كلا الرجلين قصد إلى إجادة الدرس وإتقان البحث وتعمق الاستقصاء، ولكن أحدهما وفق لما لم يوفق له الآخر لأنه ملك من الوسائل والأدوات وأسباب العلم والثقافة ما لم يتح لصاحبه.
على أن هناك نواحي امتاز بها ستندال ولم تخطر لابن حزم على بال، فكلا الرجلين قد حاول درس النفس الإنسانية من بعض نواحيها، وكلا الرجلين قد اتخذ هذا الدرس وسيلة إلى نقد الحياة الاجتماعية المحيطة به، وكلا الرجلين قد أعطانا صورة دقيقة أو مقاربة لهذه الحياة، ولكن ابن حزم وقف عند هذا الحد، فأما ستندال فتجاوز النقد إلى الاقتراح، فستندال ينقد الحياة الفرنسية نقدا مرا، لا يكتفي بذلك بل يعرض لتربية الفتاة فيستخلص عيوبها ويرد إلى العيوب كثيرا من آفات الحب عند الفرنسيين بل عند الأوروبيين، ثم هو لا يكتفي بذلك بل يقترح مذهبا جديدا في تربية الفتاة لتستطيع أن تحب حبا صحيحا صالحا نقيا، وتلهم الفتى حبا صحيحا صالحا نقيا، ثم هو يتجاوز ذلك إلى الزواج، فينقد نظامه، ويقترح ألوانا من الإصلاح تقرب المسافة بين الحب والزواج تقريبا بعيدا، وكل هذه أمور لم تخطر لابن حزم؛ لأنه كما قلت كان مثقلا بقيود عصره مقصوص الجناح لم يستطع أن يتعمق ولا أن يرتفع.
وفي كتاب ستندال لون آخر من ألوان البحث لم يخطر لابن حزم ولم يكن يمكن أن يخطر له، فستندال يبحث عن الصلة بين الحرب وبين طبائع الشعوب من جهة، وبين الحب ونظام الحكم من جهة أخرى، وهذا اللون من بحث ستندال ممتع حقا، ولا سيما حين يعرض لبعض خصائص الشعوب والحكومات، فالحب مقيد بارد شديد الكسل والفتور في بلاد الإنجليز؛ لأن طبيعة الإقليم وطبيعة الشعب وطبيعة الحكومة الأرستقراطية، كل ذلك يقتضي أن يكون الحب الإنجليزي خجلا مستخذيا لا يظهر إلا على استحياء، والحب في إيطاليا جامح مندفع لا يثبت أمامه شيء، وهو لا يستخفي ولا يتردد ولا يستخذي ولا يخجل، وإنما يظهر صريحا حرا كما تظهر الشمس؛ لأن طبيعة الإقليم الإيطالي والشعب الإيطالي وتفرق السلطان في إيطاليا لعهد ستندال، كل ذلك يقتضي أن يكون الحب الإيطالي جريئا عنيفا مقداما، والحب في فرنسا مغرور منافق لا يكاد يثبت ولا يستقر؛ لأن طبيعة الشعب الفرنسي والإقليم الفرنسي ونظم الحكم في فرنسا بعد انهيار الإمبراطورية، كل ذلك يقتضي أن يكون الحب الفرنسي مرائيا ثرثارا لا يقول شيئا ولا يصور شيئا، فأين نحن من ابن حزم الذي لم يتجاوز بالحب وطنه الأندلسي؟! وقد خطر له مرة أو مرتين أن يعبر بالحب مضيق جبل طارق ففعل، ولكنه تحدث إلينا عن أندلسي باع جارية له كان يحبها لبعض البربر، ثم تبعتها نفسه، ولم يستطع السلو عنها، ولم يرد البربري أن يعفيه من البيع، فرفع أمره إلى السلطان في قصة طريفة مؤثرة.
وقد مضى ابن حزم بالحب إلى الشرق فأبعد حتى انتهى إلى بغداد، ولكنه يحدثنا عن عالم أندلسي انتهى إلى حارة لا تنفذ، ورأى في هذه الحارة جارية دلته على أن الحارة غير نافذة، وكانت الجارية سافرة؛ فراعه حسنها وشغفه حبها، وخاف على نفسه ودينه الفتنة فسافر إلى البصرة ومات فيها شهيدا لهذا الحب.
فكأن ابن حزم لم يرد أن يعرض في كتابه لغير الحب الأندلسي، درسه في موطنه، ثم تبعه أحيانا إلى مهاجره في إفريقية أو في بغداد.
على أن هناك مسألة هي فيما أعتقد أجل خطرا من كل ما عرضت له في هذا الحديث إلى الآن، لماذا ألف ابن حزم كتابه طوق الحمامة؟ ولماذا ألف ستندال كتابه في الحب؟
أما أيسر الجواب عن هذه المسألة فهو أن صديقا لابن حزم طلب إليه أن يضع له هذه الرسالة ففعل، وأن ستندال أنفق حياته كلها متتبعا للحب على اختلاف صوره وأشكاله ومواطنه، فألف فيه كتابا، ولكن هذا لا يقنعني، ويخيل إلي أن هناك جوابا آخر قد يكون أجل من هذا خطرا وأبعد منه أثرا، فكتاب ابن حزم وكتاب ستندال لم يقصد بهما إلى الحب في نفسه، وإنما قصد بهما إلى الفن، إلى فن تصوير الحب والتعبير عنه. فقد ألف ابن حزم كتابه في البلاغة إذن، وقصد به إلى أن يعلم الشعراء والكتاب - والشعراء خاصة - كيف يتصورون الحب وكيف يصورونه وكيف يصفونه في الشعر والنثر، وآية ذلك هذه النماذج الشعرية التي يبثها في كل فصل من فصول الكتاب، وهي نماذج ينشئها هو ولا ينقلها عن غيره، وأكبر الظن أنه صنع كثيرا من هذه النماذج خاصة لهذا الكتاب.
وأما ستندال فقد ألف كتابا في النقد وفن الجمال، أراد به إلى أن يشرح أولا مذهبه فيما عرض من أمر الحب في قصصه المختلفة، وأراد به بعد ذلك أن يعلم القصاص كيف يتصورون الحب وكيف يصورونه وكيف يعرضونه فيما ينشئونه من القصص الطوال والقصار، وآية ذلك هذه النماذج القصصية التي أضافها إلى كتابه بعد أن عرض نظرياته في الحب.
فنحن إذن أمام كتابين من كتب العلم لم يقصد بهما صاحباهما إلى العبث ولا إلى اللهو ولا إلى مجرد التجربة، وإنما قصدا بهما التعليم قبل كل شيء.
وقد أعجب القدماء بكتاب ابن حزم ولكنهم لم ينظروا إليه إلا على أنه أثر أدبي، على أنه غاية في نفسه لا وسيلة إلى فن الشعر، ولم يعجب المعاصرون لستندال بكتابه في الحب حين نشره في أوائل القرن الماضي، فقد بيع من طبعته الأولى في عشر سنين بضع عشرة نسخة، فلما مضى على نشره عشرون عاما أنبأنا ستندال نفسه بأنه لا يظن أن الذين ذاقوه وفهموه قد بلغوا المائة ، أما الآن فقد تقدمت دراسات الحب من نواحيه المختلفة تقدما هائلا، حتى أصبح كتاب ابن حزم وكتاب ستندال كتابين لهما خطرهما في التاريخ الأدبي ليس غير، ولكنه خطر غير قليل.
Неизвестная страница