وليس لأحد من المنتصرين جيش في إسبانيا الفاشية، ولو قد وجد هذا الجيش لانحازت إسبانيا الفاشية إلى مذهب الحرية إن كان الجيش بريطانيا أو أمريكيا، وإلى مذهب العدل إن كان الجيش روسيا.
ولكن إسبانيا ليست محتلة؛ ولذلك كان موقفها دليلا واضحا على اشتداد الخصومة بين هذين المذهبين؛ فأما أنصار العدل وهم الروسيون والفرنسيون حين كان الأمر في فرنسا إلى اليسار، فيريدون إلغاء النظام الفاشي في إسبانيا، وإن أدى ذلك إلى التدخل العسكري في الشئون الإسبانية.
وأيسر ما يطلبونه أن تقطع العلاقات السياسية بين جميع الدول المنتصرة على اختلاف مذاهبها وبين إسبانيا الفاشية، وأن تعترف الدول المنتصرة بالحكومة الإسبانية المنفية التي أقامت في أمريكا اللاتينية حينا وتريد أن تنتقل إلى فرنسا في هذه الأيام، وهم يعتمدون فيما يطلبون على أن الديمقراطية المنتصرة لا ينبغي أن تسمح للفاشية بالبقاء، على أن نظام الأمم المتحدة وميثاق سان فرنسسكو يفرضان ذلك فرضا، وعلى أن إسبانيا الفاشية قد ظاهرت ألمانيا وإيطاليا لأنها مدينة لهما بالوجود.
ولكن البريطانيين والأمريكيين يؤمنون هنا بحرية الشعوب إيمانا يوشك أن يكون تعصبا؛ فالشعب الإسباني حر في اختيار الحكومة التي تسيطر على أمره، وما ينبغي للسلطان الخارجي أن يتدخل في الشئون الإسبانية الخالصة، ولا أن يفرض على إسبانيا حكومة وإن كانت ديمقراطية، ولا أن يخلص إسبانيا من حكومة وإن كانت فاشية قد حاربت الديمقراطية وأعانت عليها ما وجدت إلى ذلك سبيلا.
ونتيجة هذا كله أن الشعب الإسباني نفسه منقسم في ظاهر الأمر على الأقل فريق منه يريد أن يعود إلى نظام الجمهوري اليساري، وفريق آخر يريد أن يحتفظ بالنظام الفاشي الميامن. فأما قبل الحرب فقد أقبلت ألمانيا وإيطاليا في غير تردد على تأييد النظام الفاشي في إسبانيا بالسلاح، وأما بعد الحرب وبعد انتصار الديمقراطية، فإن بريطانيا العظمى وأمريكا تأبيان حتى قطع العلاقات السياسية مع الفاشية الإسبانية التي أعانت على الديمقراطية ودبرت لها ألوان الكيد.
فالأمر كله إذن إنما يرجع، قبل كل شيء وبعد كل شيء، إلى الصراع بين هذين المذهبين: مذهب الحرية الذي يعتمد على رأس المال، ومذهب العدل الذي يعتمد على الشيوعية.
وكما أن روسيا ألقت ستارا حديديا من دون الشرق الأوروبي والجنوب الأوروبي؛ فإن بريطانيا العظمى وأمريكا تلقيان ستارا حديديا آخر من دون الغرب الأوروبي، وكل هذا قد يكون له خطره في مستقبل العالم.
ولكن هناك ما هو أشد خطرا من هذا كله، وهو أن الشعوب نفسها منقسمة في حياتها الداخلية أشد الانقسام، ينحاز فريق منها إلى الحرية فيتبع بريطانيا العظمى وأمريكا، ويستعين بهما على خصومه إن احتاج إلى ذلك، وينحاز فريق آخر إلى العدل فيتبع روسيا، ويستعين بها على خصومه إن احتاج إلى ذلك وينشأ عن هذا أن تصبح كلمة الاستقلال من الكلمات الجوفاء التي لا تدل الآن على معنى محقق في حياة هذه الشعوب.
وقد كان من المضحك حقا أثناء الصراع الانتخابي في فرنسا أن يتهم أنصار الحرية خصومهم بأنهم يتلقون الأمر من موسكو، ويريدون أن يجعلوا فرنسا ذيلا لروسيا، وأن يتهم أنصار العدل خصومهم بأنهم يتلقون الأمر من واشنطن ويريدون أن يجعلوا فرنسا ذيلا لأمريكا.
والواقع أن أولئك وهؤلاء كانوا يسرفون، ويعلمون أنهم يسرفون؛ فقد أصبحت فكرة العدل أساسا لمذهب من المذاهب يوشك أن يكون دينا، وأصبحت فكرة الحرية أساسا لمذهب من المذاهب يوشك أن يكون دينا أيضا؛ فالذين ينحازون إلى هذا المذهب أو ذاك ويؤمنون بهذا الدين أو ذاك، مضطرون بالطبع إلى أن يظاهروا شركاءهم في الرأي وإخوانهم في الدين.
Неизвестная страница