ولذلك تحتفظ بلجيكا وهولندا، كما تحتفظ فرنسا وبريطانيا العظمى بحرية واسعة شديدة السعة للأفراد والجماعات، وتحاولان تحقيق شيء من العدل لتسكتا هؤلاء الطامعين فيه المطالبين به الذين لا ينفكون يجأرون بطلب العدل الاجتماعي حين يمسون وحين يصبحون.
وليس من اليسير أن نتبين ميول ألمانيا المنهزمة؛ فهي لم تظفر بعد بهذا القدر اليسير من الحرية لتعرب عما تريد في مستقبلها القاتم، ولكنها على كل حال قد قسمت بين المنتصرين يحتل كل منهم جزءا من أرضها، وهؤلاء المنتصرون يهيئون الشعب الألماني أو يحاولون تهيئته لما يحبون ويألفون من مذهب في السياسة والاجتماع؛ فأوروبا الغربية وأمريكا تهيئان جزءا من الشعب الألماني أو تحاولان تهيئته لهذه الديمقراطية التقليدية التي تؤثر الحرية على العدل، وتتخذ الإصلاح الاجتماعي وسيلة إلى إرضاء الطبقات البائسة من جهة، وإلى الدفاع عن نفسها والاحتفاظ بما بقي لها من السلطان والقوة من جهة أخرى.
ولكن روسيا السوفيتية تحتل جزءا عظيما من ألمانيا، وهي تهيئه أو تحاول تهيئته لمذهبها في السياسة والاجتماع، ومذهبها واضح معروف؛ فهي تؤثر العدل والمساواة وإلغاء التنافس والتزاحم والتفوق والامتياز على الحرية وما تستتبع من اصطراع بين الأفراد والجماعات واستباق، إلى تحقيق المنافع واستئثار بهذه المنافع إذا تم تحقيقها.
وهذا الخلاف العنيف القائم بين هاتين القوتين - قوة الحرية في أمريكا وغرب أوروبا، وقوة العدل في روسيا - هو الذي جعل حياة المنتصرين عسيرة منذ وضعت الحرب أوزارها في الشرق والغرب، وهو الذي حال بينهم وبين الاتفاق حين اجتمعوا في أكتوبر الماضي، وحين اجتمعوا في أبريل ومايو، ويوشك أن يحول بينهم وبين الاتفاق حين يجتمعون بعد أيام قليلة في باريس.
وليس الستار الحديدي الذي يقال إن روسيا قد ألقته من دون جزء عظيم من أوروبا الشرقية والجنوبية إلا سورا منيعا يحول بين الحرية والعدل، وبين أن يلتقيا وجها لوجه، ويصطدما في ميدان واحد؛ فأوروبا الغربية خاضعة للحرية، وما تستتبع من تنافس وخصام، وأوروبا الشرقية خاضعة للعدل وما يستتبع من تسلط وقهر وكبح لجماح المنافع والأطماع.
وإذا أجرت الأمة اليونانية انتخاباتها بأعين الإنجليز والفرنسيين والأمريكيين وكانت نتيجة هذه الانتخابات ميامنة لا مياسرة، قال الروسيون: إن هذه الانتخابات لم تجر حرة، ولم تكن بمأمن من تدخل الديمقراطية الغربية، وما يسندها من رأس المال.
فإذا دبرت بلغاريا ورومانيا والمجر ويوجسلافيا وتشكوسلوفاكيا شئونها بالانتخابات أو بإقامة الحكومات المؤقتة، وكانت نتيجة هذا كله انحراف هذه الأمم إلى اليسار، قال الإنجليز والأمريكيون والفرنسيون معهم: إن هذه الأمم ليست حرة في تقرير مصيرها، وإنما هي متأثرة بالسلطان الروسي العنيف في كل ما تعمل وفي كل ما تقول.
وليس لهذا كله معنى إلا أن الشعوب الصغيرة في أوروبا قد اضطرت هي أيضا إلى التذبذب بين مذاهب الأقوياء من أنصار الحرية والعدل، فهي في غرب أوروبا منحازة إلى الحرية؛ لأن الأقوياء من المنتصرين هناك ينحازون إليها، وهي في شرق أوروبا وجنوبها منحازة إلى العدل؛ لأن الأقوياء هناك ينحازون إليه.
والواقع أن إرادة هذه الشعوب لم يتح لها ما ينبغي أن يتاح لها من الفرص لتظهر جلية لا يشوبها لبس ولا غموض، وقد يكون الموقف الإسباني من أوضح الأشياء دلالة على هذه الخصومة بين العدل والحرية.
ويجب أن نلاحظ أن التسلط والقهر هما الأداتان اللتان يصطنعهما العدل كما تصطنعهما الحرية، يدافع بهما كل منهما عن نفسه، ويثبت بهما كل منهما سلطانه؛ فالجيش البريطاني هو الذي أيد الحرية في اليونان على حساب العدل، والجيش الروسي هو الذي أيد العدل في شرق أوروبا على حساب الحرية.
Неизвестная страница