Аллах - Милосердный к Своим Рабам
الله لطيف بعباده
Издатель
دار القاسم
Жанры
المقدمة
الحمد لله ذي الفضل والجود، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فما سمعت أذن، ولا رأت عين ألطف بالعباد من رب العباد، ترى الأمور العظام والمصائب الشداد، فإذا انجلى الأمر فإذا الخير والأجر.
الله لطيف بعباده؛ خلقهم، ورزقهم، وهداهم، وأسكن من شاء منهم جنته، رحمته سبقت غضبه، وفضله سبق عقابه.
هذا الكتيب ... إلى من استوحشت به الطرق، وافترقت به المسالك، وأظلته سحابة حزن، وترك له الزمن جرحًا ينزف .. الله لطيف بعباده.
1 / 3
الزوج والزوجة
أسرعت ذلك اليوم لإنجاز عملها رغبة في حضور محاضرة نسائية أعلن عنها، تلقيها إحدى الداعيات المعروفات بسلاسة الطرح، وضرب الأمثلة الواقعية وكان العنوان جذابًا فهو عن «السحر والشعوذة».
ولما جلست على كرسي في القاعة المكتظة، إذا بها تجد اللهفة والشوق من جميع الحاضرات لهذا الموضوع العقدي المهم، الذي بدأ يستشري ويظهر في كثير من المجتمعات لقلة الدين ولوجود العاملات في المنازل وكثرة السفر للخارج، مع ضعف في التوكل على الله ﷿، وعدم المحافظة على تحصين النفس بالأذكار المشروعة وغيرها.
بدأت المحاضرة باسم الله تعالى والحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، ثم عرفت السحر وحكمه وأنواعه وجزاء من فعله أو قام به، أو ذهب للسحرة والعرافين امتثالًا لقول النبي ﷺ: «من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ» (١).
ثم أسهبت في تعريف جانب يهم النساء، فقالت عن العطف، والصرف للأزواج: بأنه من أنواع السحر، ولو كان الدافع للعمل هذا حسن النية، بحيث تبرر المرأة عمل الشيطان حتى يحبها زوجها
_________
(١) رواه أحمد والحاكم والبيهقي.
1 / 4
ويستقر حالها، ثم أردفت: السعادة لا تجلب بمعصية الله ﷿.
وعندما رأت المحاضرة عيون الكثيرات نحوها قالت بيقين: وغالب النساء اللاتي يعملن السحر لأزواجهن يتم طلاقهن بعد حين من الزمن طال أم قصر، وهذه النتيجة هي من آثار معصية الله ورسوله، ومعاملتها بضد ما أرادت من السحر بأن شتت الله شملها، وفرق بينها وبين زوجها، وهذا من عقاب الدنيا فكيف بعقاب الآخرة؟ !
انتهت المحاضرة، وتوالت الأسئلة لكنها سرحت بفكرها إلى من تعرف أنها آذت زوجها، وجعلت له نوعًا من سحر العطف والصرف ... وتذكرت حياتها في أول الأمر وكيف آلت إلى الفراق والشتات، بعد عشرة هنية وحياة طيبة، فطلقت الزوجة وتشتت الأبناء وكرهها الزوج، وعندما قال للزوج أحد الناصحين ممن لم يعرفوا حقيقة ما جرى: اجعلها خادمة لأبنائك، وتزوج بزوجة ثانية وثالثة إن أردت، قال في نفسه وهو محق في قوله: كيف أطمئن لامرأة تعمل هذا المنكر؟ وأين لي الأمان في حياتي معها؟ ! ثم هل هذه المرأة مؤتمنة على تربية صغاري وهي تعصي الله ﷿ بأمر كفري؟ !
طلقها، وكلما تقدم لفتاة أصابها أمر عجيب، فتتوالى أنفاسها ويضيق صدرها، ويتصبب عرقها، وتبكي ولا تنام فإذا قالت: لا، زال ما بها، وهكذا تقدم لعشر فتيات وعشرين والحالة واحدة! هم وغم، واضطراب حتى ينتهي الأمر.
1 / 5
حتى صرح له أب لفتاة تقدم لها أن في الأمر شيء وليست الأحوال طبيعية إطلاقًا أكثر من قراءة القرآن والأذكار المشروعة، واغتسل بالسدر وتحرى مظان الإجابة ... ومرت السنة الأولى، والثانية، فإذا باللطيف بعباده يجبر كسره، ويجمع شمله، ويرزقه زوجة صوامة قوامة، أنسته شقاء السنوات الماضية، وكرب الليالي المظلمة، وفي كل يوم يحمد الله ﷿ أنها الزوجة التي يأمن معها على عيش الدنيا ويأمل أن يجمعه الله في الفردوس الأعلى.
وقفة:
قال ابن تيمية: «العوارض والمحن هي الحر والبرد، فإذا علم العبد أنه لابد منها، لم يغضب لورودهما ولم يغتم لذلك، ولم يحزن» (١).
وقال ابن الجوزي: لو أن ملكًا قال لرجل فقير: كلما ضربتك بهذا العود اللطيف ضربة أعطيتك ألف دينار؛ لأحب كثرة الضرب، لا لأنه لا يؤلم ولكن لما يرجو من عاقبته وإن أنكأه الضرب.
_________
(١) المستدرك على مجموع فتاوى ابن تيمية (١/ ١١٤٥).
1 / 6
فلذات الأكباد
تزوجت في عز شبابها إلى شاب لا يعرفونه، ولا يعرفون أهله، ولا طبائعه وأخلاقه، فكانت النتيجة بعد سنوات الفراق المر بعد أن أنجبت طفلًا واحدًا، ولم تقف المصائب عند الفراق فحسب، فإنها لم تهنأ بعيش ولم يدعها في شأنها بل أذاقها الزوج صنوفًا من الغيبة والبهتان والاستهزاء، ثم ألحقها بإيذاء عجيب، ألا وهو حرمانها من رؤية صغيرها ومشاهدته والجلوس معه، وحرمها الشهور الطويلة لا ترى وجهه ولا تسمع صوته.
فكانت تسارع إذا اشتد بها الشوق وغلبها البكاء إلى مدرسة الصغير لتراه وهو خارج من أسوار المدرسة ... تلقي عليه نظرة من بعد .. عندها يزداد بكاؤها، وهي تراه ولا تستطيع أن تضمه إلى صدرها، حتى تفتت كبدها، ولامس فقده جرحًا ينزف في سويداء قلبها! لكن الله لطيف بعباده ألهمها الصبر والسلوان على فقده، وقال لها والدها وكان رجلًا عاقلًا: إن طالت بك الأيام ليأتين بسيارته إلى بابك.
سار الزمن بطيئًا وهي تحاول نسيانه فلا تستطيع، وترسل له من يتتبع أخباره، وكيف ينام ويصحو؟ ومن يأتي بحاجته؟ ومن ينظف ثوبه ويغسله؟ بل ومن يوقظه للصلاة .. انهكها السؤال وأضناها الفراق، حتى أصابها الهم والحزن، فإذا بها تنام وصورته في مخيلتها، وتصحو وهي على أمل بعيد، أن تراه! وبين الحين والآخر
1 / 7
تتذكر حال نبي من الأنبياء الله وقد فقد ابنه! لقد فقد يعقوب ﵇ ابنه سنوات طويلة، واستمر به الحزن حتى سقط حاجباه على عينيه، فكان يرفعهما بخرقة فقيل له: ما هذا؟ فقال: طول الزمن وكثرة الأحزان! حتى فرج الله شدته ورد إليه ابنه في خير حال وأحسن مآل.
وبعد سنوات من الفراق والحرمان، أراد الله أن يكون كلام والدها حقيقة واقعة، وأن يجمع الله بينها وبين صغيرها، فإذا بالابن رجلًا يقود السيارة، ويأتي ليقف بالباب، ويقبل رأس أمه لينسيها تلك الأيام الطويلة، ببر حسن وصلة مباركة، مع ما رزقه الله من صلاح وحسن سمت! وقالت له: يا بني تضرعت لك بالدعاء سنوات طويلة، حتى رحم الله ضعفي وجبري كسري، وجمعني وإياك فإذا بي أراك على أحسن حال، وأجمل صورة فالله لطيف بعباده! .
وفقة:
قال الحسن: كان منذ خروج يوسف من عند يعقوب ﵉ إلى يوم رجع ثمانون سنة، لم يفارق الحزن قلبه، ودموعه تجري على خديه، ولم يزل يبكي حتى ذهب بصره، وما على الأرض يومئذ أكرم على الله تعالى منه.
1 / 8
حفظ كتاب الله ﷿
كأي فتاة شابة في مقتبل العمر تتطلع إلى زوج وأبناء وأسرة صغيرة تنمو مع الأيام لكن الله عز جل بحكمته صرف عنها الخطاب بعد تخرجها من الجامعة، فلم يطرق بابها أحد، فأشارت عليها الناصحة وقالت: حتى يتسنى لك الأمر وتحصلي على الوظيفة التحقي بدار تحفيظ القرآن الكريم، فوقع الأمر في قلبها، والتحقت بالدار طالبة مجدة، وحافظة نشيطة. وخلال ثلاث سنوات كان لها أعظم خير وأبرك علم، ألا وهو حفظ كتاب الله الكريم كاملًا، وكانت في فترة الثلاث سنوات ترى زميلاتها، وقريباتها يتخطفهن الأزواج، لكن الله ﷿ ألقى في نفسها رغبة وحرصًا على إتمام حفظ كتاب الله ﷿، وكلما زاد حفظها لكتاب الله، زاد حرصها أن تتمه حفظًا عن ظهر قلب، وكانت تدعو الله ﷿ في سرها وجهرها بعد مضي السنة الثانية والثالثة، أن لا يتقدم إليها خاطب يشغلها عن حفظ كتاب الله ﷿، تريد إتمام المدة الباقية لتكون حافظة متفرغة لذلك، دون صوارف.
وفي حف التخرج كان لها موعد مع ما يسر الله لها من زوج، فقد رأتها إحدى الحاضرات في ذلك الحفل، وكانت بداية طريق الزواج، مرت الأيام والأسابيع فإذا بها عروس حافظة لكتاب الله، حاملة له في صدرها لكنها تأملت لطف الله ﷿ بها، وتأخر زواجها برهة من الزمن حتى أتمت حفظ القرآن كاملًا.
1 / 9
قال في مختصر منهاج القاصدين:
من أنواع الصبر: الصبر على الطاعة: وهو الثبات على أحكام الكتاب والسنة، وينقسم إلى ثلاثة أحوال:
١ - حال قبل العبادة: وهو تصحيح النية والإخلاص والصبر عن شوائب الرياء.
٢ - حال في نفس العبادة: وهي أن لا يغفل عن الله تعلى في أثناء العبادة، ولا يتكاسل عن تحقيق الآداب والسنن.
٣ - حال بعد الفراغ من العبادة: وهو الصبر عن إفشائه، والتظاهر به، لأجل الرياء والسمعة، وعن كل ما يبطل عمله، فمن لم يصبر بعد الصدقة عن المن والأذى أبطلها.
1 / 10
الأبناء
أمر تربية الأبناء عظيم ولهذا قال النبي ﷺ: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ..» فخافت هذه الأم من يوم الحساب وتذكر تجزاء التفريط في الأمانة مع كثرة الفتن وانتشارها وظهورها! ! ! فحرصت بكل ما تملك على حسن تربية أبنائها وجعلت لهم نصيبًا من الدعاء في سجودها، وقيامها، وجلوسها، وتكبدت المشقة في سبيل رعايتهم وتوجيههم والصبر على ذلك سنوات طويلة، وهي تقوم بهذا الأمر محتسبة صابرة، وكانت تتطلع إلى السماء وتشكو إلى الله صعوبة التربية مع كثرة أبنائها وتقارب أعمارهم.
لكنها بعد اعتمادها على الله ﷿ وثقتها به، جعلت من بيتها واحة إيمانية ليس فيها للفتن مكان، بل كانت المربي والموجه، ولم تجعل للشاشة وما يعرض فيها مدخلًا على قلوبهم، وكانت ترفض الذهاب لدعوة من معارفها ممن لديهم شاشة تلفاز، حتى تحافظ على صغارها! ولطالما تمنت تلبية الدعوة، لكنها تمتنع إتمامًا لنهجها في تربية الصغار.
وكان لهذا الجهد ثمرة، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا فأكرمها الله بأبناء نجباء، حفظوا كتاب الله ﷿، وعندما يؤذن المؤذن تسمع صوت أحدهم إمامًا يقتدي به المصلون فتسر وتفرح وتسأل الله الثبات!
1 / 11
وإذا أقبل الليل فرحت لأنه يجمع أبناءها حولها ... في حين إذا أقبل الليل على غيرها من الأمهات بدأ القلق والهم، والغم يطرق قلبها: أين يذهب ابنها المراهق في ظلمة الليل؟ !
حمدت الله ﷿، وشكرته على نعمه العظيمة.
وقفة:
قال بعض السلف: من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الغم بالعيال.
1 / 12
التحول الكبير
شاب في مقتبل العمر، أنعم الله عليه بالصحة والعافية، وكان والده ثريًا موسر الحال، يملك الدور والقصور، ولديه شركات تجارية ناجحة، فنشأ في بيت مدلل، لا يرد له طلب، لكنه -مع الأسف- لاه ساه غافل، لا يعرف الصلاة إلا بين الحين والآخر، ولما شب عن الطوق تخاطفه رفقاء السوء ... منهم من يحبه لجرأته في التحدث عن علاقاته العاطفية، ومنهم من يخطب وده للمال الذي ينفقه! لم يفكر يومًا أن هذا المال بهذه الحياة هو طريق إلى النار والعياذ بالله!
في مطلع كل صيف يسافر شهورًا طويلة، ولا تسل عما يفعل من المعاصي! بل هل هو ترك امرًا لم يعص الله ﷿ فيه؟ ! لقد كان هذا المال معينًا له على الفساد والانحلال!
ومرت السنوات وهو على هذه الحال، حتى قارب عمره الخامسة والعشرين؛ وكانت الإجازة الصيفية على الأبواب وقد رتب أمر السفر، واستعد للفساد والإفساد بكل ما أوتي من قوة وحيلة، ومال وجاه، وصحة ونشاط! لكن الله ﷿ لطيفًا بعباده أمهله على كثرة ذنوبه، وأمد في أجله مع مبارزته له بالمعاصي لطف به حتى كان ذاك اليوم وتلك الليلة، ساق الله له الخير سوقًا، وأنقذه من جهله وغفلته، فإذا الخير يقدم مع سيارة مسرعة لتلقي بسيارته خارج الطريق ويمضي في السيارة قرابة الساعتين في غيبوبة
1 / 13
لا يعلم عنه أحد ولما أفاق بعد أسبوع فإذا به يفاجأ لقد انتقل من قصره الواسع إلى غرفة في المستشفى، وتغيرت حاله، تكسرت أسنانه، وجرح وجهه، وتشوهت ملامحه، وأقعدت قدماه، لقد أصيب بالشلل!
لقد كانت صدمة قوية، غيرت مجرى حياته وأثرت فيه تأثيرًا عجيبًا، بدأ يسترجع أيامه ولياليه، فرأى أن صحته ذهبت في الحرام، ونشاطه كان في الجري وراء الشهوات .. اليوم أقعده الله ﷿ ليراجع نفسه ويفيق من غفوته، وقال بلسان حاله: الله لطيف بعباده يعصونه ويمهلهم وينكرون نعمته ويمدهم ويتم نعمته بأمر كهذا ليعودوا إليه! حزن أن تكون صحته تراق في شهوة، ونشاطه في معصية، وتذكر بعد شهور من لزوم الاستقامة حال يوسف ﵇ وكيف أتته المعصية وردها وكيف رضي بالسجن ولا يقارف المعصية!
قال ابن القيم نقلًا عن شيخه ابن تيمية:
«كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخواته له في الجب وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره، لا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، وأما صبره عن المعصية فصبر اختيار ورضا، ومحاربة للنفس، ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة، فإنه كان شابًا وداعية الشباب إليها قوية،
1 / 14
وعزبًا ليس معه ما يعوضه ويرد شهوته، وغريبًا والغريب لا يستحيي في بلد غربته مما يستحي منه بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكًا والمملوك أيضًا ليس وازعه كوازع الحر، والمرأة جميلة وذات منصب، وهي سيدته، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشد الحرص، وتوعدته إن لم يفعل بالسجن والصغار ومع هذه الدواعي كلها صبر اختيارًا، وإيثارًا لما عند الله، وأين هذا من صبره في الجب على ماليس من كسبه»؟ !
تأمل الشاب في حاله، فقال: الحمد لله الذي رد علي ديني، وأعانني على التوبة! اليوم عرفت أن فتنة الغنى والصحة والشباب كانت لي نقمة فلم أصرفها في الخير حتى لطف الله بي، وردني إليه ردًا جميلًا.
وقفة:
قال الأستاذ مصطفى الرافعي: ومثل الابتلاء كقشر البيضة سجن لما فيها ... تحفظ ما بداخلها حتى يتشكل ويخرج بعد ذلك خلقًا آخر، وكذلك المبتلى يكون ابتلاؤه سجنًا له ويشكل وهو فيه حتى يخرج من الابتلاء وهو خلق آخر.
1 / 15
المصائب والمحن
وقفة:
قال ابن القيم ﵀: وتمام الكلام في مسائل المصائب والمحن يتبين بأصول نافعة جامعة:
الأول: أن ما يصيب المؤمنين من الشرور دون ما يصيب الكافرين.
الثاني: أن ما يصيب المؤمنين مقرون بالرضا والاحتساب فإن فاتهم فمعوَّلهم على الصبر وعلى الاحتساب، وذلك يخفف البلاء بلا ريب.
الثالث: أن المؤمن محمول عنه بحسب طاعته، وإخلاصه ووجود حقائق الإيمان في قلبه، بحيث لو كان شيء منه على غيره لعجز عن حمله، وهذا من دفع الله عن عبد المؤمن.
الرابع: أن محبة الله إذا تمكنت في القلب كان أذى المحب في رضا محبوبه مستحلى غير مسخوط.
الخامس: أن ما يصيب الكافر، والفاجر، من العز وتوابعه مقرون بضده.
السادس: أن ابتلاء الله لعبده المؤمن كالدواء يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته أو نقصت ثوابه.
السابع: أن ذلك من الأمور اللازمة للبشر.
الثامن: أن لله في ذلك حكمًا عظيمة معروفة.
1 / 16
التاسع: أن ذلك من الابتلاء، والامتحان الذي يظهر به الصادق من الكاذب.
العاشر: أن الإنسان مدني بالطبع ولابد من الاختلاط، واختلاف التصورات، والإرادات التي تنشأ عنها كثير من الأكدار، والمؤمن مأمور أن يقوم بوظيفته فيها، وذلك مما يهون المصيبة.
الحادي عشر: أن البلاء الذي يصيب العبد لا يخرج عن أربعة أقسام: إما أن يكون في نفسه، أو في ماله، أو في عرضه، أو في أهله ومن يحب، والناس مشتركون في حصولها، فغير المؤمن التقي يلقى منها أعظم مما يلقى المؤمن كما هو مشاهد.
1 / 17
الداعية
منذن أن اهتديت ورزقني الله الاستقامة، وأنا أحرص على الدعوة إلى الله، وهداية الناس إلى طريق الحق.
فحولي أقارب وأحباب، وأصحاب وزملاء .. وكل منهم يحتاج إلى دعوة .. وحبب الله إلي أمر الدعوة، فما وجدت طريقًا إلا دخلته، وما رأيت مسلكًا إلا سرت فيه، جعلت جل وقتي في الدعوة ... وأسر بين حين وآخر وأنا أرى ثمرة دعوتي سريعة، فأحمد الله ﷿ وأعزم على المضي في طريق الأنبياء والمرسلين.
دعوت والديَّ حتى قرت عيني بهما، ثم دعوت زوجتي حتى أصبحت معينة لي ...
بعضهم تجده مغرقًا في أوحال المعصية، وآخرون مقصرون في الأوامر الشرعية.
يخيل لي أن النار تجري وتلحق بالعاصي، وهو يهرب فأشفق عليه وأحرص على أن لا تمسه ... فأجري لألحق به ممسكًا به، حتى لا يقع في الهاوية .. وربما لحقني أذى أو سلط أحد لسانه علي ورماني من كنانته بسهام ... وكلها أحتملها، ففي جنب الله تهون المصائب، جميع من دعوتهم مباشرة كانوا مسلمين، في بعضهم بدع ومعاص ظاهرة، وآخرون تركوا السنن والمستحبات فأضحت لديهم متروكة منسية .. واكتسبت خبرة عملية في الدعوة وأصبحت أعرف من أين أبدأ، وكيف أحاور وألفت أذني أصوات
1 / 18
الشكر والدعاء، وصمت عن سماع البذاءة والإهانة، والتهديد وكلما فترت نفسي وتراخت همتي تذكرت صبر الرسول ﷺ، وما لاقاه من عنت قومه، وما أصابه من مشقة ونصب وعناء ... عندها تهون نفسي وتضيء معالمي سيرة الرسول ﷺ ففي صبره منهاج دعوة، وطريق حياة ومعلم تربية.
وإن تكالب الضعف وتردت النفس سارعت إلى التضرع والدعاء بأن يجعلني الله من الدعاة وأن يثبتني على دينه.
وأقمت أمام عيني أنني ناصح، وليس من شروط النصيحة القبول. ولذا مع مرور الأيام وطنت نفسي وألزمتها الصبر، وجعلت زادي الاحتساب، وأنعم به من زاد.
ولم يكن الدعاء والشكر، بل وحتى الثناء يقدم أو يؤخر في نفسي شيئًا فأنا أنتظر الجزاء في ذلك اليوم العظيم ..
﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس: ٣٤].
شاء الله أن أتنقل في أعمال كثيرة، وهذه أفادتني ولله الحمد في كثرة الزملاء وتنوعهم.
ولكن محطتي الأخيرة التي شاء الله أن أتوقف فيها، هي مستشفى طبي، وصرح حضاري، يعج بمختلف الجنسيات، وتجتمع فيه مختلف الديانات، فهذا مسلم، وذاك نصراني وآخر بوذي، وتنوع كهذا ألقى علي عبئًا كبيرًا وهمًا ثقيلًا، فمن رؤية الكفار
1 / 19
صباحًا ومساء، وشيوع بعض المنكرات كما أن قلة حصيلتي في اللغات الأجنبية وعدم توفر الكتيبات والنشرات بغير العربية كلها عوائق اجتممعت في وجهي، وكأنني أتيت لأقيد نفسي وأتوقف عن نشاطي.
ولكن لم أستسلم أو أتوقف، بل فكرت من أين أبدأ وماذا أقول؟ ! أسئلة تزاحمت في رأسي تبحث عن مخرج لها.
في وسط الموج الهادر من الأفكار عينت بجوار طبيب فلبيني الجنسية نصراني الديانة.
فبدأت أتقرب إليه طمعًا في إسلامه، وكان لطيف المعشر ونشأت بيني وبينه زمالة مشتركة فأصبح يحب الجلوس معي ويقبل حديثي.
ولكن فجأة عندما بدأت أحدثه عن الإسلام تحول إلى وحش كاسر، وانقلبت المودة إلى كره ظاهر، وغضب شديد، ولكن كنت آمل خيرًا، فوطنت الصبر وأنخت الاحتساب ليكون سلوتي .. وبدأت أتحاشى الحديث عن الإسلام مباشرة ولكن نفسي أبت ذلك! !
بعد شهور طويلة، نمت ليلة بعد تفكير طويل، وأرق وكآبة.
وفي الصباح قررت أن أحدثه عن الإسلام في أقرب فرصة أجدها مناسبة حتى تبرأ ذمتي، ويذهب الحرج عن نفسي .. حتى وإن كانت النتائج عكسية، أليس شباب النصارى يطرقون بيوت
1 / 20
المسلمين في أوروبا وأمريكا، وتغلق الأبواب مرة وأخرى، ولكنهم يعاودون الاتصال حتى يهددهم صاحب المنزل بالاتصال على الشرطة إن عادوا إليه، فمالي إذا أحجم وأتراجع؟ !
في صباح يوم مشرق جميل وجدت فرصة، فأطلقت لساني يحدثه عن الإسلام فما أن أحس بانطلاقي في الحديث حتى غضب غضبة عجيبة، وقام من مكانه بانفعال، وبصق في وجهي بوقاحة ..
نازعتني العزة بالإثم وصرخ الكبرياء في نفسي، ولكن سيرة الرسول ﷺ تخالط شغاف قلبي، صبر على أذى المشركين رجاء أن يخرج الله من أصلابهم من يوحده.
اجتمعت علي الهموم والغموم، وأجلب الشيطان علي بخيله ورجله، إنها بصقة في وجه مسلم! ! ! وممن؟ !
إنها من كافر .. ولماذا؟ لأنك دعوته إلى الإسلام.
تحرك هاجس الانتقام وتحركت يدي، وسبقها لساني أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وأعدت يدي إلى وجهي تزيل طعنة جهاد في سبيل الله، أدعوه جل وعلا أن يتقبلها مني ..
كآبة الحزن ارتسمت على وجهي، ضحى ذلك اليوم ومساءه، وخشيت أن أحدث أحدًا من أحبتي ولكني رأيت أن السكوت خير من أن يحدث أمر لا تحمد عقباه .. واستغفرت ربي ودعوته في تلك الليلة دعاء حارًا أسقط ردائي من كتفي وخررت
1 / 21
لله ساجدًا.
مضت الأيام وحبل المودة مقطوع، والجفوة قائمة بيننا. وفي تلك الأثناء كانت الهداية تخطو نحو بيت هذا الطبيب وذلك عن طريق زوجته التي تعمل في مكان آخر .. مرت ستة أشهر بعدها علمت بالخبر المفرح أن زوجته أسلمت .. ودعوت لها ولمن سعى في هدايتها ... وخالطني بعض التشفي من ذلك الطبيب، هاهي في بيتك! ! ولكني طأطأت رأسي حياء وخجلًا من ربي ... مرت الأيام وأنا أترقب هذا الطبيب، ولكنها أيام طويلة باعدت فيها الأعمال بيننا حتى أتاني ذات يوم هاشًا باشًا نحوي فعلمت أن في الأمر تبدلًا، فإذا الأمر أكبر من ذلك إذ به يبشرني بإسلامه على يد زوجته، عانقته وأنا لا أخفي دمعة تسيل على خدي، فإذا به يزيلها بيده ويقبل جبيني، ثم بكى.
توطدت العلاقة بيننا وأصبح من أقرب الناس إلي ولكنه بين حين وآخر يذكرني بعتاب شديد .. لماذا تركتني بعد تلك الحادثة؟ ألست تدعو إلى الله حتى وإن فعلت ما فعلت؟ بعد سنوات سافر إلى بلاده، وأنا سافرت كذلك وفرقت بيننا الأوطان، ولكني أطمع في اجتماع لا فرقة بعده في جنات عدن.
وقفة: من المصائب استطالة الناس وكثرة القيل والقال، ولابد هنا من الصبر، ولذلك بوب البخاري (باب الصبر على الأذى) وقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
1 / 22