فالشعب الإنجليزي مثلا حين تخلص من سلطان المحافظين في العام الماضي وألقى بمقاليد الأمر إلى العمال، لم يزد على أن انحرف من طريق الحرية المحافظة إلى الشمال حيث العدل، أو قل - إن شئت - حيث الطموح إلى العدل، وحيث التضحية، أو قل - إن شئت - حيث الاستعداد للتضحية بكثير من حرية الفرد والجماعة في سبيل تحقيق هذا العدل، ولكن الشعب الإنجليزي نفسه حين يضطر حكومة العمال إلى أن تلتزم سياسة محافظة خارج بريطانيا العظمى، فلا تفرط في شيء من مستعمراتها، ولا تتخلى عن قليل من مصالحها في البلاد التي تخضع لنفوذها قليلا أو كثيرا، وإنما تستمسك بالإمبراطورية كما تلقتها من حكومة المحافظين، وتحافظ على مصالحها في أقطار العالم كله على نفس النحو الذي كان يصطنعه المحافظون، أقول: إن الشعب البريطاني حين يضطر حكومة العمال إلى أن تسلك هذه الطريقة لا يزيد على أن يتراجع فينحرف من شمال إلى يمين، ويضحي بشيء من العدل ليستبقي حريته تلك التي أتاحت له أن يستذل ويستغل جزءا عظيما من الأرض.
والشعب البريطاني حين يتخلص من سلطان المحافظين ويجعل أمره إلى العمال، ويتيح لرئيس وزرائه ووزير خارجيته أن يتحدثا عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، وعن حق العالم في أن يخلص من الاستعباد والاستبداد، يخطو خطوة إلى الشمال في سبيل العدل الدولي، ولكنه لا يلبث أن يعود أدراجه ويخطو خطوة إلى يمين في سبيل الاحتفاظ بحريته القديمة التي كانت تتيح له أن يتحكم في مصير الشعوب، وإذا هو يذهب في سياسته مع اليونان ويوجوسلافيا نفس المذهب الذي كان يذهبه المحافظون.
وهذا الشعب البريطاني نفسه يخطو خطوة إلى شمال حين يعلن رئيس وزرائه ووزير خارجيته أنه يريد الجلاء عن مصر بلا قيد ولا شرط، ثم لا يلبث أن يعود أدراجه بتأثير المحافظين، وإذا هو يشترط للجلاء شروطا تلغيه، ويقيده بقيود تمنعه من الحركة والنشاط؛ لأنه يضحي بالعدل الدولي في سبيل حريته التي تتيح له أن يتحكم في مصير مصر، فلا يجلو عنها إلا حين يريد وبالشروط والقيود التي يريد أن يعرضها.
وهذا الشعب البريطاني نفسه يخطو خطوات إلى الشمالي حين «يؤمم» طائفة من المرافق البريطانية، ثم يتردد ويتراجع حين يعرض لتأميم طائفة أخرى من المرافق، يلغي حرية الأفراد والجماعات في سبيل العدل، ولكنه يلغيها بمقدار لأنه لم يؤمن بالعدل إيمانا كافيا، ويحتفظ بهذه الحرية للأفراد والجماعات بالقياس إلى بعض المرافق الأخرى؛ لأنه لم يؤمن بالعدل إيمانا كافيا أيضا؛ فهو مذبذب بين الطموح إلى العدل والاحتفاظ بالحرية، وكل المصاعب التي يلقاها وكل المشكلات التي تأتلف منها حياته إنما تأتيه من هذا التذبذب بين العدل الذي يقتضيه التضحية بحرية التسلط على الأمم والشعوب والتحكم في مصير الدول والأقطار، وبين الحرية التي تحتفظ له بالقدرة على أن يتحكم في مصير هذه الأمم والشعوب.
والشعب الفرنسي يذهب هذا المذهب نفسه، فهو يتذبذب بين الحرية والعدل، يقبل على انتخاباته العامة في أكتوبر الماضي فيندفع اندفاعا قويا إلى شمال، ويؤلف الكثرة في جماعته التأسيسية من الشيوعيين والاشتراكيين، وإذا هو يؤمم طائفة من مرافقه، ثم لا يلبث أن يأخذه الخوف ويملكه الذعر، وإذا هو يرفض الدستور الذي وضعته له هذه الجماعة التأسيسية الشمالية، فإذا طلب إليه أن ينتخب جماعة تأسيسية أخرى انحرف إلى يمين فألف كثرتها من المعتدلين وجعل اليساريين لهم تبعا أو شيئا يشبه التبع، ودل بذلك على أنه يريد العدل ولكن بمقدار، ويحرص على الحرية أكثر مما يحرص على أي شيء آخر.
وقد أنسى أشياء كثيرة قبل أن أنسى حديثين دار أحدهما بيني وبين رجل من عامة الشعب في مارسيليا قبل رفض الدستور بيوم واحد؛ فقد قال لي هذا الرجل إنه سيرفض الدستور إذا كان الغد لأنه لا يريد دستورا يساريا، ولكنه سيصوت لليساريين بعد ذلك؛ لأنه يريد الإصلاح الاجتماعي، ولا يريد برلمانا رجعيا أو حكومة مسرفة في الاعتدال.
ودار الآخر بيني وبين أستاذ من أساتذة السوربون في باريس بعد أن رفض الدستور بيومين، وهذا الأستاذ يساري الميل متطرف في حبه لليسار، ولكنه رفض الدستور مع أصحاب اليمين، فلما كلمته في ذلك قال: نعم؛ رفضت الدستور لأني لا أريد أن أخضع للرقابة فيما أنشر من الكتب وما أذيع من الفصول وما ألقي من الدروس والمحاضرات. فهو إذن يريد العدل، ولكن بشرط ألا يقيد هذا العدل حريته حين يكتب أو يقول.
وصاحب الصناعة يستطيع أن يقول كما قال هذا الأستاذ نفسه، رفض الدستور اليساري لأنه لا يريد أن يخضع للرقابة فيما تنتج مصانعه وفيما تغل عليه من ربح، وكذلك يتردد الفرنسيون كما يتردد جيرانهم البريطانيون بين العدل والحرية؛ يطمحون إلى العدل ولكنهم يخافون منه إذا كمل وشمل كل شيء، ويحرصون على الحرية ولكنهم لا يكرهون تقييدها حين تضطرهم الظروف إلى ذلك.
وقل إن شئت إنهم يؤثرون الحرية على كل شيء، ولا يضحون بقليل منها إلا ليحتفظوا بما يستطيعون أن يحتفظوا به؛ فهم يتحدثون عن العدل كما كان مستر تشرشل يتحدث عن استقلال الشعوب أثناء الحرب.
يتحدثون عن العدل على أنه من هذه المثل العليا التي يتوق الإنسان إليها ويجد في تحقيقها، ولكنه لا يبلغها لأنها من الظرف واللطف والأناقة بحيث تحسن الدلال وتمتنع على الطامحين إليها والطامعين فيها، تغريهم بنفسها وتدعوهم إلى محاسنها، ولكنها تنأى عنهم كلما دنوا منها، وتتركهم يتمثلون قول جميل لبثينة:
Неизвестная страница