فسمعتها تتوسل إليه قائلة: دعنا ننهي الأمر اليوم ونقطع فيه برأي فاصل، نعم، لنكف عما نحن فيه من الساعة وإن كان ذلك موحشا أليما قاسيا! ولكنه والله خير من إيلام نفسينا وأهون ألما ...
فلم أستطع أن أسمع إذ ذاك ما غمغم به صوته واضطرب به منطقه، وأنا منصرف من المطعم في عجلة وقد اختلست نظرة إلى وجهه المكفهر، وعينيه المنكستين المفعمتين كمدا وألما.
حقا لقد كان كل يحب صاحبه بكل قوى حياته، وكل وجدان نفسه، ولو أن فتاة أضعف منها كانت في مكانها لما استطاعت أن تقاوم حبه الطاغية الأخاذ المتغلب.
ولكنها بيديها القويتين، يديها اللتين جعلتا بعض الأحايين ترعشان على قوتهما وترتجفان، كانت ممسكة بأعنة العاطفة تحاول كبح جماحها، اتقاء الاسترسال مع الحب، والذهاب أبعد المذاهب في الهوى، حيث النسيان والنزق وحماقة الصبا. ولا عجب فإن فتاة مثلها، أوتيت تهذيبها وأدبها ورعاية أبويها، وأحيطت بالحب والنصيحة والإخلاص من جميع جهاتها، وأدركت جنة صاحبها بها، لا يعقل منها أن تثب الوثبة الخطرة، غير مقدرة مواقع خطوها، ولا حافلة بما يكلفها ذلك من ثمن.
وأكبر ظني أنه صحبها في ذلك المساء إلى دارها فكان وداعا، لا لقاء بعده ولا اجتماع؛ لأنني سمعت صوته في حجرته وقد آذنت التاسعة وهو يتحدث إلى أمه حديث فؤاده، فقد مضى يتسخط على الحياة عامة، وعلى أغاليظ المجتمع وأكاذيب الدنيا واحتفال أهلها بالمال والحسب والنسب، وذهب في منتحب وسخط يقول لها: إنها والله لدنيا كاذبة، وعالم سافل منكر، يريد من الفتى أن يهب الفتاة التي ملكت عليه لبه في بداية أمرهما، ومهد حبهما، ما لم يستطعه أبوها إلا على فترة من السنين وحقبة طويلة من الأعوام.
وسكت لحظة وهو مطلق للدمع فيضه، ثم عاد يقول: ألا اعلمي يا أماه أنني لا أطيق صبرا، ولن أحتمل عنها تخليا ولها تركا، إنها ملك فؤادي وهي بذلك عليمة خبيرة، يا عجبا لها كيف تسول لها النفس تركي؟ وأي قلب قد من صخر قلبها! إنها تحبني ولا تجد للرجل الآخر حبا، ثم تأبى إلا أن تدعني للحب يحطمني! فخير والله أن أراها في الهالكين، ثم لا أراها لذلك الرجل زوجا، بل لخير أن نموت معا، فما نفع العيش إلى الثلاثين أو مرد التعمير إلى الخمسين، وقد تحطم الأمل، وتفتح في شغاف القلب جرح غير مندمل!
وسمعته ينشج وينتحب نشيج رجل ونحيبه، وإنه والله لنشيج مخيف! ونحيب كأنه زمجرة الوحش المعذب.
وطرق أذني صوت أمه وهي تؤاسيه وتحاول تخفيف الهم عنه، ثم ساد سكون ... ولكني لم ألبث أن عدت أسمع وقع قدميه وهو من الحجرة منصرف، وطرقت أذني بعد ذلك حركة أمه وهي تخطو في الحجرة ذهابا وجيئة، فبدأت خطى مترددات خفاف الوقع، ثم أخذت تسرع وتشتد، ثم تلاها سكون طويل وصمت مطلق ...
وفي صبيحة اليوم التالي، وافانا الفتى وحده إلى مائدة الفطور لم تحضر والدته، وكان وجهه ممتقعا، وعيناه متكسرتين متعبتين واتخذ إلى الخوان مجلسه صامتا، وأقبل على طعامه واجما، ولكنه ما عتم أن التفت إلي قائلا - وقد اجتذب ساعته من جيبه فتطلع إليها - عجبي لغيبة أمي! فقد ظننتها قبل مجيئي قد وافتكم إلى المائدة، فخير لي إذن أن أناديها.
ونهض عن المائدة فمشى إلى حجراتهما ولكنه لم يطل الغياب، بل عاد يقول: إنني من أمرها لفي عجب! إن باب مخدعها موصد، وعهدي بها لا تغير نظام عيشها قبل أن تخبرني بما تنتوي، وتنبئني بما عليه نجمع الرأي.
Неизвестная страница