وليس في شيء من هذا كله جديد؛ فمن الكتاب من يتفاءل دائما، ومنهم من يتشاءم دائما، ومنهم من يأخذ من التفاؤل والتشاؤم بطرف، ولكن الجديد هو أن من الأوروبيين من يلونون هذه الآداب المتباينة ألوانا مختلفة، ويسمونها بهذه الألوان؛ فالأدب الخالص للتشاؤم أدب أسود، والأدب الخالص للتفاؤل، والأدب الملائم بين التفاؤل والتشاؤم يأخذان ما يريد الكاتب أو المتحدث أن يسبغ عليهما من الألوان حين يريد العبث أو الدعابة، وهذا كله لا يزيد على أن يكون نحوا من أنحاء التحذق، وفنا من فون الإغراب.
ولأمر ما لا يكاد الأوروبيون في هذه الأيام يحفلون بأدب التفاؤل، ولا بالأدب الذي يتوسط بين التفاؤل والتشاؤم، وإنما يعنون العناية كلها بالأدب الأسود الذي يخلص للتشاؤم، ويصور الحياة في أبشع صورها وأقبح مناظرها، لا يخفي ولا يحاول أن يخفي من ذلك شيئا، بل يجتهد في إظهار الخفي وتوضيح الغامض، واستكشاف ما لا يهتدي الإنسان إليه من سيئات الحياة، ومن ضعة الحظ الذي كتب للإنسان في هذه الحياة.
وأكبر الظن أن المحن التي امتحنت بها أوروبا في هذا القرن، والخطوب التي صبت على الإنسانية في الحربين العالميتين، وما تكشفت عنه نفوس الأفراد والجماعات من أثرة لا حد لها، وضعة لا سبيل إلى وصفها، وضعف أمام الأحداث، وتخاذل أمام الكوارث كل ذلك قد أظهر الإنسانية على سيئاتها، وكشف لها مخازيها، وعلمها أنها ليست من الرفعة والسمو ولا من الطهر والنقاء بحيث كانت تظن حين كانت حياتها مطمئنة راضية.
وهذه الظاهرة التي نراها الآن في أوروبا، ظاهرة الإقبال على التشاؤم، والإنتاج للآثار القائمة، والإعجاب بالأدب الأسود؛ هذه الظاهرة نفسها ليست جديدة، وإنما هي شيء ألفته الإنسانية منذ أقدم عصورها؛ فهي متفائلة مبتهجة حين تكون حياتها راضية مطمئنة، وهي متشائمة مبتئسة حين تعصف بها الخطوب ويشيع في حياتها القلق والخوف.
وقد نستطيع أن نسجل في هذا الحديث السريع بعض الظروف التي بدت فيها هذه الظاهرة قوية جامحة توشك أن تكتسح كل شيء، وتوشك أن تسبغ على الأدب بنوع خاص هذه الظلمة القاتمة، وهذا السواد المخيف.
والأدب اليوناني بالطبع قد سبق إلى الخضوع لهذه الظاهرة في القرن الخامس قبل المسيح، حين اضطربت حياة العالم المتحضر في ذلك الوقت بالاصطدام بين اليونان والفرس، وحين اضطربت حياة اليونان أنفسهم بالاصطدام بين الأتينيين والإسبارتيين، وليس من شك في أن الهول الذي انتشر في بلاد اليونان بحكم هذه الحروب المتصلة قد حمل العقل اليوناني قبل كل شيء على أن يفكر في الحياة، ويحاول أن يعلل ما فيها من خير وشر، ومن نعيم وبؤس، وهو لم يكد يعرض لهذا الموضوع حتى ثارت أمامه هذه المشكلات الإنسانية الخالدة التي تتصل بالعلاقة بين الإنسان والآلهة، بل بين الإنسان والقضاء الذي يسيطر على حياته ويصرفها كما يشاء هو لا كما يشاء الإنسان.
وليست المأساة اليونانية وآياتها الخالدة إلا مظهرا من مظاهر هذه الحيرة، التي سيطرت على العقل اليوناني حين صور لنفسه هذه المشكلات، وأراد أن يجد منها مخرجا ويلتمس لها حلا.
وكان الجواب الأول الذي ألقاه العقل على الإنسان وصورته المأساة أروع تصوير، هو أن هناك قوة قاهرة ماكرة ليس لأحد عليها سلطان، لا من الناس، ولا من الآلهة أنفسهم، وهذه القوة هي القضاء المحتوم الذي لا يستطيع أحد لأحكامه نقضا ولا تغييرا.
وكل ما في الأمر أن في الوجود طبقتين تتمايزان من جهة، وتتشابهان من جهة أخرى؛ إحداهما: طبقة الآلهة التي لا تخضع لغير القضاء، والتي تمتاز بشيء من القوة وظاهر من الحرية.
والثانية: هي الإنسان الذي لا يخضع للقضاء وحده، أو قل: لا يخضع للقضاء مباشرة، وإنما يخضع له من طريق الآلهة الذين ينفذون فيه الأمر، ويمضون فيه الإرادة المحتومة؛ فالأقدار مثلا قد كتبت على أويدبوس أنه سيقتل أباه، وسيتزوج أمه، وسيكون له منها ابنان يقتل كل منهما صاحبه في موقعة حاسمة، وابنتان تموت إحداهما في سبيل أداء الواجبات الدينية لأحد أخويها حين يدركه الموت، وتأبى الدولة إلا أن تتركه بالعراء نهبا لسباع الطير.
Неизвестная страница