وقد نقرأ كتبا تنقل إلينا من بلاد أوروبا الشمالية، وأخرى من بلاد أمريكا الجنوبية، وما أكثر ما نقرأ عن بلاد الشرق الأقصى، وما أكثر ما نقرأ عن بلاد أخرى لم تتحضر بعد! ولكن الأوروبيين قد زاروها واستعمروها وكتبوا عنها ونقلوا إلينا كثيرا من أنبائها، ثم إن ثقافتنا لا تتصل بالثقافات الأجنبية من طريق المكان وحده، ولكنها تتصل بها من طريق الزمان أيضا، فقد استكشف كثير من تاريخ الأمم، وعرض علينا في اللغات المختلفة، فنحن نعرف من تاريخ المصريين القدماء أكثر مما كان المصريون القدماء أنفسهم يعرفون من تاريخهم، وليس من شك في أن علمنا بتاريخ المصريين القدماء الآن، أدق وأعمق وأوسع من علم المصريين في أيام البطالسة بهذا التاريخ، وقل مثل ذلك عن تاريخ اليونان والرومان، وقل مثله عن تاريخ الفرس والهند، وما شئت من أقطار الأرض المتحضرة، فلا غرابة إذن في أن هذه الأبواب التي فتحت لنا على مصاريعها، ونفذت إلينا منها الثقافات الأجنبية المختلفة، تباعد بيننا وبين ما عرف العرب القدماء من حياة الأمم الأخرى، وقد استطاع أبو العلاء أن يقول:
ما مر في هذه الدنيا بنو زمن
إلا وعندي من أنبائهم طرف
ولو قد نشر أبو العلاء الآن لعرف أن الأطراف التي كانت عنده، لم تكن شيئا مذكورا بالقياس إلى الأطراف التي نأخذ نحن بها الآن، ومن المحقق أن الإنسانية ستقيس علمها في آخر هذا القرن، إلى علمنا نحن في هذه الأيام، فترثي لنا وتشفق علينا كما نرثي نحن لأبي العلاء ونشفق عليه، ومهما يكن من شيء فإن الفروق التي أشرت إلى بعضها، بين اتصال الأدب العربي القديم بالثقافات الأجنبية القديمة، واتصال الأدب العربي الحديث بالثقافات الأجنبية الحديثة، خليقة أن تنشئ فروقا خطيرة بين الأدبين في أنفسهما، وإذا كانت هذه الفروق لم تظهر واضحة جلية أثناء القرن الماضي، فإنها قد أخذت تظهر شيئا فشيئا أثناء هذا القرن الذي نعيش فيه، ولست أدري أين قرأت لبعض الأدباء الفرنسيين أن القرن العشرين بالقياس إلى الحياة الأدبية في فرنسا إنما يبتدئ بالحرب العالمية الأولى، وأكاد أقبل هذا التوقيت بالقياس إلى حياتنا الأدبية العربية، ففي أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن ظهرت المقدمات التي تنبئ بما كان أدبنا مشرفا عليه من تطور خطير. ظهرت آثار الشيخ محمد عبده وقاسم أمين والمويلحي وعبد الله نديم والبارودي وحافظ وشوقي ومطران، وكان هؤلاء جميعا وكثير من أمثالهم يصورون آخر عصر وأول عصر آخر، يصورون طورا من أطوار الانتقال؛ فهم كانوا يحافظون على كره، ويجددون على استحياء، ويرون أن الحياة القديمة قد انقضت أيامها، وأن فجر حياة جديدة قد أخذ ينتشر في الأفق شيئا فشيئا، ولم يكد هذا القرن يخطو خطوات قليلة حتى ظهر جيل من الشباب نظر إلى الحياة القديمة نظرة سخط عنيف، ونظر إلى قادة الرأي هؤلاء نظرة حب ورضا وإكبار، ولكن فيها كثيرا من الإشفاق والرثاء، وفيها ما يدفع أحيانا إلى الثورة والغضب، فقد كان هذا الجيل من الشباب الناشئ في أول القرن يقف من قادة الرأي موقف الأبناء من الآباء يحبونهم ويكبرونهم، ولكنهم يثورون بهم ويخرجون عليهم سرا دائما وإعلانا بين حين وحين، والذين يذكرون الأعوام التي سبقت الحرب العالمية الأولى في مصر خاصة، يذكرون من غير شك تلك الخصومات العنيفة التي ثارت بين الشباب والشيوخ في الصحف وفي الكتب والرسائل، ولعل منهم من يذكر عنف العقاد والمازني وطه حسين بشوقي وحافظ، ولعل منهم من يذكر عنف طه حسين بالمنفلوطي، ولعل منهم من يذكر كل تلك الخصومات التي كانت تثار حول الأدب وحول السياسة وحول حرية الرأي، في الصحف السيارة اليومية، وفي المجلات الشهرية والأسبوعية، وفي بعض الكتب التي كانت تذاع هنا وهناك، فقد كان هذا كله إنباء بأن تطورا خطيرا يوشك أن يمس الأدب العربي الحديث في أغراضه ووسائله، وفي تصوره وتصويره، وفي تقديره للأشياء والناس وحكمه على الأشياء والناس، وفي أثناء هذا الوقت كان التعليم المتواضع يزداد انتشارا وتغلغلا في طبقات الشعب، وكان الضمير الوطني يزداد يقظة وتنبها، وكانت المثل العليا في الحياة تتغير في نفوس الشباب تغيرا شديدا، وكان السلطان في مصر يضيق بذلك ويستعد لمقاومته، وكان هذا لا يزيده إلا استيقاظا وتنبها وإسراعا إلى التطور، ثم كانت الواقعة الكبرى التي هزت العالم كله خمس سنين، وانجلت عنه الغمرة، وإذا كثير جدا من شئونه يتغير في الحياة العقلية والاقتصادية والسياسية، وإذا مصر خاصة يصيبها من هذا التطور طرف لا بأس به، وإذا الجذوة المصرية تتوهج فترسل ضوءها وشررها إلى ما حولها من البلاد العربية، وإذا الأدب العربي يحيا في ذلك الوقت حياة عنيفة خصبة مختلفة لم يعرفها منذ زمن بعيد جدا.
ثم تتقدم الأعوام شيئا، وإذا قرارات تتخذ، ونظم توضع، من شأنها أن تغير الحياة الأدبية في الشرق العربي تغييرا خطيرا، فقد كان انتشار التعليم من المؤثرات في تطور الأدب قبل الحرب الأولى، ولكن انتشار التعليم كان محدودا ينظمه السلطان البريطاني في كثير من البخل والتقتير، ولكن أمور التعليم ترد إلى مصر بعد الحرب، فيتنوع ويزداد انتشارا، ويندفع في هذا التنوع والانتشار ويصدر الدستور فيلزم الدولة بإعطاء المصريين جميعا مقدارا من العلم يمكنهم من أن يقرءوا ويفهموا ويضطربوا في الحياة، وتجد الدولة في تنفيذ هذا الدستور منجحة حينا مخفقة حينا آخر، ولكنها تزيد عدد القارئين على كل حال، وقد ظفرت مصر منذ ثورتها في أعقاب الحرب بحظ من حرية التفكير والتعبير لم تعرفه من قبل، واشتدت فيها الخصومات حول المثل العليا في السياسة والأخلاق والاقتصاد والأدب والفن، فكان هذا كله أشبه شيء بالحطب الجزل يلقى في النار المضطرمة فيزيدها تلظيا واضطراما، وقد صدمت مصر بألوان من الكوارث في حياتها السياسية حدت من حرية الرأي والقول بين حين وحين، ولكنها زادت العقل المصري قوة وأيدا؛ لأنها علمته العكوف على نفسه، وفتقت له ألوانا من الحيل للتعبير عما كان يريد أن يعبر عنه، ولست أدري أكان من النافع أم غير النافع لمصر أن تتعثر في حياتها السياسية، ولكن الشيء الذي لا أشك فيه هو أن هذه الأزمات السياسية التي وقفت الإنتاج الأدبي شيئا ما، قد أنضجت هذا الأدب العربي ومنحته صلابة ومرونة في وقت واحد، علمته كيف يثبت للخطوب، وكيف ينفذ من المشكلات.
ولم تكن مصر منفردة بهذا التطور العنيف ولا بهذه الأزمات التي كانت تكبو بها مرة وتنهض بها مرة أخرى، وإنما كان هذا كله حظا شائعا لبلاد الشرق العربي كله تقريبا، فجرى التطور الأدبي متوازنا شيئا ما، ولكن مصر امتازت بمكانها من السبق في السياسة وفي الاقتصاد، وبما أتيح لها من الثروة التي مكنتها من الإسراع إلى نشر التعليم على اختلاف فروعه، ويكفي أن نلاحظ أن مصر أنشأت جامعتين في أقل من ربع قرن، ونشرت التعليم الثانوي في جميع عواصم الأقاليم، ونشرت التعليم الابتدائي في جميع المدن، ونشرت التعليم الأولي في كثير جدا من القرى. ذلك إلى تنوع هذا التعليم واختلاف فروعه، وإلى ما أنشئ من المؤسسات المختلفة التي تعنى بهذا الفرع أو ذاك من فروع المعرفة، وإلى إرسال الشباب إلى العواصم الأوروبية الكبرى، واستدعاء الأساتذة من هذه العواصم على اختلافها. كل هذا جعل مصر مركزا خطيرا من مراكز الثقافة العالمية في الشرق، وكل هذا فتح للأدباء أبوابا من التفكير وشق لهم طرقا إلى الإنتاج ما كانوا ليعرفوها لو جرت الأمور في مصر على ما كانت تجري عليه أثناء الاحتلال وقبل إعلان الاستقلال وإصدار الدستور.
ثم صدم العالم صدمته الثانية، وكانت الحرب العالمية الأخيرة، وذاقت مصر من مرارتها غير قليل، واصطلت بعض نارها ست سنين، وكان أهم ما مس الأدب من هذا كله فرض الرقابة على الإنتاج العقلي، ولست أدري إلى أي حد ضاق الأدباء بهذه الرقابة، ولكن الذي أعلمه هو أن هذه الرقابة لم تمنعنا من الإنتاج الأدبي الخالص، ولعلها صرفت بعضنا عن الأدب السياسي فاضطرته إلى إنتاج آخر لعله أن يكون أبقى وأجدى من الأدب السياسي، ولأضرب لذلك مثلا الأستاذ العقاد، فقد صرفته ظروف الحرب عن عنفه السياسي وقتا ما، ولست أعرف أضاق بذلك أم لم يضق، ولكني أعلم أنه دفع إلى ألوان جديدة من البحث والتفكير، وأنتج كتبا ما أشك في أن قراءه يؤثرون أيسرها على أدبه السياسي كله، وجملة القول أن الأدب العربي الحديث خضع أثناء ربع قرن لمؤثرات كثيرة مختلفة دفعته إلى تطور خطير من جميع نواحيه، دفعته إلى التطور في شكله وفي موضوعه، ودفعته إلى التطور سعة وعمقا وتنوعا واختلافا. ويكفي أن نستعرض الفنون التي يمارسها الأدباء لنتبين صدق هذا التقدير؛ فقد أدركنا هذا القرن وأدبنا العربي ينقسم إلى شعر ونثر، وكان شعرنا قديما يحاول التجديد، وكان نثرنا كتبا يسيرة وفصولا تنشرها الصحف، بعضها يمس السياسة، وبعضها يمس الحياة اليومية، وبعضها يحاول التعرض لبعض شئون الاجتماع، وقليل منها كان يفرغ للأدب الخالص فراغا تاما، وكان عندنا تمثيل نستعير قصصه من أوروبا ولا نكاد نجيد عرضه على النظارة، ولعلنا كنا نسيء إلى فن التمثيل أكثر مما كنا نحسن إليه، وكنا نحاول النقد فنذهب فيه مذاهب القدماء، وكان الشباب يريدون أن يجددوا هذا النقد فلا يظفرون إلا بالإعراض والإنكار، وقد حاول بعضنا أن يحدث في الأدب فنا جديدا، فحاول المويلحي رحمه الله أن ينشئ قصة فأنشأ مقامة طويلة، وحاول حافظ رحمه الله أن يتحدث إلى سطيح فلم يصنع شيئا.
أما بين الحربين فقد دفع أدباؤنا إلى الأعاجيب، وكان أول هذه الأعاجيب هذه الخصومات السياسية التي يسرت اللغة تيسيرا غريبا، ومنحت العقول حدة رائعة ونفاذا بديعا، واستطاعت أن تشغل الجماهير وتعلمهم العناية بالأمور العامة والاهتمام لها والتفكير المتصل فيها ، وأحدثت - أو قل أحيت - في النثر العربي فن الهجاء الذي أتقنه الجاحظ وقصر فيه من جاء بعده من الكتاب، فقد أصبح هذا الهجاء السياسي من أهم الألوان لأدبنا العربي الحديث، فيه الحدة والعنف وفيه المتعة واللذة، وفيه التنوع والاختلاف بتنوع الأمزجة واختلافها، وفيه الإيجاز والإطناب، وفيه التصريح والإشارة.
على أن هذه الخصومة السياسية لم تمس النثر وحده، وإنما ردت إلى شعرائنا الشيوخ شيئا من شباب، فاضطرمت نفس حافظ وشوقي رحمهما الله واستطاعا أن يتصلا بالجمهور بعد أن كانا قد بعدا عنه شيئا، وهذا الشباب الذي رد إلى شوقي في أعقاب الحرب العالمية الأولى دفعه إلى تقليد الشعراء التمثيليين الأوروبيين فأنشأ شعرا تمثيليا قد نرضى عنه أو لا نرضى عنه، ولكن كثيرا منه فتن الذين قرءوه وسمعوه في دور التمثيل.
وهذه الخصومة السياسية دفعت صحف الأحزاب المختصمة إلى التنافس فافتنت فيما جعلت تنشر من الفصول، وإذا الأدباء يستعرضون الأدب القديم يحيونه حياة جديدة بالنقد والتحليل، وإذا هم يستعرضون الآداب الأوروبية الحديثة يذيعونها ناقدين ومحللين ومترجمين، وإذا هم بعد هذا كله يرقون إلى إنشاء الدراسات التي تطول حتى تصبح كتبا تستقل بنفسها، وتقصر حتى تصبح فصولا تنشر في الصحف والمجلات، ثم يجمع بعضها إلى بعض فإذا هي أسفار قيمة يجد فيها القارئ نفعا ولذة ومتاعا، فهذا نوع جديد من الأدب عرفه الأوروبيون منذ زمن بعيد ولم نعرفه نحن إلا في هذا العصر الحديث، ثم ننظر فإذا تمثيل شعبي ينشأ فجأة يصور حياة الثورة وما استتبعته من تطور الأخلاق، وتغير القيم، وإذا نحن نشغف بهذا التمثيل الشعبي، ولكنا نشهده للهو وقطع الوقت ولا نرقى به إلى مرتبة الأدب الرفيع، فيشعرنا ذلك بأن للتمثيل مكانة أدبية يجب أن تعرف له في مصر، وإذا نحن ننشئ فرقة للتمثيل، وإذا القصص التمثيلية توضع لها حينا وتترجم لها أحيانا، وإذا أدبنا التمثيلي قد نشأ متواضعا ولكنه قد نشأ على كل حال، وكل هذا لا يكفينا، فقد قرأنا القصص الأوروبي طويله وقصيره ومتوسطه، وقرأناه في اللغات المختلفة، وسألنا أنفسنا شاعرين بذلك أو غير شاعرين: ما بالنا لا نقص في لغتنا كما يقص الأوروبيون والأمريكيون في لغاتهم؟ ثم حاولنا مقلدين أول الأمر، مبتكرين بعد ذلك، وإذا نحن نبلغ من الإجادة في هذا الفن الجديد حظا عظيما، وإذا قصصنا يشيع في الشرق العربي ثم ينقل إلى الغرب الأوروبي، وإذا قصصنا يختلف في موضوعه وأغراضه ومذاهب الكتاب فيه على نحو ما يختلف القصص الأوروبي في هذا كله، وإذن فنحن قد دفعنا شاعرين أو غير شاعرين إلى أن نسمو بأدبنا العربي إلى مكانة الآداب الحية الكبرى، وبلغنا من ذلك حظا ليس به بأس وإن لم نبلغ من ذلك ما نريد، ومتى بلغ الناس ما يريدون؟!
Неизвестная страница