140

وحب لأنك أهل لذاكا

ويبرز هذا المعنى كل البروز حيث يقول ابن عربي في حلم رآه:

رأيت ليلة أني نكحت نجوم السماء كلها فما بقي منها نجم إلا نكحته بلذة عظيمة روحانية، ثم لما أكملت نكاح النجوم أعطيت الحروف فنكحتها، وعرضت رؤياي هذه على من عرضها على رجل عارف بالرؤيا بصير بها، فقال: صاحب هذه الرؤيا يفتح له من العلوم العلوية وعلوم الأسرار وخواص الكواكب ما لا يكون لأحد من أهل زمانه.

فهذا وأشباهه كثير من أقوال أهل التصوف الذين امتازوا بالعبقرية الدينية هذا الامتياز.

ولكنهم لا ينفردون بهذه الحالة بين أصحاب العبقريات؛ فإن ما يصدق عليهم يصدق على عباقرة الفن وعباقرة الحرب وعباقرة المعرفة على التعميم، فما من أحد من أصحاب هذه العبقريات إلا لوحظ في تكوين مزاجه اختلاف قوي يمس الغريزة النوعية أقوى مساس، فمنهم من يفرط فيها ومنهم من يهملها، ومنهم من يصاب بالعقم ومن يولد له أولاد يموتون في الطفولة أو يولد له الإناث دون الذكور، ومنهم من يرتبط وحيه الفني بعاطفة من عواطف الحب تشغله في الحقيقة والخيال، فإذا قلنا إن العبقرية كلها نوع من التسامي بالغريزة النوعية بقي أن نعرف دواعي التمييز بين عبقرية المتصوف وعبقرية الفنان وعبقرية العالم وعبقرية القائد الفاتح والسياسي القدير، وإنما نذكر الواقع فنفهم الحقيقة في هذا الأمر على وجهه المستقيم، والواقع من جهة هو أن العبقرية «يقظة وتنبه» وأن الغريزة النوعية عميقة القرار في تركيب كل بنية حية، فلا تتيقظ النفس في أعماقها إلا تنبهت معها تلك الغريزة فبرزت بتعبيراتها على نحو من الأنحاء، والواقع من جهة أخرى أن العبقرية خدمة للنوع كله من جانب الخلق العقلي أو الروحاني لا من جانب الخلق الحيواني أو جانب التوليد، فلا عجب أن تنازع الغريزة مكانها وأن تنمو واحدة منهما «على حساب» الأخرى، ولا عجب أن تتلاقيا على حال من الأحوال وكلتاهما مرهونة بطلب التجديد والدوام في نوع الإنسان.

فالتسامي بالغريزة النوعية لا يفسر لنا التصوف أو العبقرية الدينية، ولا يفسر لنا البراعة الحربية أو القدرة على نظم الشعر ونحت التماثيل وتنسيق الألحان وكشف القوانين العلمية أو الرياضية، وإلا لكانت كل هذه العبقريات سواء في المعدن والقدرة، ولم يكن هنالك فرق بين الشاعر والفاتح والرياضي والموسيقار، وليس ذلك بتفسير وتوضيح، بل هو الإبهام كل الإبهام.

إنما التصوف - أو العبقرية الدينية - قدرة على الشعور بحقائق الدين والعبادة، وهو كجميع العبقريات قلق يتطلب الراحة بالتعبير عن نفسه، والتوفيق بين النقائض التي تعتريه والشكوك التي تساور الضمير فيما يجب عليه.

وقد أصاب الغزالي حين سمى هذه العبقرية بالذوق والسلوك، ولا نحسب أننا نختار في وصف قلق النفس ونوازعها إلى التصوف كلاما هو أصدق من كلامه في التعبير عن هذه الحالة، حيث قال في كتابه المنقذ من الضلال:

ثم تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني قد أشفيت على النار إن لم أشتغل بتلافي الأحوال، فلم أزل أتفكر فيه مدة وأنا بعد على مقام الاختيار: أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوما، وأحل العزم يوما ، وأقدم فيه رجلا وأؤخر عنه أخرى، لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة فيفترها عشية، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل الرحيل؛ فلم يبق من العمر إلا قليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل، ثم يعود الشيطان ويقول: هذه حالة عارضة، وإياك أن تطاوعها؛ فإنها سريعة الزوال، فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريبا من ستة أشهر، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار؛ إذ قفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوما واحدا تطبيبا لقلوب المختلفين إلي، فكان لا ينطق لساني بكلمة ولا أستطيعها البتة، ثم أورثت هذه العقلة في اللسان حزنا في القلب بطل معه قوة الهضم وقرم الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لي شربة ولا يهضم لي لقمة، وتعدى إلى ضعف القوى حتى قطع الأطباء طمعهم، فلا سبيل إلى العلاج إلا بأن يتروح السر من الهم الملم، ثم لما أحسست بعجزي وسقط اختياري التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب، وأظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أوري في نفسي سفر الشام، ففارقت بغداد وفرقت ما كان معي من مال ولم أدخر إلا قدر الكفاف وقوت الأطفال.

ويختلف المخرج من هذه الحيرة باختلاف مزاج الصوفي وتكوينه، فإذا غلب عليه الشعور طلب سلام النفس بالزهد والتخلي عن العلاقات واستراح إلى سكينة التسليم، وإذا غلب عليه العقل والبحث طلب سلام النفس من طريق المعرفة التي ترفع النقائض، وتجمع الخواطر إلى وحدة يطيب للعقل أن يستقر عليها.

Неизвестная страница