ولم أعرض عليك تفصيل هذه القصة، كما أني لم أعرض عليك تفصيل القصة الأولى، وإنما اكتفيت هنا كما اكتفيت هناك بهذه الخلاصة اليسيرة التي تصور لك ما أراد إليه الكاتب من تصوير الإنسان إليه غريبا معلقا لا يدري من أين جاء، ولا إلى أين يمضي، وإنما يخيل إليه أنه قد دعي وأن له عملا ينبغي أن يؤديه، ثم يحال بينه وبين هذا العمل، وتضيع حياته في هذه الجهود المجدبة التي لا تغني عن أصحابها شيئا.
ولو قد استطاع أن يصل إلى القصر ويتحدث إلى من فيه، لعرف جلية الأمر، ولكن الأسباب منقطعة بينه وبين القصر، فهو لا يستطيع أن يصل إليه، القصر موجود، ما في ذلك شك، يسكنه أهله وسادته، ما في ذلك شك، وهو يدبر أمر القرية والمقيمين فيها والطارئين عليها، ما في ذلك شك، ولكنه يدبر هذا الأمر من بعيد، ولا يتيح للمقيمين ولا للطارئين أن يتصلوا به أو يراجعوه في قليل أو كثير.
فموقف الكاتب هنا كموقفه هناك، لا ينكر وجود القوة القاهرة المدبرة، ولكنه لا يعرف كيف يتصل بها، ليتبين جلية أمره، وليعرف لماذا يجب عليه أن يفعل، ولماذا يجب عليه أن يترك، ولماذا يحتمل ما يحتمل من التبعات.
أما القصة الثالثة «أمريكا» فلعلها أن تكون أقل إحراجا وإرهاقا من هاتين القصتين، ولكنها على ذلك لا تخلو من الحرج والضيق والألم، وهي كذلك لا تنتهي إلى غاية ، ويستطيع ماكس برود - صديق الكاتب - كما يستطيع غيره من النقاد أن يرى في هذه القصة شيئا من أمل، وأن يظن أنها تدل على أن الكاتب قد ثاب إلى الثقة قبل أن يموت.
أما أنا فلا أرى من ذلك شيئا، وكل ما في الأمر أن بطل القصة صبي لا يتجاوز السادسة عشرة من عمره، فأمره رفيق بعض الشيء، ولكنه منته إلى مثل ما ينتهي إليه أمر غيره من هذا الغموض الذي لا غاية له.
واسم هذا الصبي كامل غير منقوص، وهو كارل روسمان، وأوله «الكاف» كما ترى، وقد سخط عليه أبواه؛ لأن خادما أغوته فنفياه من أوروبا إلى أمريكا، وفي أمريكا تختلف عليه الأحداث، فمن نعيم ويسر إلى بؤس وعسر، ومن استقامة ووضوح إلى التواء وغموض. ثم ينتهي الأمر به بعد كثير من الخطوب إلى أن يقبل عاملا في فرقة تمثيلية غامضة أشد الغموض، وقد وضع مع زملائه في قطار يذهب به إلى غير غاية معروفة.
فأنت ترى أن المذهب هو هو، لم يتغير، هذا الصبي عبثت به خادم، وقسا عليه أبواه فنفياه، وتلقته أحداث غامضة مبهمة متناقضة مضادة لأخلاقه وآماله، ثم يوضع آخر الأمر في قطار يمضي به إلى مكان مجهول، ثم نحن لا نعلم من أمره بعد ذلك شيئا، أتراه وصل إلى المدينة التي أرسل إليها أم لم يصل؟ وما عسى أن يكون عرض له من الأحداث أثناء السفر قبل أن ينتهي القطار إلى غايته إن كان قد انتهى إليها؟ أتراه قد قبل حقا في هذه الفرقة التمثيلية، فقد كان قبوله الأول مبدئيا، أريد به إلى التجربة لا إلى الاستقرار.
كل هذه أمور مجهولة يخيل إلينا الكاتب أن جهلها ناشئ من أنه لم يتم القصة؛ ولكن لم لم يتم القصة؟ لأنه لم يعرف كيف يتمها، وهو لم يعرف كيف يتمها لأنه لا يعرف كيف تتم قصة الإنسان مهما يكن أمره، ومهما تكن الظروف التي تحيط به، ولأنه لا يعرف كيف تتم قصته هو؛ فهو غير مطمئن إلى أن الموت يختم قصة الإنسان، ولكنه لا يعرف عما يكون بعد الموت شيئا.
وهو غير مطمئن إلى أن هذه الحياة التي نحياها لم يقصد بها إلا إلى هذه الأغراض اليومية التافهة التي نحاول تحقيقها فنحقق أقلها، ونعجز عن تحقيق أكثرها، ولكنه لا يعرف عن الأغراض العليا التي يمكن أن تكون الحياة وسيلة إليها شيئا.
محنته الكبرى ومشكلته التي لم يجد لها حلا، هي أنه لم يستطع أن يستكشف الصلة بين الإنسان وبين الإله، وما مصدر العجز عن استكشاف هذه الصلة؟ إن الإنسان يشعر شعورا قويا متصلا بوجود الإله، ويحاول محاولة مستمرة ملحة أن يسمع كلمته ويتلقى أمره ليصدع بهذا الأمر، فيبرأ من الإثم، ويخرج من الخطيئة، ويتخفف من ثقل التهمة التي ألقيت عليه، فلا يجد إلى ذلك سبيلا.
Неизвестная страница