ولكن هذا الأمر الذي صدر إليه بتنظيف الموقد يملأ قلبه روعا، فما عسى أن يكون في الموقد؟ وكيف السبيل إلى تنظيفه بمشهد من الصحفيين! وهو يتردد ثم يتثاقل، ولكن النار قد أخذت تخمد وأخذ الدخان يتكاثف، ويفسد على الصحفيين قهوتهم، فيتقدم الفتى ويفتح الموقد ويهم، ولكن يده لا تطيعه، وإذا هو واجم لا يصنع أو لا يكاد يصنع شيئا؛ فينهض أحد الصحفيين ويأخذ المسحاة من يده، ويحرك الرماد ثم يحدق فيه، ثم يدعو زملاءه ثم يأخذون جميعا في التحديق، والغلام الأسود يسمع وكأنه لا يسمع ويرى وكأنه لا يرى، ويرجع أدراجه في رفق كأنما يخلي بين الصحفيين وبين الموقد، ثم ينسل من الدار ولم يشعر به أحد وقد انهارت آماله كلها انهيارا، وعاد الخوف إليه كهيئته حين قتل الفتاة وأسلم جثتها إلى النار.
فقد استكشف الصحفيون في رماد الموقد عظاما، واستكشفوا الفأس التي أبين بها الرأس، واستكشفوا بعض الحلي الذي كانت الفتاة تحمله، ولم يبق للغلام الأسود إلا الهرب، ولكنه كيف السبيل إلى الهرب ومن ورائه شريكته تلك التي ستؤخذ وتسأل وترهق حتى تشهد عليه؛ فليتخفف من هذه الشريكة وقد فعل، فسعى إليها وأنبأها بأمره كله، واقتادها من بيتها تحت الليل إلى دار من هذه الدور الخالية التي تنتظر المستأجرين، وفي هذه الدار خوفها وألهاها وسقاها حتى نامت، ثم عمد إلى لبنة فما زال يضرب بها رأسها حتى شدخه واستيقن أن الفتاة قد ماتت، فألقاها من النافذة وسقط جسمها في فناء الدار.
ووجد مع ذلك سبيلا إلى أن يخرج ويشتري صحيفة، ويعلم منها أن الشرطة تبحث عنه وتدل عليه بصورته، وتحاصر أحياء السود، وتلقي بكثير منهم في السجون، وأن الطرق المؤدية إلى المدينة قد أخذت على الخارجين منها والداخلين فيها، فلن يستطيع من المدينة خروجا.
وهو إذن يحاول أن يستخفي دون أن يخرج من المدينة ودون أن يترك هذه الدور الخالية، ولكن هذه الدور تفتش دارا بعد دار، وقد دخلت الشرطة الدار التي يختبئ فيها فيصعد إلى السطح، وما تزال الشرطة به تطارده من مكان إلى مكان، وهو يطاولها ويراوغها ثم يواجهها بالمسدس، ولكنه يؤخذ آخر الأمر بعد خطوب عرضها الكاتب أبرع عرض وأروعه.
وهو على كل حال قد أخذ؛ والغريب أنه مشفق من الموت، ولكنه لا يحس ندما على شيء مما قدمت يداه.
وقد ظهرت براءة الفتى الشيوعي الذي تجنى عليه هذا الغلام الأسود، فردت إليه حريته، وأقبل ذات يوم مع محام شيوعي على هذا الغلام في سجنه ينبئه بأن صديقه المحامي قد تطوع بالدفاع عنه، وبالدفاع عنه مخلصا مؤمنا بأنه يدافع عن الحق الذي لا شك فيه.
والمدينة كلها ثائرة تريد رأس هذا المجرم، وليست الثورة مقصورة على البيض الذين وقع الاعتداء على فتاة من فتياتهم، وإنما السود يشاركون أيضا في هذه الثورة؛ لأن المجرم قد عرضهم لسخط البيض وانتقامهم وأذاهم المتصل؛ فهم يريدون رأس هذا الفتى الذي أيقظ الشر وقد كان نائما، وجر عليهم عذابا كان قد كف عنهم منذ حين.
وما أريد أن ألخص خير ما في هذا الكتاب، وهو تصوير حياة هذا الغلام الأسود في سجنه، وموقفه أمام قاضي التحقيق ثم أمام القضاة، ولا أن ألخص موقف النيابة منه، ومن القضاء، ومن المحامي الذي تكلف الدفاع عنه، ولا أن ألخص موقف الجماعات التي كانت تزدحم حول السجن لتقتل الفتى حين يخرج منه، أو حول المحكمة لتقتل الفتى حين يصل إليها، حتى كانت الشرطة تجد في حمايته من هذه الجماعة أعظم المشقة وأثقل الجهود.
وإنما أكتفي بتلخيص النظرية التي اعتمد عليها المحامي في الدفاع عن هذا المجرم؛ فهو لم ينكر الجريمة، ولم ينكر استحقاق المجرم للموت، ولكنه طلب إلى القضاة أن يتعمقوا في الظروف التي حملت هذا الغلام على اقتراف جريمته أو جريمتيه.
فهذه الظروف ليست جديدة ولا طارئة، وإنما هي قديمة وهي متصلة أدق الاتصال وأوثقه بهذه الصلة القائمة بين حياة السود والبيض: قوم يستعلون ويستكبرون ويعسفون ويخسفون، وقوم آخرون يخضعون لهذا الاستعلاء والاستكبار، ويذوقون ألوان الذل والهوان، ويحاولون أن يخرجوا من ذلك إلى شيء من الأمن والدعة، فيرى البيض في محاولتهم هذه جموحا وعدوانا ويردونهم إلى حياتهم البغيضة أعنف الرد وأثقله.
Неизвестная страница