فهذه العيوب التي يحصيها بعض الهجائين على بعض عيوب اجتماعية لا فردية في أكثر الأحيان، وهذه القصائد التي تفيض بهذا الهجاء ليست إلا صورا قاتمة لحياة العرب في العراق، كما كان يراها الهجاءون. من هذه الصور ما يسوء ويملأ القلوب حزنا، ومن هذه الصور ما يثير السخرية ويدفع إلى الضحك العريض.
وقد رأيت في أول هذا الحديث أن الأدب الأسود ليس كله حزنا، وأن من الملاهي المضحكة ما هو أشد سوادا من المأساة؛ فالهجاء إذن في ذلك العصر قد كان فنا من فنون الأدب الأسود ابتكره العرب الإسلاميون ابتكارا قبل أن ينتصف القرن الأول.
ولم يكن هؤلاء الهجاءون من الشيعة ولا من الخوارج، وإنما كانوا من الجماعة المحافظة، وإذن فقد كان الأدب الأسود غالبا على حياة العرب أيام بني أمية، على عكس ما يقدر الذين يؤرخون الآداب العربية.
وما أريد أن أتجاوز العراق إلى الحجاز، ولا أن أسأل عن لون الأدب الحجازي في ذلك الوقت؛ فقد بينت في غير هذا الحديث أنه لم يكن صافيا ولا ناصعا، وأن غزل الغزلين ولهو اللاهين إنما كان نوعا من التسلي عن الهم، والتعزي عن الخطوب، والاستعانة بالحب الواقعي أو العذري على نسيان ما كان أهل الحجاز يشقون به من فراغ في الطبقة الغنية وحرمان في طبقة الفقراء، ومعنى ذلك أن أدب الحجاز لم يكن أقل سوادا من أدب العراق.
ولم يكد القرن الثاني يتقدم حتى انتهت هذه الاضطرابات إلى غايتها، فكانت الثورة، وأديل لبني العباس من بني أمية، وأديل للفرس من العرب، فهل عفى هذا كله على آثار الأدب الأسود، وأنشأ مكانه أدبا أبيض ناصعا جميلا؟ مسألة فيها نظر، وأحسبها تنتهي بنا إلى شك مريب؛ فقد نشأ جيل جديد من الشعراء والكتاب، استقبلوا فنونا جديدة من الشعر والنثر، ولكن أكانت نفوس هؤلاء الأدباء مشرقة؟ أكانت آثارهم صورا لهذه النفوس المشرقة؟ لقد لها أهل العراق في القرن الثاني كما لها أهل الحجاز في القرن الأول.
وأكاد أعتقد أن لهو أهل العراق لم يكن أقل سوادا من لهو أهل الحجاز؛ فقد خيبت الثورة آمال كثير من المثقفين الذين كانوا ينتظرون منها خيرا كثيرا، ومن أجل ذلك وجدت الدولة العباسية الجديدة مقاومة من أنصارها بعد أن ظفرت بخصومها، مقاومة بالسيف أحيانا وباللسان دائما؛ فالمنصور يقتل أبا مسلم، ويمكر بعلي بن عبد الله حتى يقتله ، والشيعة العلويون يعارضون الدولة الجديدة بسيوفهم وألسنتهم كما كانوا يعارضون الدولة القديمة، والخوارج ماضون في ثورتهم يظهرون ليستخفوا، ويستخفون ليظهروا.
والمطالبة بالعدل ما زالت قائمة، والنظر في المشكلات الفلسفية يزداد قوة وتعمقا وانتشارا، وبشار يهجو المنصور والمهدي، وابن المقفع يترجم الكتب في التخويف من السلطان، وينتهي أمره إلى موت شنيع، والزندقة تشيع في أمصار العراق، والدولة تنصب لهذه الزندقة وأصحابها حربا لا هوادة فيها ولا لين، وكثير من المثقفين الممتازين يقدمون وقودا لهذه الحرب، وأظن أن شيئا من هذا كله ليس من شأنه أن يدعو إلى إشراق النفوس، ولا إلى إنتاج الأدب المشرق.
ونظرة سريعة إلى الأدب الذي كان ينشأ في ذلك الوقت تظهرنا على أنه لم يكن في جملته صفوا ولا عفوا ولا رائقا؛ لأن حياة الأدباء لم تكن صافية ولا رائقة؛ فقد قتل بشار وقتل ابن المقفع وقتل غيرهما وسجن آخرون؛ فإذا رأيت ابن المقفع يخوف من السلطان، وإذا رأيت بشارا يهجو السلطان، ويسخر من الرعية، وينكر الدين، أو يفضل النار على الطين والشيطان على الإنسان، وإذا رأيت أبا العتاهية يزهد في الحياة ويبغضها إلى الناس، وإذا رأيت أصحاب المجون يسرفون على أنفسهم ويسخرون من كل شيء في غير تحفظ ولا احتياط - إذا رأيت هذا كله فسل نفسك: أكانت الحياة رائقة تنتج أدبا رائقا، أم كانت قاتمة تنتج أدبا قاتما شديد الإظلام؟
وما ينبغي أن تخدعنا ظواهر الأمور عن حقائقها؛ فنحن نرى في الشعر مدحا للخلفاء والوزراء وقادة الدولة وسادتها، فنستنبط من هذا المدح، كما تعود مؤرخو الآداب أن يستنبطوا أن الأدباء كانوا راضين عن الخلفاء والوزراء، وعن القادة والسادة، وأنهم كانوا يهدون إليهم المدح مخلصين.
ونحن نقرر في الوقت نفسه أن المدح كان يشترى بالمال، وأن الشعراء كانوا يتنافسون في إرضاء القادرين على منح الجوائز الضخمة، ثم نحن لا نلائم بين هاتين الحقيقتين الواقعتين، أو لا ننتهي من هذه الملاءمة إلى غايتها، فنقرر حقيقة واقعة ثالثة، وهي أن كثرة هذا المدح لم تكن إلا رياء ووسيلة إلى كسب الحياة، وإلى كسب ما يحتاج إليه الأحياء من ألوان الترف والنعيم.
Неизвестная страница