ولكن الإسلام ظهر وقد تداعى ملك الرومان وزال سلطان الشرائع الإسرائيلية، وكان ظهوره بين قبائل على الفطرة، لا تترك بغير تشريع في أمور الدنيا والدين يزعها بأحكامه في ظل الحكومة الجديدة، ويوافق أطوارها كلما تغيرت مواطنها ومواطن الداخلين في الدين الجديد، والعبرة بتأسيس المبدأ في حينه، ولم يكن عن تأسيس المبدأ في ذلك الحين من محيد.
وإذا بقي الإيمان بالحق فقد بقي أساس الشريعة لكل جيل، وفي كل حال.
الأديان بعد الفلسفة
(1) اليهودية بعد الفلسفة
تقدم اليهود في الزمن وتقدموا في دراسة الفلسفة اليونانية، وبلغ اختلاطهم بمذاهب الفلسفة أتمه في مدينة الإسكندرية قبيل الميلاد لأنها أصبحت مركز الثقافة في العالم المتحضر، بعد انتهاء عصر الفلسفة من أثينا وسائر بلاد الإغريق.
واليهود كما هو معلوم لا يتحولون عن عقائد آبائهم وأجدادهم وإن خالفت كل ما تعلموه ودرسوه ودرجوا على التفكير فيه؛ لأن عقيدتهم بالنسبة إليهم أكثر من عقيدة دينية: هي جنس ومعقل دفاع في وجه الأمم التي يعادونها وتعاديهم، فهم أحوج الناس إلى التوفيق بين العقيدة والفكرة لفهم الدين على النحو الذي يستبقي الصلة بينهم وبين أسلافهم ولا يقطع الصلة بينهم وبين الزمن الذي يعيشون فيه، فإن استبقاء هذه الصلة بينهم وبين الزمن لازم لهم مفروض عليهم إذ هم لا يتسلطون على العالم بقوة الحكم والغلبة، ولكنهم يستفيدون منه بالتطور والمجاراة وملابسة المطالب الدنيوية، فاستبقاء الصلة بينهم وبين أسلافهم واستبقاء الصلة بينهم وبين العالم ضرورتان تتساويان وتصبحان ضرورة واحدة: هي ضرورة الحياة.
فالمفكرون اليهود لا ينقطعون عن أصولهم كل الانقطاع ولا ينقطعون عن ثقافة العالم كل الانقطاع، ولا سيما الثقافة التي تدخل في اعتقاد الجماعات وتتأثر بها حركات الأمم ونزعات المسيطرين عليها.
وأقدم فلاسفة اليهود الذين أسسوا قنطرة الاتصال بين الدين والفلسفة هو ولا شك فيلون الإسكندري الذي ولد في السنة العشرين قبل الميلاد وتوفي بعد ذلك بنحو سبعين سنة، فإن بناء هذه القنطرة بالنسبة إليه ضرورة روحية لا فكاك منها، فضلا عن ضرورة الزمن الذي عاش فيه وضرورة البيئة التي اشتجرت فيها عقائد مصر وعقائد أبناء جنسه وفسلفة اليونان، بعد امتزاجها بالديانات السرية في مصر وسائر الأقطار الرومانية.
وقد تعلم فيلون من دينه أن الله ذات، وتعلم من الفلسفة اليونانية أن الله عقل مطلق مجرد من ملابسات المادة.
فلم يستطع أن يقبل الصفات والأنباء التي أسندت إلى الله في كتب اليهود بدلالتها الحرفية ونصوصها الظاهرة، ولم يستطع أن يجاري الفلاسفة في عزلهم بين الله ومخلوقاته ورفعهم عناية الله عن الاشتغال بأحوال هذه المخلوقات.
Неизвестная страница