فلا رأي للمضطر إلا ركوبها
وليس للشرق الأدنى بد من أن يركب هذه الأسنة، فإذا أراد أن يحيد عنها أو أن يتجنب ركوبها، فلن يجد إلى ذلك سبيلا، وحسبه أن يعلم أن هذا ليس مقصورا عليه، وإنما هو المصير المحتوم لكل جزء من أجزاء العالم بعد أن ألغيت مسافات الزمان والمكان .
والناس يقولون في كثير من الصواب: إن العالم الآن موضوع للنزاع بين قوتين عظيمتين تريد كل منهما أن تسيطر عليه وتنشر فيه سلطانها، وتخضعه لما يقتضيه ذلك من مذاهبها في السياسة ونظمها الاجتماعية المختلفة، وهاتان القوتان قد تعاونتا أثناء الحرب العالمية الثانية، فاتفقتا ما ظلت الحرب قائمة حتى كسبتا النصر، ثم لم تستطيعا أن تمضيا في الاتفاق فعجزتا عن تنظيم السلم.
وقد انتهت الحرب في أوروبا منذ عام وبعض عام، وما زال المنتصرون عاجزين عن أن يقروا السلم وينظموه؛ لأنهم عاجزون عن أن يتفقوا فيما بينهم، وليس الخلاف بينهم مقصورا على تقسيم الغنائم وتوزيع الأسلاب، ولكنه أبعد من ذلك مدى وأشد من ذلك عنفا؛ لأنه يتجاوز الدول المنتصرة نفسها لما تملك من حول وطول ومن قوة وأيد، إلى الشعوب التي تمثلها هذه الدول.
فالشعوب نفسها مختلفة فيما بينها أشد الاختلاف، يريد بعضها أن يسلك طريق الحرية على أن يكون العدل تابعا للحرية لا متبوعا، ويريد بعضها الآخر أن يسلك طريق العدل على أن تكون الحرية نافلة تتحقق إن سمح العدل بتحقيقها، ويضحى بها إذا لم يكن بد من التضحية بها في سبيل العدل الشامل والمساواة الكاملة بين الناس.
ثم تختلف الشعوب في حياتها الداخلية نفس هذا الاختلاف بين الدول، فتكون فيها الأحزاب المتباينة التي يذهب بعضها مذهب الحرية الكاملة، ولا يتردد في التضحية بالعدل إذا اقتضت الحرية هذه التضحية، ويذهب بعضها مذهب العدل الشامل، ولا يتردد في إهدار الحرية إذا اقتضى تحقيق العدل إهدارها.
وكذلك يشهد العالم هذا المنظر الرائع الغريب: دول تختلف فيما بينها تختصم حول الحرية والعدل، وأحزاب تختلف فيما بينها تصطرع حول الحرية والعدل، وأفراد يختلفون فيما بينهم يتمارون في الحرية والعدل.
والحياة تمضي متعثرة في طريقها لا تكاد تخطو خطوات إلى أمام حتى تضطر إلى أن تنحرف إلى يمين أو إلى شمال، وقد تضطر أحيانا إلى أن ترجع القهقرى، وتعيد للناس نظما كانوا يظنون أنها قد ذهبت إلى غير رجعة ومضت إلى غير مآب.
وقد يبلغ من اضطراب الشخص الواحد أن يذهب إلى مذهب الحرية إذا أصبح، فلا يكاد يمسي حتى يذهب مذهب العدل، وقد يبلغ من اضطراب الشعب الواحد أيضا أن ينحرف اليوم إلى يمين ليؤيد الحرية، فإذا كان الغد انحرف إلى شمال ليؤيد العدل، وهو بهذا التذبذب بين اليمين والشمال لا يحقق حرية ولا عدلا، وإنما يمضي في الاضطراب ويغرق في الارتباك إلى أذنيه، وقد يغرق معه أمما وشعوبا أخرى؛ لأنها خاضعة له أو متأثرة به قليلا أو كثيرا.
هذه كلها حقائق يسيرة قريبة يلاحظها الإنسان حين يقرأ صحف الصباح، وحين يقرأ صحف المساء، وكل ما في الأمر أنه ينظر إليها نظرة سريعة غير متعمقة ولا مستأنية، ينظر إليها كما ينظر إلى أحداث الحياة اليومية التي يغيرها مر الغداة وكر العشي.
Неизвестная страница