83

ويقول أنكسماندر بالتطهير والتكفير في دورات الخلق المتعاقبة كما يقول بهما الهنود، «فإلى المعدن الذي خرجت منه الأشياء تعود كرة أخرى كما قضي عليها، تكفيرا وترضية عن جور بعضها على بعض، وفقا لقضاء الزمن.»

وهو يقول بخروج الإنسان الأول من الماء وطين البحر، ولكنه يستبعد خروجه دفعة واحدة لأنه في طفولته غير مستغن عن الحضانة والكفالة، وكان الأقدمون يزعمون أن سمك «القرش» يقذف جنينه من فيه ثم لا يزال يبتلعه ويقذفه في كل مرة أكبر مما قبلها حتى يبلغ أشده، فيرسله في الماء ولا يعود إلى ابتلاعه، فخطر لأنكسماندر أن الإنسان الأول ربما خرج من جوف حيوان آخر على هذه الوتيرة، ولا يبعد أنه استعار هذا الخاطر من أساطير أهل بابل وما يروونه عن «الإنسان» المائي الذي يتألف من نصف إنسان ونصف حوت.

وظاهر من أقوال أنكسماندر أن مسألة الخلق عنده هي مسألة تحول من شكل إلى شكل ومن صورة إلى صورة، وليست مسألة إنشاء أو إحداث بعد عدم، وإن المادة الأولية التي تئول إليها جميع الموجودات هي كذلك مصدر الأرباب وأنصاف الأرباب، ومصدر الحركات والمتحركات، ولا مهرب لرب أو مربوب من الفناء آخر الأمر في معدنها الأصيل، وهذا بعينه هو مذهب الهنود كما قدمناه.

ولم يزد أناكسمين - تلميذ أنكسماندر - شيئا يذكر عن أقوال أستاذه في باب المعرفة الإلهية، وإن كانت له تخمينات قيمة في الجاذبية والذرات وتعريفات الحركة، وقد ختمت به مدرسة مليطية ومات في الربع الأخير من القرن السادس قبل الميلاد. •••

وكأنما كانت مدرسة مليطية نفخة في بوق مسموع في طليعة جند الحكمة، ولا سيما الحكمة الإلهية، فإن آسيا الصغرى وما حولها أنجبت في الجيل التالي لجيل طاليس وزملائه طائفة من أعظم الفلاسفة أثرا في مذاهب الحكمة الإلهية، ومن هذه الطائفة أكسينوفان وهيرقليطس وفيثاغورث وديمقريطس وأنكسغوراس ورسالة أكسينوفان الكبرى تنحصر في إنحائه الشديد على كل تشبيه أو تمثيل توصف به الأرباب؛ لأن حقيقة الإله عنده من وراء خيال الإنسان، وإنما يتخيل الإنسان أربابه على هيئته ويعزو إليها أخلاقا كأخلاقه وأعمالا كأعماله، ولو كان للحصان يد تحسن التصوير وسئل أن يصور إلهه لصوره حصانا مثله، ولو تخيل الأثيوبي ربه لتخيله أسود أفطس على مثاله، وهيهات للعقل البشري أن ينفذ إلى الحقيقة الإلهية أو يقاربها بعض المقاربة، فكل ما قيل عنها وما سيقال قد يكون فيه الصواب أو بعض الصواب، ولكنها مصادفة يجهلها القائل ولا يقيسها السامع بقياس معلوم.

أما هيرقليطس فلعله أعظم هؤلاء الأربعة أو أعظم فلاسفة آسيا الصغرى على الإطلاق.

ويرجح أن هيرقليطس اتصل ببعض الآراميين أو ببعض اليهود؛ لأن الآراميين الذين تهودوا كان من عادتهم - كما يتبين من ترجمتهم للتوراة المعروفة بالترجوميم - أن يذكروا كلمة الله «ممرا»

Memra

والحضور «شكينة» من السكن أو مكان الحضور، وينسبون إليها أعمال الله في مقام الإشارة والتعظيم، فيقولون حضرة الله كما يقولون كلمة الله وهم يعنون الإله، ويؤثرون الإشارة إليه تعظيما له عن الذكر الصريح، ومثل هذا شائع إلى اليوم في اللغات الشرقية التي تذكر الحضرة وتعني صاحب الحضرة، وتذكر الأمر والكلمة وتعني صاحب الأمر والكلمة، فكلمة الله على هذا المعنى ترادف أمر الله أو مشيئة الله عند الآراميين واليهود.

وكان هيرقليطس يقول: إن الكلمة

Неизвестная страница