لقد حاول هذا الفتى أن يخرج من طوره هذا المنكر، فلم يجد إلى ذلك سبيلا؛ طمع في أن يعمل في الأسطول فعلم أنه لن يعمل فيه إلا خادما، وطمع في أن يعمل في الجيش فعلم أنه لن يعمل فيه إلا خادما، وفكر في أن يعمل في السلاح الجوي فعلم أن لا أمل للسود في هذا السلاح، وهم بأعمال أخرى فرد عنها في عنف كما رد عن هذه الأعمال؛ فاضطر إلى حياته تلك الفارغة إلا من الموجدة والحقد وانتهاز الفرصة لاقتراف الإثم.
هو وأمثاله من السود خائفون من البيض يتربصون بهم الدوائر وينتظرون بهم المكروه، والبيض خائفون منهم يمسكونهم في حياتهم هذه المنكرة ويسرفون عليهم في الإذلال، ويرون الشر كل الشر والنكر كل النكر في كل ما يصدر عنهم من عمل.
وما دام الخوف هو أساس الحياة وقوام الصلات بين السود والبيض؛ فلن يمتنع ارتكاب الجرائم ولا اقتراف الآثام، وموت هذا الفتى إن قضي عليه بالموت لن يمنع من أن ينشأ فتيان آخرون أمثاله يملأون قلوب البيض روعا وجزعا، وينتهزون الفرص ليقتلوا ويسرقوا ويملأوا الأرض شرا، فإذا لم يكن بد من عقاب هذا الفتى، فليمسك في السجن إلى أن يموت، مع أن عقابه لن يغير من الأمر شيئا، وإنما الذي يغير الأمر هو أن تصلح الحياة الأمريكية وتقام الصلات بين الأمريكيين، مهما تختلف ألوانهم، على نظام من العدل والمساواة، وواضح أن القضاة قد سمعوا لهذا الكلام، وقضوا على الفتى بالموت، وواضح كذلك أن المحامي قد التمس تخفيف العقوبة من الحاكم فلم يظفر بشيء، ولكن أوضح من هذا وذاك أن الكاتب قد استطاع بصدق لهجته من جهة، وببراعته الفنية من جهة أخرى، وبدقة تصويره من جهة ثالثة، أن يملأ نفس القارئ بغضا لهذا المجرم في الشطر الأول من كتابه ورحمة له ولأمثاله في الشطر الأخير من كتابه، وأن ينقلك في رفق رفيق من منزلة البغيض التي ليس بعدها بغض إلى منزلة الرثاء الذي ليس بعده رثاء.
وأنت بعد هذا كله تقرأ هذين الكتابين، فما أسرع ما تنغمس مع الكاتب في الحياة الأمريكية حتى كأنك تحياها مع أصحابها لا أنك تقرأ أنباءها وصورها في كتاب!
أتظنني أسرف حين أثني على هذين الكتابين، وحين أتمنى على الذين يحسنون الإنجليزية، أن يتيحوا قراءتهما للذين لا يحسنون هذه اللغة من الشرقيين؟
في الأدب الفرنسي (1)
جان بول سارتر والسينما
تساءل الكاتب الفرنسي المعروف جان بول سارتر عن الأدب ما هو؟ وماذا ينبغي أن يكون؟ ودفعه هذا التساؤل إلى أن يضع كتابا قيما لم يظهر بعد في مجلد، ولكنه نشر تفاريق في مجلة «العصور الحديثة»، وقد عرضنا لهذا البحث بشيء من النقد المفصل، في عدد يونيو الماضي من هذه المجلة.
والفكرة التي دار حولها هذا الكتاب القيم هي مقدار ما يكون بين الأديب وبين قرائه من الاتصال من جهة، ومقدار ما ينبغي أن يحتمل الأديب من تبعة بحكم هذا الاتصال بينه وبين القراء، ومشاركته لهم فيما يعرض من المشكلات التي تأتلف منها الحياة الاجتماعية مهما تكن طبيعة هذه المشكلات، ومن دون تفريق بين ما يتصل منها بالسياسة أو بالنظام الاجتماعي، أو بأي لون من هذه الألوان التي تؤثر في حياة الناس، والتي يجب على الأديب أن يشارك فيها، ويحتمل نصيبه من تبعاتها، كما يجب على الأدب أن يصورها ويصور المشاركة فيها ويصور الوسائل المختلفة لتدبيرها والخروج من ضائقتها واستكشاف ما يمكن استكشافه من الحلول لأزماتها مهما تختلف في الطبيعة والصورة والأثر.
وهذه الفكرة هي ما يسميه جان بول سارتر التزام الأدب، وهي ليست أكثر من أن الأديب يجب أن يعيش مع معاصريه فيشقى بشقائهم ويسعد بسعادتهم، ويواجه مشكلات الحياة كما يواجهونها، ويصور هذا كله في أدبه تصويرا دقيقا خصبا مجديا، دون أن ينفصل عن حياة معاصريه، أو يعتزلهم ليعيش في برجه العاجي، وينتج في هذا البرج أدبا لا يتصل بآلام الناس وآمالهم، وما يعرض لهم من بؤس ونعيم.
Неизвестная страница