ويبقى بعد ذلك أن «الوعي» أعم من العقل المجمل وأعمق منه وأعرق في أصالة وجوده مع الحياة الإنسانية منذ نشأتها الأولى، ونعتقد أن الوعي الكوني المركب في طبيعة الإنسان هو مصدر الإيمان بوجود الحقيقة الكبرى التي تحيط بكل موجود.
وللإنسان وعي بما في الكون من جمال، وله وعي بما فيه من نظام، وله وعي بما فيه من أسرار وألغاز وغيوب، فإذا احتجب الجمال عن أناس وأسفر لأناس آخرين فليس ذلك بقادح في وجوده أو صدق الإحساس بمعانيه، وإذا تناسقت البدائه «الرياضية» والنظم الكونية في بعض العقول فليس يقدح في هذا النسق أنه مضطرب أو مفقود في غيرها من العقول، وإذا خيل إلى فريق من البشر أن هذا الكون السرمدي خلو من الأسرار والغيوب فليس لهذا الفريق حق الاستئثار بالتصديق دون الفريق الذي يستشعر تلك الأسرار والغيوب ويبادلها المكاشفة والمناجاة، وليست «لا» أحق بالتصديق من «نعم» لأنها إنكار؛ إذ إن الإنكار في المسائل السرمدية هو الادعاء الذي يطالب صاحبه بالدليل، وما زالت صورة الكمال المطلق مقترنة بصورة الحقائق السرمدية في بدائه العقول، فالذي يقول إن الحقيقة السرمدية الكبرى يمكن أن تكون قاصرة في هذه الصفة أو يمكن أن يتخيلها العقل بغير كمال وإطلاق فهو الذي يدعي ما يناقض البدائه ولا يقوم عليه دليل.
ونحن إذا رجعنا إلى تاريخ الإيمان في بني الإنسان وجدنا أن اعتماده على «الوعي» الكوني أعظم جدا من اعتماده على القضايا المنطقية والبراهين العقلية، وأنه أقوى جدا من كل يقين يتأتى من جانب التحليل والتقسيم، ولم تكن الفلسفة نفسها في عصورها القديمة معنية بإقامة البراهين على وجود الله للإقناع بعقيدة والتوسل إلى إيمان، وإنما كان الكلام في وجود الله عند الفلاسفة الأقدمين من قبيل الكلام على مباحث العلوم وتفسير الظواهر الطبيعية، فأرسطو مثلا لم يثبت وجود الله ليقنع به منكرا يدين بالكفر والإلحاد، ولكنه أثبته لأن تفسيره لظواهر الكون لا يتم بغير هذا الإثبات، ولم يحاول أن يقنع به أحدا في زمانه على طريق التدين والإيمان.
فليس وجود الله عند أرسطو وأمثاله مسألة دينية أو مسألة غيبية يختلف الأمر فيها بين الإثبات والنفي كاختلاف الهدى والضلال، ولكنها حقيقة عقلية كالحقائق الهندسية التي يتم بها تصور الحركات والأشكال في الأفلاك والسماوات.
ولما ظهرت الأديان الموحدة كان الجدل في صفات الله أكثر وأعنف من الجدل في وجوده، فقضى اللاهوتيون زمنا وهم لا يشعرون بالحاجة إلى إقناع أحد بوجود خالق لهذه المخلوقات، ولم يشعروا بهذه الحاجة إلا بعد اختلاط العقائد الدينية بالآراء الفلسفية، ومناظرتهم للمناطقة والمتفلسفين في صناعة الجدل والبرهان.
وقد أسفرت مباحث الفلاسفة المؤمنين عن براهين مختلفة لإثبات وجود الله بالحجة والدليل، ونحسب أننا نضعها في موضعها حين نقرر في شأنها هذه الحقيقة التي يقل فيها التشكك والخلاف: وهي أن البراهين جميعا لا تغني عن الوعي الكوني في مقاربة الإيمان بالله والشعور بالعقيدة الدينية، وأن الإحاطة بالحقيقة الإلهية شيء لا ينحصر في عقل الإنسان ولا في دليل يتمخض عنه عقل الإنسان، وإنما الترجيح هنا بين نوعين من الأدلة والبراهين، وهما نوع الأدلة والبراهين التي يعتمد عليها المؤمنون، ونوع الأدلة والبراهين التي يعتمد عليها المنكرون، فإذا كانت أدلة المؤمنين أرجح من أدلة المنكرين فقد أغنى الدليل غناءه وأدى القياس رسالته التي يستطيعها في هذا المجال، وهي في الواقع أرجح وأصلح للإقناع بالفكر - فضلا عن الإقناع بالبداهة - كما يبدو من كل موازنة منصفة بين الكفتين.
ولا يخفى أن قاعدة الإثبات والنفي في مناقشات الخصوم لا تنطبق على هذا الموضوع الجليل، فليس للعقل البشري خصومة في الإثبات ولا في خصومة في الإنكار، وليس على أحد عبء الدليل كله ولا على أحد عبء الإنكار كله في البحث عن حقيقة الوجود، وليس للمنكر أن يستريح في مرقده ليقول للمؤمن: إنها قضيتك فابحث عنها وحدك واجهد لها جهدك ثم أيقظني لتسمع مني ما أراه فيما تراه، فربما كان المنكر هنا هو صاحب الادعاء وهو أحق الخصمين بالجهد في طلب الدليل؛ لأنه إذا قال إن المادة قادرة على كل تدبير نراه في هذا الكون فليس كلامه هنا مجرد إنكار لوجود الله أو التزام للخطة الوسطى بين الإثبات والإنكار. •••
ونحن لا نحصي هنا جميع البراهين التي استدل بها الفلاسفة على وجود الله فإنها كثيرة يشابه بعضها بعضا في القواعد وإن اختلفت قليلا في التفصيلات والفروع، ولكننا نكتفي منها بأشيعها وأجمعها وأقربها إلى التواتر والقبول، وهي: برهان الخلق، وبرهان الغاية، وبرهان الاستكمال أو الاستقصاء، وبرهان الأخلاق أو وازع الضمير.
أما برهان الخلق - ويعرف في اللغات الأوروبية باسم البرهان الكوني أو
The Cosmological argument - فهو أقدم هذه البراهين وأبسطها وأقواها في اعتقادنا على الإقناع، وخلاصته أن الموجودات لا بد لها من موجد؛ لأننا نرى كل موجود منها يتوقف على غيره ونرى غيره هذا يتوقف على موجود آخر دون أن نعرف ضرورة توجب وجوده لذاته، ولا يمكن أن يقال إن الموجودات كلها ناقصة وإن الكمال يتحقق في الكون كله؛ لأن هذا كالقول بأن مجموع النقص كمال، ومجموع المتناهيات شيء ليس له انتهاء، ومجموع القصور قدرة لا يعتريها القصور، فإذا كانت الموجودات غير واجبة لذاتها فلا بد لها من سبب يوجبها ولا يتوقف وجوده على وجود سبب سواه.
Неизвестная страница