وشكا ناقد شيخ في هدوء قائلا: «إنك تريد أن تقتل الأدب؛ فإن ازدراء الأدب الرفيع يشيع وقحا بغيضا في مجلتك.» ويصفني صاحب عقل صغير بأني قوي العقل، وهو وصف يرادف عنده الإهانة كل الإهانة، وكاتب آخر يزحف متثاقلا من حرب إلى حرب ويثير اسمه ذكريات متهالكة عند الشيوخ يلومني لأني لا أحفل بالخلود، وهو يعرف والحمد لله كثيرا من كرام الناس يعقدون به أعظم آمالهم.
ويرى صحفي أمريكي ضئيل أن خطيئتي هي أني لم أقرأ برجسون ولا فرويد، أما فلوبير الذي لم يلتزم فيظهر أنه يساورني كأنه الندم، وبعض الماكرين يغمضون عيونهم قائلين: «والشعر؟ والموسيقى؟ والتصوير؟ أتريد أن تلزمها هي أيضا؟» وبعض أصحاب العقول المتهيئة للحرب يقولون: ما القصة؟ أتريد الأدب الملتزم؟ فهي إذن طريقة الاشتراكيين المحققين القدماء إلا أن يكون تجديدا عنيفا للشعبية القديمة. «ما أكثر الحماقات! وما أسرع ما يقرأ الناس وما أقل ما يفهمون! وما أكثر ما يحكمون قبل أن يفهموا! فلنستأنف الحديث إذن، وهو حديث لا يسلي أحدا، ولكن يجب أن نثبت المسمار».»
على هذا النحو العنيف الساخر، يبدأ جان بول سارتر دراسته، وهو يهاجم النقاد؛ لأنهم يتحدثون دائما عن الأدب دون أن يبينوا ما يريدون بهذه الكلمة، وهو يريد أن يعيد تحديد الأدب من جديد على طريقة ديكارت الذي يتخفف قبل كل شيء من أثقال الأوهام والتقاليد، وما اتفق الناس على تسميته بالحقائق المقررة.
وأول هذه الأوهام التي يريد الكاتب أن يتخفف منها قبل أن يعرف الأدب هو هذا الوهم الذي يدفع كثيرا من الناس إلى إيجاد صلة دقيقة لازمة بين الأدب والفنون الرفيعة؛ فبعض الأدباء يتحدثون عن الموسيقى والتصوير حين يذكرون أدبهم، وبعض الموسيقيين والمصورين يذكرون الأدب حين يتحدثون عن موسيقاهم وتصويرهم.
وما من شك في أن هذه الفنون الرفيعة تتشابه من حيث إنها وسائل للتعبير عن إحساس الجمال والشعور به، ووسائل أيضا لإشراك غيرك معك فيما تحس من جمال بواسطة تعبيرك عن هذا الإحساس.
ولكن هذا شيء والاتصال الدقيق بين هذه الفنون بحيث تصدق عليها كلها أحكام دقيقة مشتركة شيء آخر؛ فإذا قيل إن الأدب يجب أن يلتزم ويحتمل التبعات ويتصل بحقائق الحياة، فليس معنى هذا أن الفنون الرفيعة الأخرى يجب أن تخضع لهذا الحكم؛ لأن هذه الفنون الرفيعة الأخرى تغاير الأدب مغايرة جوهرية.
فالموسيقى قوامها الأصوات الخالصة، والتصوير قوامه الألوان، والأدب قوامه الألفاظ، وهذه المواد متغايرة في جوهرها، فيجب أن تتغاير في آثارها وفيما تخضع له من الأحكام؛ فالأصوات التي تتألف منها الموسيقى، والألوان التي تأتلف منها الصورة، ليست علامات يراد بها شيء آخر غيرها، وإنما هي أشياء قائمة بنفسها مستغنية بنفسها، تأتلف فتدل على شيء، أو بعبارة أصح: تأتلف فتنشئ شيئا هو القطعة الموسيقية أو الصورة.
على حين أن الألفاظ في نفسها ليست أشياء مستقلة، وإنما هي علامات يدل بها على أشياء أخرى غيرها، والمصور حين ينشئ صورة بيت حقير لا يدل بصورته هذه على شيء أكثر من البيت الحقير الذي عرضه، وهو لا يوحي إليك بما قد يكون في هذا البيت الحقير من بؤس وضنك وحرمان وعذاب؛ لأنه لم يرد إلى ذلك، وإنما أراد إلى أن ينشئ بيتا حقيرا فأنشأه، على حين يدل الكاتب حين يصف هذا البيت الحقير على أكثر من البيت، يدل على ما يحتويه هذا البيت من آلام وأحزان وحسرات ويأس، وقد يبلغ بك إلى أبعد من هذا، فيثير في نفسك عواطف الإشفاق والرحمة، أو عواطف الغيظ والغضب، ويثير في نفسك بعد ذلك الرغبة في الإصلاح الاجتماعي، وقد يدفعك إلى محاولة الإصلاح دفعا.
فالألفاظ إذن وسائل غايتها المعاني التي هي عواطف وأحكام وحقائق خارجية، وليس هناك أمل في أن تطلب الألفاظ لنفسها أو يعنى بها الإنسان من حيث هي ألفاظ، إلا أن يكون مريضا أو مجنونا، وإذن فلا غرابة في أن يطلب إلى الكاتب أشياء لا تطلب إلى المصور ولا إلى الموسيقي؛ لأن فن الكاتب مغاير في مادته وجوهره لفن المصور والموسيقي.
إلى أي حد تستقيم هذه الملاحظة أو يستقيم هذا الحكم المطلق الذي يقرره جان بول سارتر واثقا به مطمئنا إليه، مستعليا به على خصومه؟ أما أن يبين الألفاظ التي يأتلف منها الأدب، والأصوات والألوان التي يأتلف منها التصوير والموسيقى تغايرا في المادة، فشيء ليس فيه شك ولا معنى للمراء فيه.
Неизвестная страница