1
فشعر الشيعة المضطهدين، وشعر الخوارج الثائرين، لا يروق لأنه يظهر الحياة جميلة خلابة، ولا يعجب لأنه يظهر لنا محاسن هذا العالم، وإنما يؤثر في النفس لأنه يبين لنا أن هذه الحياة بعيدة كل البعد عن أن ترضي أو تسر، قريبة كل القرب من أن تسخط وتسوء؛ لأن الظلم عليها غالب والفساد فيها شائع، ولأنها قد فقدت شيئا خطيرا لا تطيب الحياة إلا به ولا تستقيم إلا عليه، وهو العدل الذي يعطي كل ذي حق حقه، ويسوي بين الناس في مواجهة الحياة واحتمال خطوبها، والاستمتاع بما فيها من نعيم ولذة، والشقاء بما فيها من بؤس وألم.
فالشيعة يطلبون العدل الذي يرد السلطان إلى مستحقيه من أهل البيت، والذي يمكن الأئمة أن يملأوا الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا، وشعر الشيعة في ذلك الوقت إنما يكتسب سواده وإظلامه من تصوير هذا الظلم الذي صب على المختارين من أهل البيت، فحرمهم الاستمتاع بحقهم، وحرم الناس ما كانوا وحدهم قادرين على أن يشيعوه بينهم من العدل، وعلى أن يسوسوهم سياسة تحملهم على الجادة، وتسلك بهم السبيل الواضحة إلى نعيم الدنيا والآخرة جميعا.
وشعر الخوارج بل أدب الخوارج كله، لا يعجب ولا يروق إلا لأنه يصور ما ينقص حياة الناس من إقرار العدل في الأرض، وتحقيق المساواة بين المسلمين، وهم حين يتغنون بلاءهم في الحروب، وجهادهم لأصحاب السلطان، وسفكهم لدماء المصانعين للحكام، وبيعهم أنفسهم لله يجاهدون في سبيله فيقتلون ويقتلون، لا يصورون حياة ناصعة رائعة، ولا عيشا ناعما سعيدا.
والذين يؤثرون منهم القعود، ويحاولون الاعتذار عن أنفسهم من إيثار العافية، لا يحبون الحياة لأنها خير في نفسها، ولا لأنها تتيح لهم نعيما يستحق أن يحرصوا عليه، وإنما يؤثرون الحياة؛ لأنهم يرونها وسيلة إلى دفع شر لا يدفعه الموت، وإلى تحقيق قليل من الخير قد لا يعينهم الموت على تحقيقه.
فهذا القاعد يؤثر الحياة بأن له بنات عاجزات يخاف عليهن البؤس والشقاء، ويريد أن يعصمهن من الذل والابتذال، وهذا القاعد الآخر يؤثر الحياة لأنه يمتحن بها نفسه ويعودها احتمال المكروه، والصبر على الفتنة، والنفاذ من الخطوب، وهو يراها عبئا ثقيلا يتقرب إلى الله باحتماله، ويتنقل بهذا العبء بين أحياء العرب في البادية، وبين مدنهم في الحاضرة، لعله أن يذيع فيهم كلمة الحق، ولعله أن يحمل بعضهم على الخروج.
فالحياة الواقعة بغيضة إلى الشيعة؛ لأنها قائمة على الظلم، والحياة الواقعة بغيضة إلى الخوارج؛ لأنها قائمة على الظلم أيضا، وأولئك وهؤلاء، وغير أولئك وهؤلاء، يفكرون ويقدرون، ويلتمسون للظلم علله، لعلهم يستطيعون أن يزيلوها فيتاح لهم إزالة الظلم ويلتمسون إلى العدل سبله لعلهم يستطيعون أن يسلكوها؛ فيتاح لهم تحقيق العدل.
وهم حين يفكرون ويقدرون يلقون على أنفسهم هذه المسألة الخالدة: ما موقف الإنسان من القضاء والقدر؟ أحر هو فمن حقه ومن الحق عليه أن يحتمل التبعات، ويخوض إلى الحق والخير والعدل غمرات النضال والجهاد والموت؟ أمجبر هو فينبغي له أن يستسلم وأن يذعن، وأن يستقبل الحياة لا راضيا عنها ولا ساخطا عليها؛ لأنها لا تستحق رضا ولا سخطا، ولأن الرضا والسخط لا قيمة لهما إذا لم يصدرا عن إرادة حرة تستطيع أن تختار وأن تغير من شئون الحياة ما لا تحب؟
وكذلك ألقيت هذه المسألة على العقل الإسلامي وشقي بها الناس، قبل أن يتجاوز القرن الأول للهجرة ثلثيه.
فأما مسألة العدل، فقد ألقيت على العقل الإسلامي في أيام النبي نفسه، وكان الإسلام هو الذي ألقى هذه المسألة حين دعا إلى إنصاف الضعيف من القوي، وإلى تحقيق المساواة بين المسلمين، لا ينبغي أن يتفاضلوا إلا بالتقوى، وقد عرض القرآن وعرضت سيرة النبي على المسلمين صورة رائعة للعدل حببته إلى نفوسهم، وزينته في قلوبهم، ودفعت فريقا منهم إلى الغلو في طلبه، وإلى التشدد في تحقيقه؛ فوجد بينهم من أغضب النبي نفسه حين ألح عليه في تحقيق العدل، حتى قال له النبي: ويحك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟!
Неизвестная страница