بوائق في أكمامها لم تفتق
فرانز كفكا
مر بهذا العالم مرا سريعا، فلم يعش فيه إلا أربعين عاما، أنفق جزءا غير قليل منها في الطفولة والصبا، متأثرا بما حوله غير مؤثر فيه، متلقيا ما ينحدر إليه من أبويه اللذين منحاه الحياة، وما يقدم إليه أبواه أثناء التربية من ألوان التصور للأشياء، والتقدير لها، والحكم عليها، والوقوف أمامها، قابلا حينا ورافضا حينا آخر، متلقيا كذلك ما تقدم إليه بيئته الخاصة التي تحيط به وبأسرته في مدينة براج، في أواخر القرن الماضي، من ألوان الحضارة وفنون الحياة التي كانت الطبقة الوسطى تحياها في ذلك الوقت.
ثم أنفق بعض هذا الأمد طالبا في المدارس الثانوية ثم في الجامعة، مندفعا بميله الأول إلى العلم، ثم متحولا عن العلم التجريبي إلى الفقه والقانون، حتى إذا أتم دراسته التمس عملا يكسب منه القوت، ليظفر بشيء من الحياة المستقلة، فوجد هذا العمل في شركة من شركات التأمين.
وهو في أثناء ذلك يتكلف أسفارا قصيرة في وطنه وفي ألمانيا وسويسرا، وإيطاليا وفرنسا. ثم لا يكاد القرن العشرون يتقدم قليلا، حتى يقضي عليه الموت سنة 1924. وقد ولد 1883.
فحياته العاملة الظاهرة كما ترى قصيرة جدا، بسيطة جدا، ليس فيها عوج ولا التواء، وليس فيها تكلف ولا تعقيد، ومع ذلك فلم يعرف التاريخ الأدبي كثيرا من الأدباء تعقدت حياتهم النفسية، والتوت بهم طرق الإحساس والشعور والتفكير، كهذا الأديب، والذين يدرسون حياته النفسية هذه في آثاره الكثيرة يردون تعقيدها إلى طائفة من المؤثرات، قريبة في نفسها، ولكنها بعيدة أشد البعد فيما نشأ عنها من ضروب الشعور والتفكير.
فقد كان أديبنا من أسرة يهودية تعمل في التجارة، متأثرة أشد التأثر، وأيسره في الوقت نفسه، بالتقاليد اليهودية المتوارثة، في شرق أوروبا ووسطها؛ فهي محافظه أشد المحافظة على هذه التقاليد السطحية التي يحافظ عليها اليهود، وهي في الوقت نفسه متهاونة أشد التهاون في حقائق الدين ودقائقه، ترى أنها قد أدت الواجب على وجهه إذا اختلفت إلى المعبد في أوقات معلومة، فسمعت ما يسمع الناس، وقالت ما يقولون، وأتت من الحركات والأعمال ما يأتون، دون أن يتجاوز شيء من هذا كله أطراف اللسان وأعضاء الجسم، إلى دخائل النفوس وأعماق القلوب فدينها ظاهر من الأمر، كدين غيرها من عامة الناس، صور وأشكال لا تمس الضمير، ولا تؤثر في السيرة اليومية، ولا توجه الحياة الداخلية والخارجية إلى وجه دون وجه، وإنما الحياة الداخلية والخارجية موجهتان دائما بما وجه حياة الناس، على اختلاف أديانهم وعقائدهم.
من هذه الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي تدفع الناس إلى العناية بمنافعهم القريبة العاجلة، أكثر من العناية بحقائق الدين ودقائقه، وبتعمق الحياة وما يكون فيها من الأحداث، وما يمكن أن يكون لها من الأغراض العليا والغايات البعيدة.
ولذلك لم يلبث أديبنا أن ضاق بهذه الحياة الدينية الظاهرة المتكلفة، التي تقوم على النفاق أكثر مما تقوم على الإيمان؛ فجحد دين الأسرة والشعب اليهودي أولا، ثم جحد الدين نفسه بحقائقه ودقائقه بعد ذلك، وأقام حائرا لا يستطيع أن يعود إلى دين آبائه؛ لأن عقله لا يطمئن إلى هذا الدين، ولا يستطيع أن يستغني عن حياة دينية صادقة تعمر القلب، وتملأ الضمير ثقة واطمئنانا؛ فهو ينكر من جهة أشد الإنكار، ويسعى من جهة أخرى أشد السعي، إلى أن يجد ما يؤمن به قلبه، وترتاح نفسه إليه.
وهذه المحنة القاسية التي امتحن بها في إيمانه، قد نشأت عنها محنة أخرى ليست أقل منها قسوة وعنفا، وليست أيسر منها تأثيرا في حياته الداخلية؛ فقد امتحن أديبنا في الصلة بينه وبين أبيه، أنكر سيرة أبيه في الدين؛ لأنه لم ير فيها صدقا ولا إخلاصا، ثم أنكر سيرة أبيه في الأسرة؛ لأنه رآها تقوم على التسلط والاستطالة وعلى القوة والقهر أكثر مما تقوم على الرحمة والحب وعلى البر والعطف والحنان، ثم أنكر سيرة أبيه في تدبير منافعه التجارية المختلفة؛ لأنه رآها تقوم على الحرص والأثرة وانتهاز الفرص، أكثر مما تقوم على القصد والعدل والإنصاف، فنظر إلى أبيه على أنه طاغية مخيف، ولم يستطع أن ينظر إليه إلا على هذا النحو، وأقام الصلة بينه وبين أبيه على الإشفاق والخوف، ثم على المصانعة والمداراة، ولم يستطع أن يقيمها على شيء آخر من هذا التعاطف الرقيق الرفيق الذي يكون بين الأبناء والآباء.
Неизвестная страница