ولكن في غد لم يتح للصغير ما كان في أمسه يتمنى، إذ أصاب حجر في مخاض الماء قدمه فجرحها واحتجزه الجرح عن المسير.
فقلت لأمه: دعيه في رعايتي. ولما رأيتها تتردد توسلت إليها فرضيت شاكرة.
حقا لقد كان ذلك في الحياة يوما مشهودا، منذ مضيت وطفلي ساعات معدودات، أضاحكه وأسليه وأنسيه أبويه ووحشة الوليد إلى والديه، وأخذته ساعة النوم في أحضاني فجعلت أغني له أغنيات الطفولة حتى أخذ الكرى في رفق بمعاقد جفنيه.
وكانت أمه قد تركت مفتاح حجرتها معي، فقمت به لأرقده في مهاده، ولكني ما كدت أقف بعتبة بابها حتى جمدت في مكاني لا أستطيع حراكا، لقد أخذت عيني على المنضدة صورة زوجي في إطار مجمل.
ومشيت بالوليد إلى سريره، فأضجعته وغطيته بغطائه وأنا راعشة الأوصال، وانحنيت عليه فطبعت على وجنته قبلة راجفة!
وانتبهت إلى نفسي بعد لحظة فوجدتني جالسة فوق فراشي والعلبة الصغيرة التي ظلت لصق صدري كل ذلك الدهر الطوال مفتوحة بين يدي ... يا لله! ... ها هو ذا الوجه وجهه والصورة صورته! ...
رباه! ماذا عسيت أن أفعل، وهو عما قليل قادم، لا ينبغي أن يراني ولا ينبغي لمخلوق في العالم أن يعرف السر، أو يدرك الخافية. إن لي الحق الأول فيه ولكني أحمد لربي صنيعه أن أنساني حقي، وألهمني نسيانه، وأوحى إلي النزول عنه.
إن هذه العشيرة الصغيرة تعيش اليوم في رغد، ولو أنني حطمت آنية هذه الهناءة وهدمت هذا الفردوس الذي تنعم بأفيائه وخمائله، فما نفع ذلك لي وما جدواه، وما الذي عندي أحبو به الرجل الذي أحببته، فيقوم عنده مقام هذا الوليد البديع، والصغير الغالي.
ولم أشعر في فؤادي بحقد على زوجي أو ضغن أو غضب، فقد أدركت الدافع وعرفت الباعث.
وآذنت الخامسة وحان موعد وصول الوالد إلى وليده، فهرعت إلى مهد الطفل، فأيقظته في رفق وحنان وألبسته ثوبه، وكان يطفر ويتنزى كالعصفور الفرح على فننه، وتناولت مقصي الصغير فاقتطعت لي خصلة من سبائك شعره، وتركته على صفير القاطرة يتلفت هاربا إلى البهو يتطلع إلى القطار القادم غائبا عن حياتي إلى الأبد.
Неизвестная страница