبلية في الإنسانيات من جامعة القاهرة، ويتلخص مضمونه في الفصلين الأخيرين من الباب الثاني. والمسألة في جملتها تطبيق لأخطر وأهم المبادئ المنهجية التي طرحها أمين الخولي: «أول التجديد قتل القديم بحثا وفهما ودراسة.»
فقبل العمل على تجديد أصولنا الحضارية من أجل توطين العلم الحديث في ثقافتنا مجددا، لا بد من محاولة الإجابة على السؤال: لماذا وصلت الحركة العربية العلمية الزاهرة في الماضي إلى طريق مسدود؟
ومنهاج الإجابة على هذا السؤال يقتضي «قتل القديم بحثا وفهما ودراسة»، كما حاولت أن أفعل في الفصل الخامس من هذا الكتاب عن «الأصول الفلسفية لتصور الطبيعة في الفكر العربي»، ثم أعقبه فصل سادس يتلمس طريق التجديد من أجل توطين العلم الحديث في ثقافتنا المعاصرة.
وبعد، فإن بعض فصول هذا الكتاب - باستثناء الأول والثالث - أوراق ألقيت في مؤتمرات وندوات ثقافية، وجميعها قبعت فرادى حبيسة الأدراج. أما خروجها معا في إطار متكامل ومتحاور الأطراف يشكل متن هذا الكتاب، فالفضل كل الفضل في ذلك يعود إلى المفكر المستنير رجب البنا، الذي يقود بثقة واقتدار دفة دار المعارف لتظل دائما هرما من أهرامات مصر الشامخة.
لقد تفضل سيادته بخبرته المكينة في الإنجاز الفكري وفي صناعة الكتاب على السواء، وأشار علي بفكرة هذا الكتاب، وبث في نفسي الحماس لإعداده وإنجازه، حتى خرج في صورة أعتز بها حقا، وتحملني مزيدا من الامتنان لسيادته.
وفقنا الله جميعا لما فيه خير الثقافة العربية.
منيل الروضة في ديسمبر 1999.
د. يمنى طريف أمين الخولي
أستاذ الفلسفة بآداب القاهرة
Неизвестная страница
وعضو لجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة
الباب الأول
منهاج
الفصل الأول
أمين الخولي ورسالة التطور في الفكر الديني
(1) توطئة
إذ شهد شهر مايو (1995) مرور مائة عام على ميلاد أمين الخولي، يتبدى أمامنا قرن من تاريخ الحضارة العربية، لنذكر كيف كان الربع الثاني منه - في أعقاب ثورة 1919 المصرية - مرحلة توهج للثقافة العربية، وتوثب طامح للعقل فيها.
الوطأة الوبيلة للاستعمار، التخلف الضارب في الأعماق، البون الشاسع بيننا وبين العالم الصناعي المتقدم والمتسيد ... كان هذا قوة دفع هائلة لمفكرينا ومثقفينا في بحثهم الدءوب عن الخروج من هذا الوضع المأزوم واللحاق بركاب العصر، إثبات الذات فيه ونشدان الهوية، والمساهمة بنصيب في آفاق التقدم المتسارع.
انطلقت جهودهم في جملتها من الثبات البنيوي في حضارتنا - النص الديني والتراث - نحو استشراف روح العصر وقيم الحداثة التي تبلورت في تجربة الحضارة الأوروبية. كانت انطلاقة ساهمت في ترسيمها خطوط متفاوتة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من أعمق جذور الأصالة إلى أبعد آفاق المعاصرة، خطوط سلفية وإصلاحية وتحديثية وعلمية وعلمانية توفيقية وليبرالية واشتراكية، تحاورت جميعها في أجواء متفتحة مواتية، نجدها الآن! أكثر مواءمة لقيم العقلانية النقدية، وأشد نزوعا لغاية «التجديد» التي يناط بها تحديث وجودنا الحضاري بتميزه، ومن ثم التنهيض المرجو والتنمية. (2) شيخ التجديد
في هذا المناخ الموار كان الدور الريادي الذي لعبه الشيخ أمين الخولي، بتمكنه الأستاذي من التراث ونصوصه - من أصوليات حضارتنا - لينذر جهوده لقضايا التجديد. فكان بحق شيخ الأصوليين في التجديد، وشيخ المجددين في الأصولية؛
Неизвестная страница
1
إيمانا منه بالماضي كركيزة، والحاضر كحياة متوثبة، وبالحوار الدائم بينهما ليتفاعلا ويتلاقحا فيثمرا المستقبل المأمول.
رفع شعاره الشهير والسديد: أول التجديد قتل القديم فهما وبحثا ودراسة، «أما إذا مضى المجدد برغبة في التجديد مبهمة، وتقدم بجهالة للماضي وغفلة عنه، يهدم ويحطم ويشمئز ويتهكم، فذلكم - وقيتم شره - تبديد لا تجديد.»
2
هكذا كان الخولي يبث «أصول» التجديد في كل المجالات المتصلة بإسهامه: التجديد في اللغة ونحوها، في البلاغة وجمالياتها، في الأدب ونقده، في تفسير القرآن، وفي الفكر الديني ... وحتى حين تعرض لترجمة إمام من عصر التدوين، لن يحمل خطوطا تجديدية بل فقط أصول السلفية، هو الإمام مالك بن أنس (90-179ه / 708-795م)، حتى في هذا أعطى الخولي درسا تجديديا في أصول تحرير التراجم
3
و«ثارت بينه وبين العقاد معركة أدبية شهيرة حول كتابة التراجم.»
4
لذلك قيل عن الخولي - بحق - أنه في كل إسهاماته قد «حرر عقله من سلطان التقليد الذي يبطل الإرادة الحرة، ويميت روح الإبداع، ويشل حركة العقل، فبعدت مطارح أفكاره، وسما في نظر طلابه، ودأب على سموه في كل يوم في النفوس والعقول معا.»
5
Неизвестная страница
لقد تأتت إسهامات الخولي - جهوده الأصولية التجديدية في مجالات تجعلها بنية حضارتنا في موقع ثقافي محوري، فضلا عن ارتكازها على الثابت البنيوي فيها - النص الديني/القرآن الكريم، فلم يكن للتجديد في هذه المجالات - عند الخولي - إلا طريق واحد هو النظر العلمي الذي لا يستقيم بغير الفهم العميق للقرآن الكريم، بل وجاهر الخولي بأن هذا الفهم ليس سهلا لمن لا يتذوقون العربية،
6
ومهما فعل المستشرقون، ومهما بذلوا من جهود رصينة، لن يستطيعوا النفاذ إلى جوهر القرآن، بعبارة أخرى هذا التجديد مهمة منوطة بنا وحدنا، واجب علينا وحق لنا.
وفي خضم الخطوط التجديدية العديدة، المتوازية والمتحاورة، التي خطها الخولي سوف نتوقف في بحثنا هذا عند الخط الذي يتماس مع أخطر ما في حضارتنا، والأعمق في عقولنا ونفوسنا وضمائرنا، ألا وهو خط وخطة الخولي في تجديد الفكر الديني، لنخلص إلى أنه ليس حقا وواجبا فحسب ، بل هو الآن طوق النجاة لنا من الضياع الحضاري والانسحاق الثقافي وتشويه الهوية. (3) الأستاذ الإمام يشق الطريق
إذن يستوقفنا من ميراث أمين الخولي مقولة تجديد الفكر الديني في تفاعلها مع مقتضيات الواقع العربي الحديث.
لا بد إذن من العود بها إلى أصولها، فلم يكن الخولي بتجديده للفكر الديني إلا سائرا في طريق سبق أن ترسمت معالمه وتشكلت تضاريسه في خريطة الفكر العربي الحديث، وبفعل جهود دءوبة لرواد أسبق، يتقدمهم بجدارة الشيخ محمد عبده (1849-1905) الأستاذ الإمام، إمام المجددين، وقائد جيش الهجوم على التقليد، والذي هوى بمعوله على معاقل المرض الخبيث «مرض الجمود على الموجود»،
7
وكان سلاحه الماضي في كفاحه التجديدي هو «تآخي الدين والعقل في الإسلام.»
8
فالإسلام دين العقل يعمل دائما على استثارته ويدعو إلى استعماله. يقول الأستاذ الإمام: «لو أردت سرد جميع الآيات التي تدعو إلى النظر في آيات الكون، لأتيت بأكثر من ثلث القرآن، بل من نصفه.»
Неизвестная страница
9
والقرآن في هذا «يقصد تحريكا» للعبرة، وتذكيرا بالنعمة وحفزا للفكرة، لا تقريرا لقواعد الطبيعة، ولا إلزاما باعتقاد خاص في الخليفة، وهو في الاستدلال على التوحيد لم يفارق هذا السبيل.»
10
من هنا كان الأصل الأول من أصول الإسلام عند محمد عبده هو النظر العقلي لتحصيل الإيمان، والأصل الثاني هو تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض بينهما، وكان محمد عبده بهذا يعلن حقوق الفكر الحر، مؤكدا أنه واجب على الموجود العاقل.
والنتيجة الطبيعية المنطقية لهذا أن ينتقل محمد عبده إلى تأكيد ضرورة التجديد، ورفض الجمود والتقليد. فالدين عنده شعور فطري، لكن فطرية الشعور الديني لا تمنع الدين من أن يتطور بترقي الإنسانية، حتى بلغ كماله في الدين الإسلامي. وها هنا تظل الضرورة الحيوية هي «ضرورة تجديد بناء عقائدنا تجديدا موصولا كي تلائم تغيرات الموجودات»،
11
وهذا التجديد يجعل الدين مسايرا لحركة العلم المطردة التغير والتقدم، ويجعل العلاقة بين الدين وبين الحياة سائرة قدما، وتبرأ من اهتراء أصابها ردحا من الزمن.
كان محمد عبده يقول إن الناس تحدث لهم باختلاف الزمان أمور ووقائع لم يرد لها ذكر في كتب الفقه القديمة، فهل نوقف سير العالم لأجل كتبهم؟ إن هذا لا يستطاع، إنه جمود وموات يجعل العوام ينصرفون عن دينهم الذي لا يجاري وقائع حياتهم.
12
أجل! يجب أن نسير في وجودنا الحاضر مهتدين بتجارب السلف، لكن ليس من واجبنا أن نقبل جميع ما يؤثر عنهم من تقاليد دون فحص أو تمحيص، بل ينبغي أن نستعمل فيه تفكيرنا، فإذا وجدناها صحيحة - ومعنى هذا أنها موافقة للعقل - قبلناها، وإلا رفضناها «هذا البحث الحر، وهذه الحاسة الناقدة فيما يرى محمد عبده، هي ما يميز الحيوان الناطق عن سائر الحيوان»
Неизвестная страница
13
الذي لا يعرف تغيرا ولا تقدما.
وهذا الموقف من تراث السلف هو ما تبلور عند أمين الخولي في قولته الشهيرة: هم رجال ونحن رجال، لهم عصرهم ولنا عصرنا، نتعلم منهم ولا نحذو حذوهم النعل بالنعل.
وإذا كان أمين الخولي يؤثم المقلد الرافض للتجديد، فإن الأمر قد سبق أن بلغ بمحمد عبده حد اعتبار المقلد كافرا؛ لأنه مردد وليس مستيقنا من الأصول، وأسهب عبده في التعبير عن ضيقه من التقليد والجمود على القديم، وراح في تعداد مفاسد هذا الجمود ونتائجه - أو بتعبيره - جناياته على اللغة والنظام والاجتماع والشريعة وأهلها، وعلى العقيدة، وفي نظم التعليم. وبعد أن هوى بمعوله على معاقل الجمود جميعها في هذه المواقع وسواها، راح يستدل ويؤكد أنه علة تزول لأنه مما لا يصح أن ينسب إلى الإسلام،
14
فالإسلام كما يقول الأستاذ الإمام: «أنحى على التقليد وحمل عليه حملته، لم يردها عنه القدر، فبددت فيالقه المتغلبة على النفوس، واقتلعت أصوله الراسخة في المدارك، ونسفت ما كان له من دعائم وأركان في عقائد الأمم، وصاح بالعقل صيحة أزعجته من سباته وهبت به من نومة طال عليه الغيب فيها.»
15
لقد أكد الإسلام أن الإنسان لم يخلق ليقاد، بل ليهتدي، وصرف القلوب عن التعلق بما كان عليه الآباء، ونبه على أن السبق في الزمان ليس آية من آيات العرفان.
16
هكذا، على أساس من إيقاظ الإسلام للعقل وإبطاله التقليد، انطلقت دعوة التجديد الديني من رحاب الأستاذ الإمام محمد عبده، وتحولت إلى قوة تثويرية نابضة بفعل صحبته الحميمة للمناضل الرائد السيد جمال الدين الأفغاني (1838-1897).
Неизвестная страница
إنها قوة شقت طريق التيار الإصلاحي، المنطلق من المقدمة التي رأيناها مع عبده، ومفادها أن الجمود على القديم هو العلة المباشرة لتخلفنا وخروجنا من مسار التاريخ، فضلا عن دورة التقدم. وكان هذا هو الطريق الذي سار فيه أمين الخولي إلى غايته، حتى إن التجديد عنده ليس إلا حماية المجتمع من العوامل المفسدة لأمره - عوامل الجمود والتخلف. (4) على خريطة الفكر العربي الحديث
وكما لاحظنا تجديد الفكر الديني يستدعي بالضرورة قضية الموقف من التراث، والتي هي في تقاطعها مع قضية الموقف من الغرب، هيكل الشغل الشاغل للفكر العربي الحديث، حتى يمكن القول إنها هي التي ترسم حدود خريطته. إنها مشكلة الأصالة والمعاصرة الشهيرة، أو بتعبير آخر هي مشكلة التراث والتجديد.
والتيار الإصلاحي الذي شقه محمد عبده - كما رأينا - قد تمثل هذه القضية - الموقف من التراث - تماما. أما أمين الخولي فإن تجديده الأصولي ذروة من ذرى هذا التمثيل، ونحن نتمسك بأن الموضع السليم لأمين الخولي في منظومة الفكر العربي، أو على خريطته، إنما هو في امتداد هذا التيار الإصلاحي.
والآن أصبح الفكر العربي الحديث حقلا خصيبا للدراسة، وميدانا فسيحا للبحث والتنظير. خرجت تنظيرات عديدة لموقع أمين الخولي فيه
17
ولعل أدعاها للنقاش رؤية د. طيب تيزيني؛ لأنه مفكر بارع وتنظيراته للفكر العربي الحديث ذات شأن، ليندهش المرء من إصراره على وضع أمين الخولي في إطار ما أسماه: النزعة التحييدية للتراث في فرعها الوثائقي، التي بزعم الدفاع عن حرمة العلم ترى الحقيقة التاريخية الكاملة مجسدة في الوثيقة بعيدا عن ممارسة التفسير والتقويم التاريخي والتراثي لها،
18
مما يعني نفي النظرة التاريخية والأيديولوجية للتراث؛ أي نفي النظر إليه في إطار عصره ومقتضيات واقعه الحضاري، ومن خلال المشكلات والآفاق المعاصرة للتقدم والتخلف، وبالتالي من خلال ضبط طرحنا للتراث بضوابط اللحظة المعاصرة في واقعنا، بكل ما تنطوي عليه من مضامين اجتماعية واقتصادية وقومية وأخلاقية
19 - أينفي الخولي كل هذا؟! رغم اعتراف تيزيني بأن الخولي يشير إلى أفكار مسيسة للتراث، أصر على أن أمين الخولي يرى من الخير تأجيل الانتفاع بالتراث إلى ما بعد اقتفاء أصوله جميعا. والخولي لهذا تحييدي وثائقي!
لقد اعتمد تيزيني على ندوة ببيروت تحت عنوان «التراث: كيف نعمل على إحيائه»،
Неизвестная страница
20
اشترك فيها الخولي. يقول تيزيني: «تهيمن على المنتدبين فكرة توثيق التراث بشكل يدعو إلى الاعتقاد بأن هؤلاء يرون مهمة الباحث في التراث العربي تكمن في إحيائه عن طريق جمعه وتحقيقه وإخراجه للناس. وإذا كانت هناك إشارات متعلقة بالأبعاد القومية فهي سريعة وضحلة وتنظر إلى التراث باعتباره تركة، والسؤال: كيف نتملكها جيدا؟»
21
وعلى أساس هذه الندوة كان حكمه بأن الخولي يندرج في إطار النزعة التحييدية للتراث - الوثائقية. وهنا نجد خطأ تيزيني في أخذ الجزء على أنه الكل، والمرحلة على أنها الغاية. لا شك أن الخولي - كأستاذ وكأصولي - يهتم كثيرا بتوثيق وتحقيق التراث وإخراجه، ولكن ليس كموقف نهائي وإطار منظومي له، بل فقط كخطوة ضرورية من أجل التجديد والتثوير وسد مقتضيات العصر، وما لا يبعد كثيرا عن هدف تيزيني نفسه.
فكيف يزعم أن الخولي - وهو المجدد الأعظم - ينفي النظرة التاريخية للتراث (وينفي معها
الفصل الثالث
من هذا الكتاب)، ومجرد مصطلح الجدة لا يتأتى إلا في سياقها. فالجدة تعني التمايز عن القديم واختلاف الحاضر عن الماضي. وماذا تكون النظرة التاريخية سوى الإدراك الواعي لهذا التمايز والاختلاف، كشرط ضروري للتجديد.
كلا، ليس التوثيق الأكاديمي للتراث هو البطاقة النهائية للخولي - كما رأى طيب تيزيني - فهذا التوثيق في إطار قتل القديم بحثا وفهما ودراسة، فقط كمعبر إلى التجديد الأصولي والتنهيض على الإجمال من أجل الخدمة المخلصة الجادة والعميقة لذلك التيار الإصلاحي الذي عبده عبده، والذي في سويدائه موقع أمين الخولي على خريطة الفكر العربي المعاصر. (5) مزيد من التواصل
خطوط التواصل بين محمد عبده وأمين الخولي أكثر مما يمكن نفيه، أو حتى اللجاج فيه، وإن كانت جميعها تصب في التيار الإصلاحي ومنحاه التجديدي.
أولا، كلاهما انشغل بقضية إصلاح الأزهر ورسالته في القرن العشرين. ومن الأعمال المتميزة لأمين الخولي بحثه «رسالة الأزهر في القرن العشرين»، إذ كانت وزارة علي ماهر قد أعلنت عام 1936 عن مسابقة في عدة مواضيع، منها هذا الموضوع. وكان أمين الخولي قد انتهى من بحثه هذا قبل الإعلان عن المسابقة، ولأنه اختير عضوا في لجنة التحكيم فلم يتقدم ببحثه، وأهداه إلى الأزهر بعد صدور الحكم.
Неизвестная страница
نشر الأزهر طبعة أولى لهذا البحث، ونفذت فورا، وتوالت طبعاته فيما بعد، والجدير بالذكر أن الخولي بدأه بالدهشة والتهكم من أن تشغلنا رسالة الأزهر في القرن العشرين الميلادي وليس في القرن الرابع عشر الهجري.
المهم أن نلاحظ كيف أن كلا من الأستاذ الإمام محمد عبده، والشيخ المجدد أمين الخولي قد انشغل بقضية إصلاح الأزهر الشريف ورسالته في القرن العشرين، كلاهما أبلى فيها، وأيضا كلاهما دخل في صدام عات مع شيوخه المتعنتين الذين دأبوا فيما مضى على معارضة أي إصلاح؛ فرفضوا دعوى الخولي الحارة في الربط بين الدين والحياة. وفي النهاية أخفق كلاهما ولم يحقق أهدافه، فعلق آماله في إصلاح التعليم على الجامعة المصرية.
ولكن محمد عبده كانت الجامعة بالنسبة له أملا وحلما - حلما انهار - فقد استطاع إقناع صديقه المنشاوي باشا «فأبدى استعداده لإقامة الجامعة على نفقته بأراضيه بقرية بسوس قرب القناطر الخيرية، لكن وفاة المنشاوي باشا عصفت بالفكرة، ثم لحق به محمد عبده»
22
ولم يريا ميلاد الجامعة عام 1908. أما بالنسبة للخولي، كانت الجامعة واقعا ماثلا، بل هي واقعه الأول، حلبة كفاحه وساحة نضاله الذي أتى بكثير من الثمار المرجوة. وكان يؤكد دائما أن تدريسه في كلية الآداب بالجامعة المصرية - جامعة القاهرة الآن - هو مهمته الكبرى، وأن صناعته لعقول الطلاب إنجازه الأعظم، وانتشر تلاميذ له في مواقع شتى من حياتنا الأكاديمية والثقافية، فزادوها ثراء بما تعلموه واكتسبوه من روح الأستاذ المعلم أمين الخولي «شيخ الأمناء»، الجماعة التي ضمت هؤلاء التلاميذ بريادته.
لم يدرس الخولي في الأزهر - بل في مدرسة القضاء الشرعي - لكن درس فيه. نذكر من هذا أول ما يدرس من الفلسفة رسميا في العهد الجديد للأزهر، إنه محاضراته غير المنشورة «كناش في الفلسفة وتاريخها» سنة 1934، فأهداها «إلى روح الأستاذ الإمام».
23
للخولي ثلاث مجموعات من المحاضرات في الفلسفة غير منشورة، فثمة «كناش» و«كتاب الخير» و«تاريخ الملل والنحل» تبدو لنا ذات أهمية ريادية لعهدها المبكر. ولا نعلم لماذا لم ينشرها؟ بصفة عامة لم يكن نشر الكتب يغري الخولي كثيرا. همه الأكبر - كما ذكرنا - في صناعة التلاميذ، وكان يسميهم «أبناءه من العقل» في مقابل «أبنائه من الصلب» وهم بنوه الطبيعيون.
من ناحية أخرى، نلاحظ - مثلا - أن محمد عبده قد أشار إلى «اقتباس الإصلاح الديني في أوروبة من الإسلام»
24
Неизвестная страница
فتطورت هذه الفكرة عند الخولي إلى بحثه «صلة الإسلام بإصلاح المسيحية» والذي ألقاه في مؤتمر تاريخ الأديان الدولي السادس، المنعقد بمدينة بروكسل من 16-20 سبتمبر 1935.
25
كما رفض محمد عبده البلاغة التي أفسدتها الفلسفة، ورام إصلاحا فيها يسير بها نحو النمط الذي يربي الذوق ويرقي الوجدان.
26
ويمكن القول إن هذا هو الأساس الأولي الذي تنامى وتصاعد باسقا في شكل دروس الخولي في البلاغة، أو فن القول بتعبيره، ويراها اللغويون أثمن ما خلفه الخولي.
ونعود إلى موضوعنا الأساسي: تجديد الفكر الديني؛ لنجد مدرسة الأفغاني/عبده في ريادتها للتيار الإصلاحي، قد شقت تيارا عميقا وممتدا في الفكر العربي الحديث والمعاصر، يرتاد الخطوط الباحثة عن عقلنة الإسلام وتحديثه. ولكن - كما أشار المنظر البارع للفكر العربي حسين مروة: «على الرغم من أهمية مدرسة الأفغاني/عبده في تصديح جدار التصديق المطلق للتراث، فإنها لم تضع منهجا يغير من المناهج التقليدية الشائعة تغييرا عميقا. وذلك لارتباطها بالأسس الأيدلوجية نفسها التي قامت عليها تلك المناهج التقليدية. ثم نضجت هذه المدرسة بفعل التحولات المتصاعدة لحركة التحرر الوطني وتطور مستوى المعارف والمناهج لدى الباحثين العرب.»
27
ولا شك أن أمين الخولي من الذين قاموا بدور كبير في ذلك التطوير للمناهج ومستوى المعارف، والذي نجم عنه صور ذات ثراء وفعالية لم تطف بخلد المؤسسين الأفغاني وعبده، وتعمر الآن ميدان الفكر العربي المعاصر. (6) التجديد حياة وتطورا وارتقاء
وكانت جهود الخولي في منهجية التجديد عميقة الأصول ومترامية الحدود، وغزيرة المضمون، ومتعددة العناصر. لكننا نلتقط منها خيطا بدا لنا مفتاحا يفض مغاليق، مما يلقي ضوءا كثيفا على أهمية ميراث الخولي.
ذلك أن هاجس الحياة والارتباط بالواقع الحضاري الحي كان مهيمنا على فكر الخولي، حتى قيل إن الحياة والحيوية أكثر الكلمات شيوعا في كتاباته وأحاديثه؛
Неизвестная страница
28
لذلك كان من السهل أن يبلغ التجديد الديني معه مقولة «التطور» ذاتها؛ ليكون طبيعيا متأصلا سائرا نحو الأصلح والأكمل والأكثر بقاء.
والواقع أن بحثنا هذا في تجديد الفكر الديني عند الخولي، قد انطلق أصلا من تلكم النقطة شديدة الأهمية والتميز في ميراثه، ألا وهي تشغيله الحذر البارع لمقولة التطور والانتخاب الطبيعي ... النشوء والارتقاء والبقاء للأصلح.
نظرية التطور - كما هو معروف - مجرد نظرية بيولوجية؛ أي محاولة لوصف وتفسير نشوء ظاهرة الحياة على سطح، وارتقائها عن طريق الانتخاب الطبيعي - حتى بلوغها الشكل الراهن. وعلى الرغم من أنها من الوجهة العلمية البيولوجية تحوي ثغرات ومواطن قصور جمة،
29
كما أوضح كثيرون، من أكفئهم فيلسوف العلم البارز كارل بوبر
K. Popper (1902-1994)، فإنها - بتعبير بوبر نفسه - برنامج بحث ميتافيزيقي ممتاز،
30
وحتى هذه اللحظة لا يوجد بديل لها، وأبدت خصوبة وفعالية فرضتا التسليم بها كنظرية عامة لسائر علوم الحياة، فضلا عن خصوبتها في مجالات أخرى عديدة، تتجاوز كثيرا ظاهرة الحياة، كما سنرى مع أمين الخولي لا سواه.
بادئ ذي بدء نرى أمين الخولي في صدر شبابه يوفد إماما للمفوضية المصرية في روما ثم في برلين. وفور عودته من ألمانيا عام 1927 انتدب للتدريس في الأزهر، فيلقي على طلاب كلية أصول الدين محاضرات في التاريخ العام لفلسفة الأخلاق، أو كما أسماها الفلسفة الأدبية.
Неизвестная страница
31
وما أن يأتي للعصر الحديث حتى يحلو له أن يقدم فلسفته الخلقية بأسرها من مدخل، أو في إطار شامل هو نظرية التطور وفلسفة النشوء والارتقاء. وهل يمكن اختزال الفلسفة الحديثة للأخلاق بسائر اتجاهاتها وفروعها فقط في التيار التطوري؟ ما لم ينطو هذا على وجهة نظر حادة للمحاضر نحو تحبيذ وتأييد هذا التيار. وبلغ حيود الخولي في هذا الاتجاه حدا غير مقبول، حين يحشر توماس هل جرين
Th. H. Green (+ 1882) في زمرة فلاسفة الأخلاق التطوريين! في حين أن جرين من تيار مقابل تماما للتيار العلمي التطوري، ألا وهو «المثالية المحدثة»، ليمثل جرين انتقاله من ألمانيا إلى العالم الأنجلو سكسوني في إنجلترا،
32
ويبرر الخولي هذا بتأويل متعسف يصعب قبوله وهو أن فلاسفة التطور - المتفق عليهم - يبحثون في نشوء المثل الخلقية وارتقائها - كما هو معروف - عبر الماضي، أما «توماس هل جرين» فيبحث عن هذا من زاوية الغاية، أو المستقبل!
33
على أية حال يقدم الخولي لطلابه عرضا جيدا لنظرية التطور مع إمامها تشارلز دارون
Ch. Darwin (+ 1822)، مع الإشارة إلى الرواد الآخرين لامارك
J. Lamarck (+ 1829)، و ألفرد والاس
A. Wallace (+ 1913). وببيانه المحكم البديع، يوضح الخولي كيفية تفسيرها للحياة، فأنواع الأحياء - وعلى رأسها الإنسان - لم تظهر هكذا منذ خلقت، بل هي دائمة التغير من حال إلى حال، وبهذا تتطور من البساطة إلى التركيب المتدرج بالتغير والتطور تنشأ بعض الأنواع عن بعض، وترتقي بعمل ناموس الانتخاب الطبيعي - بقاء الأصلح للحياة وانقراض ما عداه. ويتهكم الخولي من رد النظرية إلى القول الدارج: إن الإنسان أصله قرد! ولا يفوته تعداد مواطن القصور المعروفة فيها.
Неизвестная страница
ويبين الخولي أصول نظرية التطور في الفكر البشري، عند الإغريق ثم عند الإسلاميين، خصوصا مع جماعة «إخوان الصفاء وخلان الوفاء»،
34
ومع ابن سينا (+ 428ه)، وابن طفيل (+ 518ه)، والقزويني (+ 682ه)، وابن خلدون (+ 818ه).
وهنا يتوقف الخولي لتبيان أن نظرية التطور الحديثة في صلبها لا تتناقض مع العقيدة الدينية ولا تتعارض مع الإسلام، والقرآن هدى للمتقين لا درسا في الفيزياء والكيمياء والأحياء، والإسلام في أصوله وفروعه يحث على عمل العقل، ويستحيل أن يصادر على نظرية أو تفسير علمي ما. أما مقاومة نظرية التطور والنزاع الشهير بشأنها في أوروبا وأمريكا، فهذا - كما يؤكد الخولي - لا يخصنا؛ لأنه تناقض بينها وبين نصوص في التوراة.
يصر أمين الخولي إصرارا على أن النزاع مع التطورية من فعل الإسرائيليات لا سواها. وقبل أن نتوغل أكثر عبر أبعاد وآفاق التطور في التجديد عند أمين الخولي، لا بد وأن نتوقف هنيهة بإزاء هذا النزاع الشهير بين نظرية التطور وبين فريق من رجال الدين. والحق أنه ليس هينا أن يدافع شيخ أصولي - كأمين الخولي - عن التطورية الداروينية، بعد كل ما كان من تفاصيل هذا النزاع. وقد يرد إلى الأذهان هجوم السلفيين المعهود فقط، أو أن هذا قصرا على ثقافتنا، وليس هذا صحيحا. فقد أشار الخولي إلى أن التطور لا يزال يلقى مقاومة عنيفة من بعض التيارات في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أقوى معاقل الروح العلمية، واستمرت بعد زمان الخولي.
وكاتبة هذه السطور حين دخلت متحف التاريخ الطبيعي في نيويورك عام 1996 تلمست بوضوح الجهد المنهجي المبسط الجميل في إقناع جمهرة الزائرين بنظرية التطور عن طريق كل الوسائل العينية والبطاقات التفسيرية. أما في متحف التاريخ الطبيعي في شيكاغو، فقد رأت قاعة مخصصة للنزاع الذي لا يزال دائرا بين الكنيسة وبين نظرية التطور. وثمة إقرار لأستاذ في جامعة نبراسكا بأنه في كل محاضرة ثمة طالب واحد على الأقل يناقشه في أن نظرية التطور تعارض الدين، وهي لهذا مرفوضة. ولا يفوت معرض شيكاغو إبراز أن العلاقة بين العلم والدين ليست موضوعا لمواعظ يوم الأحد (راجع
الفصل الرابع
من هذا الكتاب) ولا هي موضوع للمعالجات الصحفية السريعة.
فهل هذا الذي لوحظ في شيكاغو يعني أن النزاع مع التطور ليس كما يؤكد الخولي من فعل الإسرائيليات، استنادا إلى آيات في التوراة، وأنه لا بد أن يمتد أيضا إلى العقيدة المسيحية من حيث هي كذلك؟ لا سيما وأن هذا هو ما يومئ به النزاع الضاري بين دارون والتطورية وبين فريق من رجال الدين المسيحي.
إنها ملحمة مشهودة ومشهورة، ولن يجدي الخوض في تفاصيلها العقيمة. ومن أجل فصل القول ربما كان مثمرا أكثر أن نحتكم إلى شخصية لها ثقلها في الجانبين الديني والعلمي، وقد يبدو العثور على مثل هذه الشخصية مستحيلا أو عسيرا؛ لكن يتقدم جون بولكين هورن
Неизвестная страница
J. Polkinghorne (1930) وهو شخصية فريدة حقا. فقد تبوأ منزلة عالية كعالم في فيزياء الجسيمات الأولية. وكان أستاذا للفيزياء الرياضية في جامعة كمبردج العريقة فيما بين عامي 1968 و1979. وفي عام 1974 اختير عضوا في الجمعية الملكية للعلوم التي تضم جهابذة علماء الفيزياء، لكنه ترسم عام 1982 قسيسا في الكنيسة الإنجيلية «البروتستانتية»، فأصبحت أعماله تدور حول استكشاف المقولات الكبرى في هذين القطبين - ويكاد يجري العرف على أنهما متنافران أو على الأقل متباينان - أي العلم الفيزيائي أولا، ثم الرؤى الدينية المستنيرة ثانيا. وأهم أعماله «لعبة الجسيم الذري 1979» و«عالم الكوانتم 1984» و«العلم والعقيدة المسيحية 1994».
ويبدو كتابه «ما وراء العلم: السياق الإنساني الأرحب 1996» أروع أعماله، ومن أجمل إصدارات العقد الأخير من القرن العشرين في هذا المجال. في كتابه «ما وراء العلم» يوضح بولكين هورن - العالم القس - كيف أن العاصفة القوية التي هبت من كتاب «أصل الأنواع» لتشارلز دارون، جاءت من فكرة التطور القائلة إن التغيرات الصغيرة البطيئة المتراكمة خلال عملية الانتخاب الطبيعي طويلة المدى هي السبيل الذي يصل به الكائن الحي إلى الشكل الضروري للبقاء في بيئته، بغير حاجة إلى القوة الربانية العليا، إلى حكمة الله وقدرته؛ لكي تفسر ما أحرزته الكائنات الحية من استعدادات وقدرات، فالمسألة كلها تجري على ظهر الأرض في إطار المحاولة والخطأ والتغير والانتخاب.
بالقطع - كما يؤكد بولكين هورن - لم يعد ممكنا التفكير في التنوع الرائع للحياة بوصفه خلقا فجائيا، أو تنفيذا نهائيا لتصميم إلهي مسبق، ومع هذا لا توجد إطلاقا حجة تنكر أي غرض أو قصد إلهي من هذا التطور الحيوي الذي تتوالى مراحله عبر مسار التاريخ، هذا على الرغم من أن كثيرين من علماء الحياة يميلون إلى هذا الإنكار، ويؤكدون بلا أسانيد كافية أن العملية التي اكتشفها دارون عمياء تتم بلا وعي أو قصد أو رؤية للمستقبل، قائلين إنه إذا كان ثمة صانع للساعة الحيوية، فهو صانع أعمى بلا هدف.
بيد أن المسألة أعمق من هذا وذاك، كما يوضح بولكين هورن. فأولا بعض من رجال الدين رحبوا بالنظرية التطورية، ورأوها متفقة مع الفهم الصحيح للدين، وأكثر من نظرية الخلق المكتمل المناقضة لها. وفي واقعة أغفلها التاريخ بشأن تقويم كشف دارون، وردود أفعال رجال الدين إزاءها، نجد رجل دين إنجيليا بروتستانتيا هو تشارلز كنجزلي
Ch. Kingsley
يرحب بأفكار التطور تأييدا وتحبيذا للبروتستانتية ذاتها بوصفها تقدمية، في مقابل الإظلامية التي مارستها الكنيسة الكاثوليكية خصوصا في العصور الوسطى. وكما يقول كنجزلي، تصور العلماء أن التطور الحيوي يعني التخلص نهائيا من الألوهية ومن تدخلها في الطبيعة، وأن المسألة أصبحت اختيارا حاسما بين بديلين، الأول هو مجال مطلق للمصادفة والأحداث العمياء، والثاني هو الرب الحي القدير الذي يمارس عمله المحايث في الكون. بيد أن الله - كما يؤكد كنجزلي ومعه جمهرة من رجال الدين المستنيرين - الله لم يخلق عالما جاهزا مكتملا، لقد خلق شيئا أكثر حذقا وبراعة، وأكثر إثباتا لذاته تعالى، عالما خاضعا دائما للتطور. وعلى نفس هذا المنوال سار رجل دين آخر معاصر لتشارلز كنجزلي هو أبري مور
A. Moore
الذي أوضح أن الخلق الفجائي قد حل محله مفهوم الخلق المستمر. ولا تزال هذه الفكرة تلعب دورا هاما في التأملات الدينية حول الكون التطوري، وتجد تعبيرات شتى خصوصا في كتابات تيار دو شاردان
(1881-1955) وأيضا آرثر بيكوك
A. Peacocke
Неизвестная страница
في كتابه «الخلق وعالم العلم 1979».
35
وفي طريق مشابه إلى حد كبير يسير أمين الخولي، كما سوف نرى في الصفحات المقبلة.
هكذا نجد رجال الدين المستنيرين وجدوا في التطور خلقا مستمرا أكثر إثباتا للذات الإلهية. وفكرة الخلق المستمر ترددت بين جمع من كبار فلاسفة الإسلام في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، خصوصا ابن رشد. لكن الذي يهمنا رجال الدين المستنيرين في الغرب المسيحي الذي دخل في صراع مع دارون، بل وفي إنجلترا ذاتها التي كانت حلبة ذلك الصراع من حيث كانت موطن دارون. رجال الدين المستنيرون في إنجلترا رحبوا بالتطورية، وعملوا على تشغيلها في صلب رؤاهم الدينية. إذن لم يأت أمين الخولي فعلا إذن حين رحب بالتطورية وحاول أن يجعلها بعدا، بل محورا من محاور دعواه التجديدية.
وبالعود إلى محاضرات أمين الخولي، نجده بعد أن عرض الأصول التاريخية لنظرية التطور وفحواها مع دارون - مدافعا عن هذا وذاك - ينتقل الخولي إلى فلسفة النشوء والتطور العامة، وهي تطبيق هذا الناموس الحيوي على المظاهر الأخرى للوجود الإنساني، فحتى المعنويات العقلية كلها تتطور من أصل بسيط وتتنافس والبقاء للأصلح. هكذا تكون التطورية في الفلسفة الخلقية، فيقدم الخولي عرضا بارعا لمذاهبها، أولا بتوسع مع الرائد هربرت سبنسر
H. Spencer (+ 1903). وثمة مراسلات بينه وبين محمد عبده، ثم مع ليسلي ستيفن
L. Stephen (+ 1904)، وصمويل ألكسندر
S. Alexander (+ 1938) حتى يصل إلى حيوده غير المقبول مع توماس هل جرين.
وكان كل هذا في محاضرات الخولي موضوعا للعرض والنقد والتقويم، حتى احتل التطور ما يقرب من نصف محاضراته في تاريخ الأخلاق.
وفي هذا السياق عني الخولي بتأكيد أن ناموس التطور الحيوي لا يقل ثبوتا في المعنويات لذلك عم تطبيقه وسيطر على نظام البحث في سائر المجالات. و«صار كل باحث يتصدى لدرس شيء من ذلك إنما يتقدم إليه مسلما بعمل ناموس النشوء فيه، فيما مضى وفيما هو آت، ولم يعد الباحثون يقبلون القول بظهور كائن كامل الوجود دفعة واحدة، فكرة كان أو لغة أو فنا أو حضارة.»
Неизвестная страница