ولعلها كانت في بعض الوقت تذعن وتطيع، وترد نفسها إلى القصد، ثم تثور فترسل نفسها على سجيتها وتطلق حبها صريحا حرا، وكذلك عاشت هذه المرأة خمسة عشر عاما، استرد قلبها فيها شبابه كله، وتبينت هي وتبين هو وتبين الناس في عصرهما، ومن بعدهما أن ما اندفعت فيه هذه المرأة من العبث واللهو، ومن المجون والفساد، ثم من الجد الخصب والنشاط المنتج، كل ذلك لم يكن إلا ضيقا بالحياة وافتقادا لهذا النور الذي يحببها إلى النفس، وهو الحب، ومصارعة لهذا العدو الفاتك وهو اليأس، فلما بلغت السبعين أو كادت تبلغها ظفرت بالحب عند هذا الإنجليزي، وظفرت به من غير طريقه كما كان يقول المعاصرون، فإن العيون هي أوضح طرق الحب إلى النفوس، ولكن الحب قد يسلك إلى النفوس طريق الآذان كما قال شاعرنا القديم، وأكبر الظن أن صوت هذا الإنجليزي هو الذي حمل الحب إلى نفس هذه الفرنسية فثبته فيها تثبيتا.
وفي سنة 1780 ماتت هذه المرأة وكتبت قبل موتها بقليل جدا إلى صاحبها كتابا تنبئه فيه بقرب آخرتها، وتنبئه بأنها لا تأسف لفراق الحياة؛ لأنها لا ترى في الحياة خيرا بعد أن كتب إليها أن لا تلقاه، وتنصح له بأن يستمتع بالحياة ما استطاع، وتنبئه بأنه سيحزن عليها، فليس من اليسير أن يتعزى الناس عمن كان يؤثرهم بالحب، فلما أتمت إملاء كتابها هم سكرتيرها الشيخ أن يقرأه عليها كعادته، فلم يستطع لأنه كان يقطع قراءته بالبكاء، هنالك أحست هذه المرأة المتشائمة اليائسة التي أسرفت في سوء الظن بالناس، أحست أن هذا السكرتير لم يكن يعمل عندها ليعيش، فقالت له بصوت خافت فيه نغمة الموت، وفيه مع ذلك نغمة الرضا والغبطة: أكنت تحبني إذن؟
هذه صورة من صور هذه المرأة، وهي من غير شك أشد هذه الصور اتصالا بالنفوس، وتأثيرا في القلوب، ولكن لهذه المرأة صورا أخرى عظيمة الخطر جدا في حياة الأدب الفرنسي، فقد كانت ناقدة، ولها في أدباء فرنسا، وفي كبار أدبائها خاصة آراء قيمة تثير الإعجاب لرقتها ولبراعة الصيغ التي كانت تعلن فيها، كانت تؤثر ڤولتير، وكانت تضيق بروسو فانظر إلى هذه الجملة البديعة التي تنقد فيها أسلوب جان جاك: «إن لروسو حظا من الوضوح، ولكنه وضوح البرق، وله حظ من الحرارة ولكنها حرارة الحمى.»
واتصلت هذه المرأة بأصحاب السياسة، واتصلت بالعظماء والأشراف وكانت منهم، وقد كتبت إليهم وتلقت منهم الكتب، وقد صورتهم وصوروها، فهذه ناحية أخرى من حياتها لها أثر في توضيح التاريخ السياسي والاجتماعي لفرنسا في القرن الثامن عشر وقبل الثورة الفرنسية الكبرى.
وبعد، فلعل أحسن ما كتب عن هذه المرأة إلى الآن فصلان كتبهما سانت بوف في أحاديث الاثنين تستطيع أن تقرأ أحدهما في الجزء الأول، وثانيهما في الجزء الرابع عشر، فإن أردت الإيجاز المقنع فاقرأ الفصل الذي نشر عنها في «مجلة العالمين» أول أغسطس، فإن أبيت أن تتكلف القراءة أو تشق على نفسك بالبحث فقدر هذا الوصف الذي كان يصفها به ڤولتير وفكر فيه؛ فإنه يعطيك منها صورة قوية، تملأ نفسك رحمة وإعجابا، فقد كان يسميها: «الضريرة المبصرة».
قصة فيلسوف عاشق
لا أعلم أن الفلسفة تحظر الحب على أهلها، بل الذي أعلمه أن الفلسفة حب كلها، وليس اسمها إلا لفظا من ألفاظ الحب، ولكن هذا الحب إذا احتل قلبا شغله عن كل شيء، واستأثر بكل ما فيه من قوة وعاطفة وهوى، ولم يدع من ذلك للحياة اليومية العاملة إلا شيئا يسيرا جدا.
فالفلسفة حب الحكمة، وهذه الحكمة شديدة الغيرة، شديدة الأثرة، لا تحب الشركة ولا ترضاها، ولا تسمح لعشاقها بأن يصفوا بودهم شيئا أو أحدا غيرها، فمن فعل ذلك أو شيئا منه، فليس هو من الحكمة في شيء! وإنما هو رجل مثلك ومثلي يغشى الأندية، ويضطرب في الشوارع، ويعيش مع الناس، وليس له حظ من المدينة الفاضلة التي يسكنها ويسيطر عليها عشاق الحكمة وحدهم.
لذلك كان أمر هذا الفيلسوف الذي أحدثك عنه عجبا من العجب، وفنا من هذه الفنون النادرة التي لا يظفر بها المؤرخون والقصاص إلا في مشقة وعسر، وإلا على أن تفرق بينها القرون الطويلة والعصور البعيدة، والذي أعرفه أن التاريخ لم يظفر قبل فيلسوفي هذا العظيم بعاشق قد دلهته الحكمة، وعبث بلبه جمال إلهتها العليا، ولكنه على ذلك استطاع أن يشغف بإلهة أخرى، يشركها مع هذه الإلهة التي كان يصورها اليونان في صورة أتينا، تلك التي خرجت من رأس أبيها زوس، تامة الخلق، مكتملة الشباب، فيها جمال فتان، ولكن فتنة تخلب بقوتها لا برقتها!
لم يعرف التاريخ عاشقا من عشاق أتينا استطاع كما استطاع فيلسوفي العظيم، أن يشرك معها امرأة من النساء في حبه وهيامه، وأن يختصها من هذا الحب والهيام بمثل ما اختص به إلهة الحكمة نفسها، وأن ينتهي به الأمر إلى أن يخلط ابنة زوس بابنة باييس، ويتخذ منهما شخصا واحدا يحبه ويقدسه، ويصوغ له دينا قويا خصبا، ويحاول أن يبسط سلطان هذا الدين على الإنسانية كلها، أو على الإنسانية المسيحية على أقل تقدير.
Неизвестная страница