وهو يصدر مجلته ليتجه فيها مع أعوانه إلى جماعات من القراء قد تؤثر الدراسات الميسرة، التي لا تنحرف مع ذلك عن مناهج البحث الدقيق على الكتب الفلسفية الجافة وعلى القصص السهل اليسير، ثم هو بعد ذلك ينشئ المسرحيات التي يتجه فيها إلى جماعات تحب أن تأتيها متعة المعرفة والفن لا من طريق القراءة وحدها، ولكن من طريق القراءة والنظر لحركات الممثلين والاستماع لهم حين يتحاورون.
ثم هو لا يكره أن يتحدث إلى المستمعين في الردايو أو ينشئ لهم من الآثار ما يتلى عليهم من طريق الراديو ليستمعوا له غير مقبلين عليه كل الإقبال ، ولا متوفرين له كل التوفر، ولا معرضين عنه كل الإعراض.
ولم يبق من هذه الوسائل المستحدثة إلا السينما؛ فقد حاول جان بول سارتر أن يتخذ هذه الوسيلة ليتصل بالجماعات الضخمة المتباينة في البلاد المختلفة المتنائية في وقت واحد، وواضح جدا أن الكتاب والصحيفة والمجلة لا تقرؤها الجماهير مجتمعة، وإنما يخلو فيها القارئ إلى نفسه وإلى الأديب الذي يقرأ كتابه أو مقاله في الصحيفة أو فصله في المجلة، وواضح كذلك أن المسرحية لا تعرض في غير ملعب واحد في المدينة الواحدة، ولا يشهدها من أجل ذلك إلا جمهور من النظارة مهما يكن ضخما فهو محدود.
والذين يمثلون المسرحية أو ينشئون أدوارها، كما يقول أصحاب التمثيل، مضطرون إذا نجحت المسرحية أن ينفقوا في تمثيلها الأشهر ليشهدها أكبر عدد ممكن من النظارة، وأن يتنقلوا بها بعد ذلك في كثير من المدن بل في كثير من البلاد؛ ليظهروا عليها أضخم عدد ممكن من الناس، وفي ذلك من الجهد والمشقة والعسر ما فيه، ثم هو بعد ذلك لا يبلغ من إذاعة المسرحية ما يريد صاحبها وما يريد ممثلوها، وما يريد الناس أنفسهم.
أما السينما فهو يملك من وسائل التيسير ما لا تملكه الكتب ولا الصحف ولا الراديو ولا التمثيل؛ فالقصة الواحدة إذا أعدت للعرض تستطيع بعد إعدادها أن تغزو الأرض كلها في وقت واحد، وأن تشهدها جماعات النظارة في جميع أقطار الأرض كلها في غير مشقة يحتملها الكاتب أو المخرج أو الممثل، شأنها في ذلك شأن الكتاب المطبوع، ولكنها تتحدث إلى الجماعات حين يتحدث الكتاب إلى الفرد، ثم هي تتحدث إلى الجماعات من طريق العين ومن طريق الأذن حين يتحدث الكتاب من طريق العين وحدها أو من طريق الأذن وحدها، ثم هي تستعين على الحديث من طريق العين والأذن بأشياء لا يستطيع الكتاب أن يستعين بها لأنه لا يستطيع أن يحققها؛ ففيها الحركة، وفيها اختلاف المناظر، وفيها ما تمتاز به المناظر من الروعة والقدرة على التأثير المباشر من طريق الأشياء نفسها، لا من طريق الألفاظ التي تدل عليها بالرمز الذي يخطئ حينا ويصيب حينا آخر.
وقد تصحبها الموسيقى فتستأثر بملكات النظارة كلها؛ فالأديب الذي لا يرى الأدب ترفا ولا فكاهة ولا تلهية، وإنما يراه جدا من الجد، ويراه مشاركة في الحياة ونهوضا بأعبائها واحتمالا لتبعاتها، لا ينبغي له أن يهمل السينما كما لا ينبغي له أن يهمل أية وسيلة تمكنه من أن يتصل بالجماعات ويؤثر فيها فيوجهها إلى ما يريد أن يوجهها إليه، ويصدها عما يريد أن يصدها عنه، ويغريها بما يحب أن يغريها به، ويزهدها فيما يحب أن يزهدها فيه.
والأديب من بعد ذلك أو من قبل ذلك مضطر إلى أن يصطنع هذه الوسائل ليحمي نفسه من الفناء وليحمي نفوس الجماعات من الفساد؛ فهذه الوسائل المستحدثة قد وجدت وأصبحت من ضروريات الحياة الحديثة؛ فليس من سبيل إلى إلغاء الصحف، ولا إلى إسكات الراديو، ولا إلى تحريم السينما، فالأديب بين اثنتين: إما أن يغزو هذه الوسائل ويتخذها أدوات لإذاعة الأدب وما يحمل إلى النفوس من خير ورشد وإصلاح، وإما أن يهمل هذه الوسائل فيقضي على أدبه بالتزام الحدود التي لا يتجاوزها الكتاب، ويعرض نفوس الجماعات لشر عظيم تحمله إليها الصحف والراديو والسينما التي ستكون أداة لقوم ليس لهم حظ من أدب، ولا من فلسفة ولا من فن ولا من فقه بالحياة ومشكلاتها، وإنما همهم كله أن يلهوا الجماعات بما يذيعون فيها من سخف رخيص، وأن يستزلوا الجماعات بما ينشرون فيها من دعوة إلى أشياء لعلها لا تلائم ذوقا ولا منفعة ولا رقيا ولا ميلا إلى الإصلاح.
والخلاصة أن الأديب إذا آمن بأنه فرد من الجماعة التي يعيش فيها، يشاركها في حياتها، ويتضامن معها في النهوض بأعباء هذه الحياة، ويحتمل معها تبعات الجهاد مهما تختلف، فليس له بد من أن يصطنع كل هذه الوسائل، قديمها وحديثها، وما يمكن أن يستحدث منها في مستقبل الأيام، ليحقق اتصاله بالجماعات، ويحقق اتصال الجماعات به.
وكما أن الأديب لا ينبغي أن يعتزل في برجه العاجي وأن يوحي منه إلى الجماعات كتبا أو فصولا لا تتصل بحياتها اتصالا مباشرا، وإنما ينبغي أن يعيش مع الناس في الأرض، ويشتق كتبه من نفوسهم، فهو كذلك لا ينبغي أن يعتزل في برجه العاجي ليوحي إلى الناس قصصا تعرض عليهم في السينما، دون أن تكون هذه القصص مشتقة من حياتهم، مصورة أدق تصوير وأصدقه لما يجدون من ألم ولذة، وما يحسون من أمل ويأس، وما يثور في قلوبهم من عاطفة وشعور.
فليست الحياة لهوا ولا لعبا، وإنما الحياة جهاد، يحتاج الناس في أثنائه إلى شيء من اللهو وفنون من التسلية؛ ليستعينوا بذلك على احتمال الحياة والمضي في جهادهم في غير سأم أو ملل أو فتور.
Неизвестная страница