ومنيتني حتى إذا ما ملكتني
بقول يحل العصم سهل الأباطح
تناءيت عني حين لا لي حيلة
وغادرت ما غادرت بين الجوانح
وهم يحبون من المثل العليا هذا التدلل والامتناع، وهم يستمتعون بلذة هذه النار التي تضطرم بين جوانحهم وتحرق قلوبهم شوقا إلى العدل، وهم يكرهون أن تخمد هذه النار وأن تبرد جوانحهم، وأن يبلغوا العدل فيطمئنوا إلى أنهم بلغوه.
وهم يحبون الحرية على نحو آخر، يحبون أن يأخذوها بين أيديهم ويضموها إلى صدورهم ويستمتعوا منها بأعظم حظ ممكن، لا ينالون منها حظا إلا طمعوا في حظ أعظم منه، ولا يفقدون منها شيئا إلا تقطعت قلوبهم عليه حسرات.
ذلك لأن هناك فرقا خطيرا جدا بين الاستمتاع بالحرية والاستمتاع بالعدل؛ فالاستمتاع بالحرية يثير هذه اللذة المتعبة؛ لأنه يدفع إلى العمل والنشاط، ويغري بالكد والجد، ويمنع الإنسان من أن يريح ويستريح، أما الاستمتاع بالعدل فمريح حقا؛ لأنه يقتل الطمع ويغري بالرضا ويزين القناعة في القلوب، أو قل يفرض القناعة على القلوب فرضا.
فأي غرابة في أن يكون الإنسان أشد إيثارا للحرية التي تملؤه قوة ونشاطا وتدفعه إلى الأمل والعمل، وتمسكه في هذا القلق الحلو المتصل الذي لا يعرف الرضا ولا يحب الاطمئنان، منه للعدل الذي لا يثير قوة ولا نشاطا، ولا يدفع إلى مزيد من أمل أو عمل، والذي يملأ القلوب أمنا ورضا ويعصمها من القلق والخوف!
والأمر في سائر أوروبا الغربية كالأمر في فرنسا وبريطانيا العظمى: حب مؤكد للحرية، وحرص مصمم عليها، وطموح إلى العدل كما يطمح العشاق العذريون إلى من يعشقون.
وحسبك أن تنظر إلى بلجيكا وهولندا، فهما كبريطانيا العظمى وفرنسا تمجدان العدل وتغنيان بمحاسنه، ولا تكرهان أن تحققا منه شيئا في الأرض البلجيكية والهولندية مختارتين أو مضطرتين، ولكنهما في الوقت نفسه تؤثران الحرية أشد الإيثار: تؤثرانها في السياسة الخارجية؛ فالعدل لم يخلق لأندونسيا مثلا ولا للكونجو البلجيكية، كما أنه لم يخلق للمستعمرات البريطانية والفرنسية وللشعوب الضعيفة بوجه عام. وهو إن كان قد خلق لأوروبا، فإنما خلق لها لتصيب منه بمقدار كالملح الذي يصلح قليله الطعام، فإذا كثر فسد له الطعام فسادا شديدا.
Неизвестная страница