48

وكانت عين شمس أو «هيليوبوليس» تدين له باسم رع وأحيانا باسم «آتوم»، وكانت طيبة تدين له باسم آمون.

ويتبين من مراجعة الدعوات والصلوات المحفوظة أن عبادة «فتاح» كانت أقرب هذه العبادات إلى المعاني الروحية، فارتفع «فتاح» من صانع حاذق بالبناء والتماثيل وسائر الصناعات إلى صانع مختص بإقامة الهيكل المقدس الذي أصبح في اعتقادهم مثالا للعالم بأرضه وسمائه، وما هي إلا خطوة واحدة بين بناء الهيكل الذي يمثل العالم كله وبناء العالم كله من أقدم الأزمان قبل خلق الإنسان، وارتفع فتاح طبقة أخرى في مدارج القدرة والتنزه عن النظراء، فتعالى عن الأجساد الشاخصة للحس وتمثل لعباده روحا مسيطرة على كل حركة وكل سكون في جميع المخلوقات، من ذات حياة وغير ذات حياة، فكان فتاح كما جاء في إحدى صلواته هو «الفؤاد واللسان للمعبودات، ومنه يبدأ الفهم والمقال، فلا ينبعث من ذهن ولا لسان فكر أو قول بين الأرباب أو الناس أو الأحياء، أو كل ذي وجود إلا وهو من وحي فتاح.»

وما وجد شيء من الأشياء قط إلا بكلمة من لسانه صدرت عن خاطر في فؤاده، فكلمته هي الخلق والتكوين.

ويرى المؤرخ الكبير برستيد أن عقيدة فتاح هي أساس مذهب الخلق بالكلمة

Logos

عند الإغريق الأقدمين، فلا حاجة بالخالق إلى أداة للخلق غير أن يشاء ويأمر فإذا بما شاء موجود كما شاء، ومن المحتمل جدا أن كهان تلك العصور تدرجوا إلى فهم قوة الكلمة الإلهية من فهمهم لقوة الكلمة على لسان الساحر وقوة الكلمة على لسان المبتهل بالصلاة.

ونسج كهان عين شمس على منوال كهان منف في تنزيه رع وتجريده من ملابسات الحس والتجسيد، ولا سيما بعد تفرغهم للعبادة الروحية وانصرافهم إليها كلما تعاظم سلطان الكهان في طيبة وتفاقمت سيطرتهم على مناصب الدولة، وهم كهان آمون.

وقد توطدت كهانة آمون في أيام المملكة الوسطى، وبلغت أوجها بعد عهد تحوتمس الثالث أكبر ملوك الأسرة الثامنة عشرة، ومرشح آمون - أو كهان آمون بعبارة أخرى للسيادة المطلقة على أرجاء البلاد.

واتسعت الدولة المصرية في عهد تحوتمس الثالث حتى تجاوزت حدودها بلاد النوبة والصومال في الجنوب، وامتدت إلى الفرات وآسيا الصغرى في الشرق والشمال، وكان اتساع الأفق في السياسة مقترنا باتساع الأفق في تصور العالم وما ينبغي لخالقه من التعظيم والتنزيه، فارتقى الفكر الإنساني في هذا العهد من البيئة المحلية إلى بيئة عالمية، ثم إلى بيئة أبدية تنطوي فيها أبعاد المكان والزمان.

وطغى نفوذ الكهان الآمونيين على كل نفوذ في البلاد من جراء هذه القربى بينهم وبين الملك العظيم، فاستأثر رئيسهم بلقب «الرئيس» في أنحاء الديار، وضيقوا الخناق على كهان رع وفتاح، ولزموا حدودهم مع الملك العظيم في أثناء حياته لقوته ورهبته وعلو اسمه بالمظافر والفتوح، وفرط ما أغدق عليهم من الهبات والحبوس والأوقاف، ولكنهم ذهبوا في الطغيان كل مذهب على عهد خلفائه، فطمعوا في نفوذ الملك بعد اطمئنانهم إلى نفوذ الدين.

Неизвестная страница