هذا هو ماركوس كراسوس الذي اختارته روما لقتال الثائرين، وأرسلت معه جيشا ضخما حسن العدة، فما زال يتتبع الثائرين يقهرهم حينا ويقهرونه حينا حتى ألجأهم إلى شبه الجزيرة، يأخذهم البحر من أكثر أقطاره ويأخذهم هو من قطره الأخير، وهناك حصر الثائرين، فاحتفر بينه وبينهم خندقا وأقام على هذا الخندق سورا منيعا وانتظر أن يلقوا إليه بأيديهم، وقد تعرض الثائرون لجهد هائل، فقد انقطعت عنهم الميرة حتى ألح عليهم الجوع والظمأ والمرض، وهم زعيمهم سبارتاكوس أن يستعين بالقرصان على تموينهم، فعبثوا به وأخذوا منه ماله ولم يمنحوه إلا المواعيد، وهم أن يصالح القائد الروماني على أن يترك للناس حريتهم يصنعون بها ما يشاءون، ويأخذ القادة ليصنع بهم ما يشاء، ولكن كراسوس أبى إلا التسليم بلا قيد ولا شرط، كما يقول الناس في هذه الأيام، وقد استيأس سبارتاكوس واستيأس أصحابه وأبوا أن يلقوا بأيديهم، فاحتالوا حتى عبروا الخندق وتقدموا للموقعة اليائسة. هنالك تقدم سبارتاكوس بين الصفين فنحر فرسه وقال لأصحابه: إن أقتل فلست في حاجة إليه وإن أنتصر فلن أعدم فرسا مكانه، ثم كانت الموقعة وقتل سبارتاكوس وقتل أكثر أصحابه وأسر سائرهم، وعاد كراسوس وقد جعل من هؤلاء الأسارى نكالا للذين يحاولون الثورة على النظام الاجتماعي، فأقام الصلبان على طول الطريق بين ساحل البحر وروما، وجعل كلما تقدم أميالا صلب جماعة من الأسارى، حتى امتلأت الطريق بين البحر وروما صياحا وعويلا ودماء، وكان كراسوس يظن أن هذا الفوز على الثائرين سيكفل له التسلط على روما، ولكن الشيوخ لم يقدروا هذا الفوز إلا تقديرا متواضعا لأنه كان فوزا على العبيد لا على الجيوش ذات العدة، وقد استطاع كراسوس مع ذلك بفضل ثروته الضخمة وغناه العريض أن يحالف قيصر ويومبيوس، وأن يفرض الثلاثة أنفسهم على روما، وأن يقتسموا الإمبراطورية بينهم، وكانت آسيا نصيب كراسوس، فذهب إليها ومعه جيشه الضخم، ولكنه لم يعد منها كما لم يعد منها جيشه. اندفع إلى حرب البارتيين وغرته قوته ولم تسعفه مهارة ولا سياسة ولا علم بفنون الحرب ولا استماع لنصح الناصحين، فقتل ابنه أولا وقتل هو بعد ذلك ومحق جيشه محقا.
وقد نستطيع أن ننظر من أمر هذه الثورة إلى بطلين من أبطالها: أحدهما سبارتاكوس قائد الثورة، والآخر كراسوس ماحق الثورة، فأما أولهما فقد كان راعيا للقطعان في تراقيا، وقد جلب منها فيمن كان يجلب من العبيد، فتنقل به الرق من مكان إلى مكان ومن يد إلى يد، حتى انتهى إلى صاحب اللعب المصارعين في تلك المدينة الإيطالية، وكان رجلا سمح النفس، طيب القلب، ساذج الطبع، كان راعيا من رعاة القطعان بأوضح ما لهذه الكلمة من معنى، لا يحب قتلا ولا قتالا، ولا يريد شرا ولا خصومة، وإنما يؤثر هذه الحياة السهلة الراضية على خشونتها، يتبع قطعانه في مراعيها، كل همه أن يرد عنها الشر ويصد عنها العدوان، ولكنه لم يستطع أن يرد عنها ولا عن نفسه شرا، ولا أن يصد عنها ولا عن نفسه عدوانا، فأخذ في بعض الغنائم كما أخذت قطعانه، وبيع في بعض الأسواق كما بيعت قطعانه أيضا، وهم سيد من سادته أن يقدمه إلى الموت كما كانت قطعانه تقدم إلى الموت، فهرب فيمن هرب من المصارعين، لا يريد بغيا ولا اعتداء، وإنما يريد أن ينجو بنفسه من أن يكون قاتلا أو مقتولا، وأن ينجو بنفسه كذلك من أن يكون سلعة تباع وتشترى، وأداة تسخر لغير ما تريد، مع أن لها قلبا يشعر، وعقلا يفكر، وإرادة تعرف ما تقصد إليه.
وكان سبارتاكوس رجلا قوي الجسم، مرتفعا في السماء، عريضا في الفضاء، شجاعا لا يعرف الخوف، مصمما لا يحب التردد، قانعا لا يطمع إلا في أن يعيش حرا، ولا يتمنى إلا أن يعود إلى وطنه في تراقيا ويستأنف حياته تلك مع قطعانه ينتقل بها في الرياض والمروج، ولو أطاعه أصحابه لكان من الممكن أن يبلغ من ذلك ما أراد، وقد كان ينصح لهم دائما ويلح عليهم في النصح أن يخرجوا من هذه الأرض الظالم أهلها، وأن يعبروا الألب ويفترقوا بعد ذلك فيمضي كل واحد منهم إلى وطنه، ويستأنف حياته الهادئة التي كان يحياها قبل أن يبسط الرق عليه يده الظالمة، ولكن أصحابه لم يطيعوه ولم يسمعوا له، كانوا قلة ضئيلة ثم أصبحوا كثرة عظيمة، فأعجبتهم كثرتهم ولكنها لم تغن عنهم من الموت شيئا.
ولم يكن سبارتاكوس يبغض شيئا كما كان يبغض النهب والسلب والإغارة على المدن الآمنة، ولو سمع له أصحابه بعد أن رفضوا العودة إلى أوطانهم لاستقروا في هذه الناحية أو تلك من نواحي إيطاليا وعاشوا من كسب أيديهم، ولانتشرت دعوتهم في هدوء وسلم، ولكان من الممكن أن ينعموا بحياة مطمئنة، وأن يدافعوا عن هذه الحياة إن احتاجوا إلى الدفاع عنها، ولكن أصحابه لم يسمعوا له؛ فقد كانت قلوبهم مغيظة محنقة، وكانت نفوسهم ساخطة واجدة، وكانوا مظلومين، فلم يكفهم أن يخرجوا أنفسهم من الظلم، وإنما أرادوا أن يظلموا الناس كما ظلمهم الناس، وأن يذيقوا سادتهم مثل ما أذاقهم سادتهم من الذل والهوان؛ ولذلك اعتدوا على المدن، فحرقوا وخربوا وقتلوا ومثلوا وملأوا أيديهم مما لا يحل لهم من أموال الوادعين الهادئين، فأحفظوا الناس على أنفسهم من جهة وأغروا الضعفاء وأصحاب المطامع باتباعهم من جهة أخرى، وكانوا لا يمر بهم يوم إلا ازداد إقبال الناس عليهم وبغض الناس لهم، فكانوا يستكثرون في كل يوم من الأعداء والأولياء جميعا، وقد هم سبارتاكوس أن يأخذ أصحابه بالحزم ويحملهم على الجادة ويمنعهم من اقتراف الآثام، فأبى بعضهم أن يسمع له وفارقوه إلى حيث لقوا حتفهم، وسمع له الآخرون وقتا ما ثم لم يلبثوا أن ضاقوا بهذه الحياة الهادئة التي يعتدى عليهم فيها ولا يعتدون على أحد، فعادوا إلى سيرتهم وملأوا الأرض من حولهم شرا حتى انتهوا إلى تلك العاقبة التي صورتها آنفا.
وأما قامع الثورة كراسوس فقد كان - كما رأيت - رجلا لا حد لثرائه ولا حد لمطامعه ولا حد مع ذلك لعجزه وقصوره، ولم يكن ماهرا إلا في شيء واحد هو جمع المال يأخذه بحقه قليلا ويأخذه بغير حقه كثيرا، كان مرابيا مفحشا في الربا، ولكنه يشتط على الضعفاء وييسر الأمر تيسيرا للأغنياء وأصحاب الجاه، يأخذ من أولئك أموالهم لأنه لا ينتظر أن يأخذ منهم شيئا آخر، أما هؤلاء فيعطيهم ماله، ولا يأخذ منهم ربحا ماليا؛ لأنه ينتظر أن يأخذ منهم الجاه والسلطان، فلما ارتفع أمره واحتاج إلى جاه الأغنياء وسواعد الفقراء، طابت نفسه عن المال لأولئك وهؤلاء جميعا، فكان يولم الولائم لأهل روما كافة، كان يقيم الوليمة التي تشتمل على ألف مائدة، وكان يتلقى الناس على اختلاف طبقاتهم في كثير من البشاشة والإيناس، كان كما يقول أبو نواس:
فتى يشتري حسن الثناء بماله
ويعلم أن الدائرات تدور
ولكنه لم يكن يشتري حسن الثناء وحده بالمال، وإنما كان يشتري معه سوء القالة وبغض البائسين، فقد كان يتتبع المحتاجين يشتري منهم ما يملكون بأبخس الأثمان، ولعله كان يدفع الناس إلى الحاجة ويضطرهم إلى أن يبيعوه ما يملكون، كان يتتبع الحريق هنا وهناك ويشتري الدور التي تشب فيها النار، وكان قد احتكر إطفاء الحريق، وألف لذلك فرقة منظمة قوية؛ فكان إذا شبت النار في دار من الدور فاوض المالك في بيعها، ولم يرسل فرقة المطافئ لإطفاء النار حتى يتم البيع، وكان قد احتكر مواد البناء على اختلافها وصناعة البناء على تنوعها، واتخذ من الرقيق والأحرار فرقا تعمل في هذا كله؛ فكانت مدينة روما كلها أو أكثرها ملكا له وكانت له أملاك واسعة في مدن كثيرة أخرى، وكانت له أرض زراعية لا يكاد يبلغها الإحصاء، وكانت غلات هذا كله تئول إلى خزائنه فينفق منها عن سعة ويشتري بها ما يشاء مما يباع وما لا يباع، وكانت هذه الثروة على ضخامتها لا ترضيه ولا تقنعه؛ فقد كان يطمع في السلطان، يريد أن يكون قنصلا وحاكما من حكام الأقاليم وقائدا للجيوش ومنتصرا على الأعداء ومتحكما في الأولياء، وكان يرى أن ثروته يجب أن تبلغه من هذا كله ما يريد، ولم يكن مخطئا؛ فقد كان النظام السياسي والاجتماعي من الفساد بحيث بلغته ثروته من هذا كله ما أراد. اشترى بومبيوس واشترى قيصر واشترى أعضاء مجلس الشيوخ واشترى أصوات الناخبين، وارتقى إلى أعلى مناصب الدولة، وسيطر على آسيا وتحكم في ملوكها، وسعى في كثير من الطغيان والجبروت حتى لقي الموت كما يلقاه غيره من الناس، كأنه لم يملك من الثروة ما ملك، ولم يبلغ من السلطان ما بلغ، ولم يتحكم في أشراف روما وملوك آسيا ما تحكم.
وكذلك قتل زعيم الثورة سبارتاكوس، كما قتل قامع الثورة كراسوس. جاهد أولهما في سبيل حريته وحرية أصحابه وفي سبيل العدل، فظفر بالحرية التي انتهت به وبأصحابه إلى الموت، ولم يظفر من العدل لنفسه ولا لغيره بشيء، بل لم يستطع أن يحقق العدل في معسكره، ولا أن يمنع أصحابه الذين كانوا يطلبون العدل من أن يملأوا الأرض جورا وظلما، وجاهد ثانيهما في سبيل نفسه، فأذل نفوسا لا تحصى وأزهق نفوسا لا تحصى، وأهان الفضيلة في سبيل المطامع وازدرى الحق والواجب في سبيل الشهوات، وخدع الشعب واستذل سلطانه وأكرهه على ما لم يكن يريد، ثم قاد الجيوش لا إلى النصر ولا إلى الهزيمة، بل إلى الموت الساحق الماحق الذي لا يبقي ولا يذر. كل هذا كان في إيطاليا أثناء القرن الأول قبل المسيح، فأما أحداث العراق فقد كانت تشبه هذا كله من وجوه كثيرة وتخالفه من وجوه كثيرة أيضا، ولم تكن أقل منه هولا على كل حال.
لم يكن عبد الله بن محمد صاحب الزنج غنيا ولا شيئا يشبه الغنى، وأكبر الظن أنه لم يكن شيئا مذكورا، ولولا هذه الثورة لجهله التاريخ كما يجهل الملايين التي لا تحصى من الناس في كل جيل، ولكنه كان - فيما يظهر - ذكي القلب بعيد الأمل دقيق الحس حاد المزاج، ضابطا لأمره مالكا لإرادته، يصبر نفسه على المكروه في غير مشقة ولا جهد. كان يعيش - فيما يقول المؤرخون - ببغداد متصلا ببعض الخدم المعروفين في قصر الخلافة، يرى الفساد يملأ الأرض من حوله، كان يرى فساد السياسة وفساد النظام الاجتماعي وفساد الأخلاق، وعبادة اللذة هنا وعبادة المطامع هناك، كان يرى الحياة من حوله مغامرات لا تنقضي؛ رفيع يتضع ووضيع يرتفع، فقير تنهض به المغامرة إلى الثروة العريضة وغني تنحط به المغامرة إلى البؤس الضيق، وأغمار يأتون من هنا وهناك فإذا هم يرقون إلى أعلى المناصب ويستأثرون بشئون الخلافة ويتحكمون في حياة الخلفاء، كان يرى ذلك من قرب فتنكره نفسه أشد الإنكار. أكانت نفسه تنكر هذا لأنها كانت نفسا كريمة تحب الخير وتكره الشر وتطمع في العدل وتؤثر المعروف، أم كانت نفسه تنكر هذا لأنها كانت نفسا طموحا تريد أن تشارك فما يشارك فيه المغامرون وأن تأخذ نصيبها من الدنيا؟ مسألة فيها نظر. يرى المؤرخون أنه لم يكن إلا مغامرا شريرا، آثر نفسه بالخير وطمع لها في الرياسة واقترف في سبيل ذلك آثاما يشيب لها الولدان، والمؤرخون لا يسمونه إلا الخبيث واللعين، ولا يصفونه إلا بأنه عدو الله وعدو المسلمين، ولكن بماذا كان المؤرخون يسمونه لو أنه انتصر؟ وبماذا كان المؤرخون يصفونه لو أتيح له الفوز؟
Неизвестная страница