وأغرب من ذلك أنك حين تفرغ من القراءة، لا تنتهي إلى ما يحسن الاطمئنان إليه والسكوت عليه، وإنما أنت معلق بعد الفراغ من القراءة، كما كانت معلقا في أولها وفي وسطها، ذلك لأن الكاتب لا يتم قصته، وإنما يقتضبها اقتضابا، وينتهي بها إلى شيء لا يصلح أن يكون غاية لقصة أو كتاب.
ومصدر ذلك في أكبر الظن أن الكاتب نفسه لا يعرف لنفسه غاية يقف عندها أو أمدا ينتهي إليه، وإنما هو يمضي بقصته في طريقها ما وسعه المضي، حتى إذا أدركه الإعياء أو انتهى إلى بعض الطريق، وجد أمامه سدا منيعا لا يستطيع أن يتجاوزه، فوقف حيث ينتهي به السعي، واستأنف السير في طريق أخرى، وانتهى من هذه الطريق الأخرى إلى مثل ما انتهى إليه في الطريق الأولى، فوقف ثم استأنف السير في طريق ثالثة. وما يزال كذلك يبدأ الطرق ولكنه لا ينتهي منها إلى غاية؛ لأنه هو فيما بينه وبين نفسه يائس من الغاية أو كاليائس منها.
فخذ مثلا قصصه الثلاث الكبرى؛ وهي: القضية، والقصر، وأمريكا. فستراه يبدأ قصته الأولى بدءا قريبا كل القرب، غريبا كل الغرابة، فيفرض عليك أن تصحبه في هذه الطريق التي يريد أن يمضي فيها؛ فهذا رجل لم تتقدم به السن، ولكنه قد جاوز الشباب شيئا، يفيق من نومه ذات صباح، وينتظر أن تحمل إليه الخادم طعام الإفطار، ولكن الخادم لا تحمل إليه شيئا، بل لا تدخل عليه، وإنما يدخل عليه رجلان يزعمان له أنهما يمثلان الشرطة، وأنهما قد أقبلا للقبض عليه، وهما يدعوانه في شيء من العنف إلى أن ينهض من سريره ويدخل في ثيابه، ويلحق بهما في غرفة مجاورة ليبدآ معه التحقيق.
وهو دهش لهذا الحادث منكر له، ضيق بهذين الشرطيين، ولكنه مع ذلك مضطر إلى أن يطيع؛ فإذا لحق بالشرطيين في الغرفة المجاورة وجدهما قد أكلا طعامه غير حافلين به ولا آبهين له.
ثم تلقى عليه أسئلة سخيفة لا خطر لها، ثم ترد إليه حريته، ويقال له إنه يستطيع أن يذهب إلى حيث يشاء، وأن يمارس عمله في المصرف الذي يعمل فيه، ولكن عليه أن يعلم أنه متهم، وأنه سيدعى ذات يوم للمثول بين يدي القضاة ليسألوه عن التهمة الموجهة إليه.
والشرطيان ينصرفان عنه، ويثوب هو إلى نفسه، حائرا أول الأمر، ثم ساخطا، ثم منكرا لهذا التصرف، ولكنه قلق يريد أن يتبين جلية هذه القصة، وهو يسأل نفسه فيطيل السؤال دون أن يظفر بجواب، وهو يقبل على عمله كما تعود أن يفعل، ولكن قلقا قد استقر في نفسه، إن أمكن أن يستقر القلق في النفوس.
والشيء الذي لا شك فيه أنه يسعى قليلا قليلا إلى الثقة بأنه متهم، وبأن من الحق عليه ومن الحق له أن يدافع عن نفسه، وفي ذات يوم يدعى إلى التليفون ، فيقال له إن عليه أن يحضر إلى المحكمة يوم كذا، ويدل على مكان هذه المحكمة، وهو مكان غريب لا صلة بينه وبين الأماكن المعروفة للمحاكم ودور الشرطة.
فإذا كان اليوم الموعود ذهب إلى حيث طلب إليه أن يذهب، فرأى عجبا أي عجب؛ رأى دارا كبيرة قذرة متداعية، تكثر فيها السلالم والدهاليز، ولا يهتدي الناس فيها إلى طريقهم إلا بعد جهد شديد، وهي على ذلك دار مسكونة كغيرها من الدور التي يسكنها الفقراء وأوساط الناس، وما يزال يسأل ويبحث ويستقصي، حتى يصل إلى غرفة المحكمة، فيرى جمهورا من الناس غريبا، ويرى جماعة من الموظفين قد جلسوا مجلس القضاء، فيقول لهم ويسمع منهم، وهو لا يفهم عنهم، كما أنهم لا يفهمون عنه، وكما أن النظارة لا يفهمون عنه، ولا عن هؤلاء الموظفين.
ثم ينصرف وقد استقر في نفسه أنه متهم وإن لم يعرف طبيعة التهمة، وقد استقر في نفسه أن من الحق أن يبرئ نفسه أمام القضاة، ولكنه لا يعرف من هؤلاء القضاة، ولا أين يكونون، ولا كيف يصل إليهم! لأنه لم ير في المحكمة إلا جماعة من صغار الموظفين.
وهو ينفق حياته في محاولات شاقة مرهقة ليعرف تهمته وليدافع عن نفسه، فيتصل بكبار المحامين وصغارهم، وبقوم آخرين ليسوا من المحاماة في شيء، وأولئك وهؤلاء يعدونه بالدفاع عنه وتبرئته إن وجدوا إلى تبرئته سبيلا، ولكن أحدا منهم لا يبين له طبيعة تهمته، ولا يدله على مكان القضاة، ولا يلمح له بطريقة الدفاع عنه، وإنما هو أمل يتبعه يأس، ويأس يتبعه أمل، وحيرة مهلكة للنفوس.
Неизвестная страница