فانحياز أنصار العدل في فرنسا إلى روسيا كانحياز أنصار الحرية فيها إلى أمريكا، ظاهرة يمكن أن تقاس إلى انحياز المسلمين في وقت من الأوقات إلى عاصمة الخلافة، وإلى انحياز النصارى في وقت من الأوقات إلى عاصمة المسيحية في روما.
على أن هذا الاختلاف بين المذهبين لم يلبث أن تعقد بعد الحرب العالمية الأولى بظهور مذهب وسط يريد أن يحتفظ بالحرية وأن يحقق العدل في الأرض، ولكنه لم ينظر إلى الحرية من حيث هي ولا إلى العدل من حيث هو، وإنما نظر إليهما جميعا من ناحية خاصة هي ناحية الدين.
فأنصار العدل من الشيوعين والاشتراكيين يعتمدون قبل كل شيء على المادية التي تجحد الديانات جحودا تاما، وتنظر إلى الحياة الاجتماعية على أنها نتيجة لازمة لتطور تاريخي محتوم، وأصحاب الحرية، ولا سيما منذ الثورة الفرنسية، لا يكادون يحفلون بالدين، ولا يكادون يلقون إليه بالا.
فإذا أمكن أن ينشأ مذهب ثالث بين هذين المذهبين يلائم بين الحرية والعدل من جهة وبين الدين من جهة أخرى، ويتخذ الدين أساسا لحياة إنسانية جديدة ترتفع عن المادة، وترقى إلى المثل العليا، وتؤمن بأن في الإنسان قوة لا تستطيع أن تحيا ولا أن تثمر ولا أن تتيح للإنسان حظه في الرقي إلا إذا اتصلت بمصدرها القدسي الأول من طريق الإيمان والثقة والأمل، أقول: إذا أمكن أن ينشأ هذا المذهب كان في نشوئه الخير كل الخير؛ لأنه يصلح ما أفسدت الثورة، فيرد إلى الدين مكانته في القلوب وسلطانه على النفوس، ويعصم الناس من المادية الجامحة والإلحاد المتمرد، ويكفل لهم في الوقت نفسه نصيبا معتدلا من الحرية، ويتيح لهم في الوقت نفسه سعيا متصلا إلى تحقيق العدل في الأرض.
وكذلك نشأت الاشتراكية المسيحية التي لا تقيم العدل على الجبر التاريخي، ولا تجعل الإصلاح نتيجة للتطور المادي، ولا تلغي حرية الفرد ولا حرية الجماعات، وإنما تقيم أمور الناس على التعاطف والتعاون والحب، وتجمع قلوبهم حول هذه المثل الإنسانية والإلهية العليا.
وليس من شك في أن أهوال الحربين العالميتين كان لها أعظم الأثر في إنشاء هذا المذهب وانتشاره وانتصاره في بعض الأقطار، فهذه الأهوال التي صبتها الحرب على الناس، وهذه الكوارث التي تغلغلت في حياة الأفراد والجماعات، وهذه القسوة التي قطعت ما بين الناس من أرحام أمر الله أن توصل، كل هذا قد زهد الناس في الإيمان بسلطان العلم وتفوقه، وصرفهم عن هذه الفتنة التي ملأت قلوبهم وملكت أمرهم في القرن الماضي، واضطرهم إلى التفكير في أن العلم ليس كل شيء، وفي أن العقل ليس كل شيء، وفي أن الإنسان لا يأتلف من العقل والجسم فحسب، ولكن له ملكات أخرى لا ينبغي أن تهمل وحاجات أخرى لا ينبغي أن تزدرى.
ومن أهم هذه الملكات ملكة الشعور، ومن أهم هذه الحاجات الحاجة إلى الإيمان بقوة قدسية مدبرة لشئون الإنسان تسمو به إلى الخير، وتنهاه عن الشر، وتنأى به عن الموبقات.
وقد أعان على انتشار هذا المذهب وانتصاره بعد الحرب العالمية الثانية، أن أتيح حق الانتخاب للنساء في أكثر الشعوب الأوروبية بعد أن كان هذا الحق مقصورا على الرجال؛ ولذلك انتصرت الاشتراكية المسيحية في فرنسا أخيرا بانتصار الحركة الجمهورية الشعبية على حساب الاشتراكيين الماركسيين، وانتصرت الديمقراطية المسيحية في إيطاليا على حساب الاشتراكية الماركسية أيضا، وأصبحت هذه الاشتراكية المسيحية الجديدة قوة لها خطرها في الحياة السياسية لأوروبا الغربية بوجه عام.
ولست أدري أيتاح لهذه الاشتراكية المسيحية فوز متصل أم هي أعقاب الحرب لا تكاد تمضي عليها الأعوام حتى تعود الحياة الأوروبية إلى طبيعتها، ويستأنف الصراع عنيفا بين هذين المذهبين: مذهب الحرية ومذهب العدل، ذلك أن هذا المذهب الاشتراكي المسيحي جميل رائع في نفسه، مثله في ذلك مثل مذهب العدل ومذهب الحرية، ولكنه لا يكاد يخرج إلى الوجود اليومي ويعالج مشكلات الحياة الطارئة حتى يصيبه ما يصيب المذهبين من هذه الأعراض التي تبغضه إلى فريق من الناس وتحببه إلى فريق.
فالاشتراكية المسيحية لا تلغي رأس المال، وإذن فسيطمئن إليها رأس المال، وسينفر منها طلاب المساواة الخالصة والعدل المطلق. والاشتراكية المسيحية لا تنكر الإصلاح الاجتماعي، وإنما تدفع إليه دفعا وقد تتطرف فيه أحيانا، وإذن فسيستغلها المتطرفون لتحقيق بعض ما يريدون، وسيشفق منها المحافظون؛ لأنها تكلفهم أكثر مما يريدون أن يتكلفوا.
Неизвестная страница