فالمحنة كل المحنة هو هذا الازدواج بين طبيعة الحشرة القذرة، وطبيعة النفس الممتازة العاقلة، وهنا أيضا يلتقي فتى براج فرانز كفكا، وشيخ المعرة أبو العلاء.
والنقمة الكبرى عند أبي العلاء هي الحياة، والنعمة الكبرى هي فقدان الحياة، والذي يجعل النقمة نقمة هو هذا العقل الذي ركب في هذه الصورة الإنسانية فرأى الشر من قريب ولم يستطع أن يخلص منه، ولا أن يتخفف من أثقاله، ولا أن يتصور حياة إنسانية عاقلة تبرأ من التبعات.
فأنت ترى إلى الآن أن أدب فرانز كفكا يقوم، أو قد يدور حول هذه الأصول الثلاثة: وهي العجز عن الاتصال بالإله من جهة، والعجز عن فهم الخطيئة والتبرؤ منها مع الثقة بالتورط فيها من جهة ثانية، والعجز عن فهم العلل الغائية لما يكون في العالم من الخطوب والأحداث من جهة ثالثة.
وأنت إذا قرأت هذه الآثار الكثيرة التي نشرت لفرانز كفكا على اختلافها في الطول والقصر، وتفاوتها في الوضوح والغموض، رأيتها كلها تدور حول هذه الأصول، وقد يلح هذا الأثر أو ذاك في تجلية هذا الأصل أو ذاك، ولكن مجموعتها تنتهي بك دائما إلى هذه الخلاصة القاتمة السلبية، التي تجعل حياة الإنسان كلها عجزا وقصورا ويأسا أو شيئا قريبا جدا من اليأس.
ومن أجل هذا وصف أدب فرانز كفكا كما وصف أدب أبي العلاء بأنه أدب قاتم حالك، يفل العزائم ويثبط الهمم، ويصد الإنسان عن العمل ويرده عن الأمل، ويدفعه إلى نشاط عقلي عقيم، يدور حول نفسه أكثر مما يدور حول غيره، ولا يحفز الناس إلى طمع أو طموح، وإنما يمسكهم في لون من الخوف المنكر، الذي لا أمن معه ولا اطمئنان.
ومن أجل هذا حرقت كتب كفكا في برلين أثناء الحكم الهتلري، ومن أجل هذا أيضا كان اليساريون في فرنسا يبغضون هذه الكتب أشد البغض، ويودون لو يحال بينها وبين الشباب، ويعبرون عن هذا كله بهذه الجملة التي كثر حولها الحديث في فرنسا أثناء الصيف الماضي: «يجب أن يحرق فرانز كفكا.»
وواضح جدا أن هذه العبارة ليست إلا رمزا؛ فتحريق الكتب لا يغني شيئا، ويكفي أن تحرق الكتب ليزداد انتشارها، إنما المهم هو أن هذا الأدب القاتم مثبط لهمم الشباب، فلا ينبغي أن يخلى بينه وبين الشباب.
والقارئ العربي يعرف حق المعرفة أن آثار أبي العلاء تعرضت لمثل هذا الشر الذي تعرضت له آثار فرانز كفكا، ولكن الشرق قد يكون أعظم تجربة من الغرب في بعض الظروف.
وقد رأى الشرق العربي أن آثار أبي العلاء على غلوها في التشاؤم والحلوكة لم تثبط الهمم، ولم تفل العزائم، ولم تصرف عن العمل، ولم ترد عن الأمل، وإنما منحت النفوس خصبا وفطنة وذكاء، وحالت بين العقل الإنساني وبين الغرور الذي يطغيه ويدفعه إلى كبرياء عقيمة مهلكة فاضطرته إلى أن يضع نفسه حيث وضعه الله، فلا يسرف على نفسه بالبغي والطغيان، ولا يزعم لنفسه القدرة على فهم كل شيء والنفوذ إلى دقائق ما في الكون من أسرار.
وسواء رضي الناس أم سخطوا، فإن التشاؤم ظاهرة طبيعية في حياة العقل والشعور تبدو في ظروف معينة ملائمة لها، كالظروف التي أحاطت بفرانز كفكا، وما زالت تحيط بكثير من كتاب الأدب المظلم في أوروبا وأمريكا، وكالظروف التي أحاطت بحياة أبي العلاء منذ عشرة قرون.
Неизвестная страница