وقد يخيل إلى كثير جدا من الناس أن معنى الإجازة مختصر قصير كلفظها، فهي أيام راحة ودعة وفراغ لا أكثر ولا أقل.
ولكنهم لو فكروا قليلا لتبينوا أن معنى الإجازة أوسع وأعمق وأطول من لفظها، وأنه أدق وأشد تعقيدا مما يظنون، ولو لم يكن أمامنا إلا هذه الألفاظ الثلاثة نحللها ونستقصي معانيها لنفهم معنى الإجازة، لكان هذا في نفسه عسيرا شاقا، فكيف وأمامنا أشياء أخرى أكثر وأعسر من هذه الألفاظ الثلاثة وكلها يحتاج إلى التحليل، وكلها يحتاج إلى الاستقصاء!
فلنكتف الآن بهذه الألفاظ الثلاثة لا لنستقصي معانيها بل لنلم بهذه المعاني؛ فالإجازة أيام راحة، فما عسى أن تكون الراحة؟ ما موضوعها وما طبيعتها؟ وما وسائلها وما غايتها؟
تريد أن تستريح، فمم تريد أن تستريح؟ وممن تريد أن تستريح؟ ألست ترى أن الجواب عن هذين السؤالين يختلف أشد الاختلاف ويتفاوت بتفاوت الأشخاص وطبائعهم، وما يمارسون من أعمال، وما ينعمون أو يشقون به من ألوان الحياة منذ يسفر الصبح إلى أن يتقدم الليل؟ أما أنا فإذا ذكرت الإجازة وذكرت أنها أيام راحة لي، وحاولت أن أعرف مم أريد أن أستريح، فقد يكون أول ما يخطر لي أني أريد أن أستريح من ثلاثة أشياء أشقى بها في مصر شقاء لا يكاد أحد يتصوره أو يقدره؛ أولها: التليفون الذي يصلصل جرسه منذ تشرق الشمس إلى أن تشرق الشمس، لا ينقطع عن الصلصلة إلا ليستأنفها، ولا يكف عنها إلا ليعود إليها. وصلصلة جرس التليفون هذه مختلفة متنوعة معقدة، فيها كثير من العسر، وفيها كثير من الهم، وفيها كثير من العناء، وفيها قليل جدا من النعيم الذي تبتهج له النفوس وتطمئن إليه القلوب.
فهذه صلصلة تستلك من السرير استلالا ولما تشرق الشمس، فإذا قطعتها واستمعت إلى هذا الصوت الذي يدعوك من أقصى الخيط، كما يقول الفرنسيون، فقد تقع أذنك أو يقع على أذنك صوت لا عهد لك به ولا أرب لك فيه؛ صوت مخطئ أراد أن يهدي إلى غيرك خيرا أو شرا، وأبى سوء الظن إلا أن يغلط به، فما زال يلح على أداة التليفون، وما زال الجرس يصلصل حتى أزعجك عن راحتك وأخرجك من نومك، واستلك من سريرك. ثم تسمع ثم تنكر، ثم ترد مغضبا أو غير مغضب، ثم تضع أداة التليفون كما ينبغي لها أن توضع عنيفا بها أو رفيقا، ثم تعود إلى نفسك، وإذا أنت تجد شيئا مرا بغيضا يصور الحنق على من أخرجك من نومك الهادئ المطمئن، وأزعجك عن راحتك واستقرارك، ويصور خيبة الأمل لأنك لم تجد من وراء هذا كله إلا هباء لا خطر له ولا غناء فيه.
وقد يصلصل جرس التليفون فيزعجك عن راحتك ويصرفك عن حلم لذيذ ويذود عنك نوما هنيئا، فإذا بلغت أداة التليفون سمعت صوتا تعرفه فأنبأك في أكثر الأحيان بما لا تحب، وابتدأ لك يوما منكرا؛ لأن الناس يبخلون عادة بما يسر من الأنباء، وتطيب أنفسهم عن الأنباء السيئة يعجلون بها إليك في غير أناة ولا رفق ولا استحياء.
وقد يصلصل جرس التليفون فيزعجك ويثقل عليك، ويكلفك من المشقة فنونا ومن الجهد ألوانا، حتى إذا سمعت لصوت من دعاك ضقت بالدنيا وضاقت الدنيا بك؛ لأنك تجد نفسك بإزاء رجل سخيف يسألك عن شيء سخيف أو يحمل إليك نبأ سخيفا، وإذا ابتدأت هذه الصلصلة المختلفة المتنوعة فهيهات أن تسكن أو تهدأ أو تقطع، وإنما هي متصلة ملحة، حتى تصبح جلجلة لا صلصلة، وحتى تبغض إليك الحياة والأحياء وما حولك من الأشياء.
ولست أدري أحاول بعض الناس أن يقارنوا بين اصطناع التليفون في مصر واصطناعه في غيرها من البلاد، ولكن الشيء الذي أحققه هو أن أهل القاهرة خاصة يسرفون على أنفسهم وعلى الناس في اصطناع التليفون إسرافا شديدا، لا يرفق أحد منهم بنفسه ولا يرفق أحد منهم بغيره، لا يفرقون بين العجلة والريث ولا بين ما ينبغي أن يؤدى من الرسائل في سرعة، وما يمكن أن ينتظر به إلى وقت يقصر أو يطول.
والمصريون أصحاب فصاحة ولسن وفيهم غرور وعجب، وهم يحبون أصواتهم ويحبون ألفاظهم ويحبون ما يصدر عنهم من قول أو عمل، وهم إذا بدءوا الحديث لم يعرفوا كيف يفرغون منه، وهم لا يفرقون بين الحديث الذي يسوقونه إليك وجها لوجه، والحديث الذي يسوقونه إليك من أقصى الخيط.
وهم يؤمنون بأنفسهم وبحقوقهم وبمنافعهم وبجدهم ولعبهم، ولا يكادون يؤمنون لأحد غيرهم بشيء من ذلك، وهم من أجل ذلك لا يقدرون أن التليفون أداة عامة قد أنشئت لينتفع بها الناس جميعا لا لينتفع بها إنسان بعينه دون غيره من سائر الناس، وهم من أجل ذلك لا يقدرون أن التليفون أداة قصد بها إلى التيسير والسرعة؛ فلا ينبغي أن تستخدم إلا عند الضرورة الملجئة وإلا أقصر وقت ممكن.
Неизвестная страница