كنت إذن أحاول أن أضع ڤولتير القاص في طبقة من هذه الطبقات دون أن أبلغ من ذلك ما أريد، فهو لا ينحاز إلى طبقة دون طبقة ولا يضاف إلى فريق دون فريق، ولعله أن يشارك في خصائص هذه الطبقات جميعا، والشيء المحقق هو أنه لم يفكر في شيء من ذلك، ومن يدري؟! لعل معاصريه لم يكونوا يفكرون في شيء من ذلك، وإنما كانوا يصدرون عن طبائع في غير تكلف ولا تصنع، يرسم لهم الفن نفسه مذاهبهم في القول وطرائقهم في التصوير والتعبير.
على أن هناك حقيقة واضحة معروفة، وهي أن القصص عند ڤولتير لم يكن غاية تطلب لنفسها وإنما كان وسيلة يبتغيها الكاتب ليصل بها إلى غرض من الأغراض الفلسفية، سواء أكان هذا الغرض متصلا بما بعد الطبيعة أم بالنظام السياسي أم بالنظام الاجتماعي أم بالنظام الديني أم بكل هذه الأشياء جميعا.
وإذا كان القصص نفسه وسيلة لا غاية، فمن الطبيعي أن يكون الأشخاص الذين تجري على أيديهم أحداث هذا القصص وسائل لا غايات، فإذا عرض علينا ڤولتير شخصا من الأشخاص الذين يعملون أو يتأثرون في قصصه فطبيعة هذا الشخص لا تعنيه، ولا تعنيه الخصائص التي تأتلف منها هذه الطبيعة، وإنما الذي يعنيه هو ما يصدر عن هذا الشخص من قول أو عمل وما يلم بهذا الشخص من حدث أو خطب، وما يكون لهذه الأقوال والأعمال والأحداث والخطوب من أثر في حياة الناس.
ومن أجل هذا كانت الأشخاص في قصص ڤولتير وسائل من جهة ورموزا من جهة أخرى؛ رموزا لهذه الأغراض التي كان يسعى إليها ولهذه الآراء التي كان يريد أن يثبتها أو أن ينفيها، ومن أجل هذا أيضا كان ڤولتير يتخذ لبعض قصصه عنوانين، أحدهما الشخص الذي اتخذه رمزا، والآخر الفكرة التي أراد أن يرمز إليها، فقصة «كانديد» تسمى كانديد أو التفاؤل، وقصة «زاديج» تسمى زاديج أو القدر، وعلى هذا النحو.
أشخاص ڤولتير إذن ليسوا أفرادا من الناس يعملون كما نعمل ويشعرون كما نشعر ويحسون كما نحس ويتأثرون كما نتأثر، وإنما هم أشخاص قد خلقهم خيال ڤولتير وعقله خلقا، وقد استمدهم هذا العقل وذلك الخيال من المعاني التي قصد إليها وأراد تصويرها أكثر مما استمدهم من الحياة الواقعة التي يراها كل إنسان والتي يستطيع كل إنسان أن يلاحظها من قرب وأن يتناولها بالنقد والتحليل والتعليل، ولعل من الخصال التي تفوق فيها ڤولتير تفوقا ظاهرا انتهى به إلى براعة فنية لا يدانيه فيها كاتب فرنسي آخر، أنه لا يحفل كثيرا بالحياة الواقعة ولا يقف عندها إلا بمقدار، فهو يأخذ منها ما يحتاج إليه ويضيف إليها ما يحتاج إليه أيضا، مزدريا هذا المنطق الطبيعي الذي نفكر به ونتخذه مقياسا لتصورنا للأشياء وحكمنا عليها، فهو لا يحفل بالزمان ولا بالمكان، وهو من أجل ذلك لا يحفل بالتاريخ ولا بالجغرافيا، وهو لا يحفل بالطبيعة التي يمكن أن تلاحظ ولا بالخرافات التي ليس إلى ملاحظتها من سبيل، وهو لا يحفل بما يوجد بيننا بالفعل ولا بما ليس له وجود، وإنما يأخذ من هذا كله ما يريد، ويرتب هذا كله كما يريد، ويقدم لنا منه مزاجا رائعا نعجب به أشد الإعجاب ولا نستطيع أن ننكر منه شيئا؛ لأن إنكارنا لا يؤثر في الفكرة الأساسية التي أراد أن يعرضها علينا، فأميرة بابل مثلا تعيش في أقدم العصور التاريخية بل تعيش في أقدم العصور الإنسانية قبل أن يوجد التاريخ، وهي مع ذلك تطوف في أقطار الأرض وتتخذ للتنقل وسائل منها ما يلائم الأساطير، ومنها ما يلائم العصر الذي كان ڤولتير يعيش فيه، وهي تزور مدنا لم تنشأ إلا في عصور متأخرة جدا وتشهد أجيالا من الناس لم يوجدوا إلا بعد أن تقدمت الحضارة الإنسانية حتى انتهت إلى الطور الذي انتهت إليه في القرن الثامن عشر الفرنسي.
هذه الأميرة تعيش في مدينة بابل التي وصفتها الأساطير، وهي تعيش قبل سميراميس بقرون طويلة، وقد أراد أبوها الملك أن يبغي لها زوجا فقرر أن يجري مسابقة بين الملوك قوامها أن يشد المتسابقون قوس نمروذ، وهي قوس لا يتاح لأوساط الناس ولا للمتفوقين منهم في القوة أن يشدوها، فأيهم قدر على أن يشد هذه القوس فعليه بعد ذلك أن يقهر أسدا لم تعرف الدنيا مثله قوة وبأسا وعنفا، فإذا قهر هذا الأسد فعليه بعد ذلك أن يقدم إلى الأميرة هدية نادرة لم يعرف العالم مثلها قط، وقد أقبل ملوك ثلاثة للاشتراك في هذه المسابقة، أحدهم فرعون جاء يركب الثور أبيس وهو يقدم إلى الأميرة هدايا من تماسيح النيل وجرذان الدلتا، والثاني ملك الهند جاء يركب فيلا هائلا تتبعه فيلة كثيرة تحمل من طرف الهند ما عرف الناس وما لم يعرفوا، والثالث ملك السيتيين من أهل البادية في شرق أوروبا وجنوبها جاء ومعه أصحابه يمتطون أجود الخيل وأعرقها في النسب، ويحملون من طرف باديتهم الشيء الكثير، وقد احتفلت بابل بمقدم هؤلاء الملوك احتفالا رائعا واحتفت بهم احتفاء عظيما، حتى إذا كان اليوم المشهود اجتمع الناس ليشهدوا هذه المسابقة، وقد اجتمع منهم في المدرج أكثر من نصف مليون، وجلس الملك في مقصورته ومن حوله وزراؤه ورجال قصره، وجلست الأميرة في مقصورتها ومن حولها وصائفها، وجلس كل ملك من الملوك الثلاثة في المقصورة التي أعدت له، ومع كل واحد منهم حاشيته، ودار على النظارة جيش ظريف قوامه عشرون ألفا من العذارى الحسان يطوفن عليهم بألوان الفاكهة والنقل والشراب، ثم لم يكد مؤذن الملك يؤذن بافتتاح المسابقة حتى رأى النظارة منظرا عجيبا؛ رأوا فتى يقبل من بعيد يتبعه خادمه، وقد وقف على كتف الفتى طائر جميل رائع المنظر، وقد ركب الفتى حيوانا غريبا سريعا رشيقا خفيف الحركة يتوسط رأسه قرن وحيد، وقد انتهى الفتى إلى المدرج يلحظه الملوك والنظارة وتلحظه الأميرة ووصائفها خاصة، ومضى في تواضع حتى انتهى إلى مجلس من المدرج فجلس كغيره من الناس يقوم خادمه من ورائه ويقف على كتفه طائره الجميل.
وقد ابتدئت المسابقة، فتقدم فرعون ليشد القوس فلم يبلغ من شدها شيئا ونصح له كبير كهنته بألا يمضي في هذه المسابقة التي لا تلائم الجلالة المصرية وحسبه ما يقدم من الهدايا، وحسبه أنه صاحب ملك مصر، ولم يكن ملك الهند أحسن منه حظا، وحاول ملك السيتيين أن يشد القوس فكاد يبلغ من شدها شيئا يسيرا ولكن قوته لم تطاوعه، وإذا الفتى يثب من مكانه ويهبط إلى الميدان مسرعا ويتناول القوس في أدب ويشدها في رشاقة ويرسل منها إلى مقصورة الأميرة كتابا تقرؤه الأميرة، فإذا هو شعر جميل يتغنى بجمالها البارع، ثم يخرج الأسد وقد نكل عن لقائه فرعون وملك الهند، ولكن ملك السيتيين أقدم على هذا الصراع الهائل، وكاد يصرع الأسد ولكن الحظ خانه فهم الأسد أن يبطش به لولا أن هذا الفتى يثب مسرعا ويهوي إلى الأسد بضربة تقد عنقه قدا.
وقد أخذ الفتى رأس الأسد فدفعه إلى خادمه، وغاب الخادم لحظة ثم عاد وقد غسل عن الرأس ما كان عليه من دم وانتزع نيوبه وأقر مكانها قطعا من الجوهر لم ير الناس مثلها قط، وأخذ الفتى هذا الرأس من خادمه ودفعه إلى طائره الجميل وكلفه أن يحمله إلى الأميرة، والطائر يسعى في الجو سعيا رفيقا رشيقا حتى يبلغ مقصورة الأميرة فيضع الرأس بين يديها ويقدم إليها تحية تملأ الناظرين فتنة وإعجابا، وقد فتن الملوك والنظارة بهذا الفتى ووقع حبه في قلب الأميرة، وهم عظيم بابل أن يحتفي به، ولكن رسولا يقبل فيلقي في أذن الفتى كلمات، وإذا الفتى يكلف طائره الجميل أن يبقى مع الأميرة، ثم يتحول إلى حيوانه الغريب فيركبه ويعود به من حيث أتى، ويجد البابليون في اللحاق به فلا يبلغونه وقد امتلأ قلب الأميرة حبا وحزنا، وامتلأت قلوب الملوك غيظا وحنقا، واختلط الأمر على عظيم بابل، فهو لم يجد لابنته زوجا، وهو مضطر أن يرجع إلى الآلهة يستشيرهم فيما يصنع، والمهم هو أن الأميرة قد كلفت بالفتى، وأن هذا الحب قد أرقها، فهي تحدث نفسها أثناء الليل والطائر قائم إلى جانب السرير فما يروع الفتاة إلا صوت هذا الطائر يسليها ويعزيها ويواسيها في لغة بابلية رائعة، فالطائر إذن يتكلم لغة الناس، وهو يقص عليها قصصه، فهو ما زال في أول الشباب، لم يبلغ من السن إلا سبعة وعشرين ألفا وبضع مئات من السنين، وهو يحدثها عن هذا الفتى وعن موطنه في أقصى الهند، وقد أشار عليها أن تلحق به، وأشار الوحي على أبيها أن يكلفها الطواف في أقطار الأرض.
وما أريد أن ألخص القصة وإنما يكفي أن أقول: إن الفتاة ذهبت إلى البصرة ثم إلى جنوب البلاد العربية ثم إلى الهند ثم إلى الصين ثم إلى أوروبا على اختلاف أقطارها تطلب هواها في كل هذه البلاد، وهي لا تبلغ بلدا إلا أنبئت بأن الفتى قد رحل منه إلى بلد آخر، ثم يلتقيان ذات يوم أو ذات ليلة في باريس كما سنرى بعد حين.
وفي إلمام الفتى بأقطار الأرض وفي إلمام الفتاة بعده بهذه الأقطار عرض لما يريد ڤولتير أن يعرض من شئون الأمم والشعوب، يجد حينا ويهزل حينا، يصور التاريخ مرة ويخترع الحوادث مرة أخرى، وينقد نظام السياسة والدين والاجتماع دائما، ويلم بالنقد الأدبي بين حين وحين.
Неизвестная страница