6
وبذلك يكتمل الثالوث الأفلوطيني الذي تحول فيما بعد إلى الثالوث المسيحي المؤلف من الأب (= الواحد الخير)، والابن (= الكلمة، اللوغوس، العقل)، والروح القدس (= النفس).
لم تتخل الأفلاطونية المحدثة عن عالم الآلهة المتعددة الذي ميز التراث اليوناني، ولكنها أفرغته من محتواه ومعناه؛ وذلك بإرجاع التعدد إلى الوحدة. وبقدر ما جردت الآلهة القديمة من جوهرها الإلهي برزت أهمية الذي احتواها جميعا في جوهره الشامل وهو إله الشمس: العقل الإلهي المدبر للكون. ولكن هذا الإله لم يكن إلا الصورة المرئية والأداة للواحد الكبير الذي فوقه. وتتوضح هذه الفكرة بشكل خاص لدى تلاميذ أفلوطين المباشرين والذين كانوا ينتمون إلى دائرة شرقية محددة. من أبرز هؤلاء: آمونيوس سكاس وهو مصري، وفورفوريوس الصوري نسبة إلى مدينة صور، ولونجين، وكلينيكوس، وأميليوس ويامبليخوس، وجميعهم سوريون. كان فورفوريوس الأبرز بين هؤلاء وهو الشارح الرئيسي لأفكار أفلوطين. من أهم مؤلفاته الكتاب الذي يشرح نظريته في ألوهية الشمس وهو بعنوان «فيما يتعلق بالشمس». وخلاصة آرائه في هذا الكتاب هي أن الآلهة طرا ليست إلا درجات متفاوتة من قوى إله الشمس وطاقاته، فهو النور الأعظم وهم النجوم. إلا أن الشمس بدورها ليست إلا وسيطا بين الواحد الخير والآلهة، وبين العالم الروحاني والعالم المحسوس، إنها الصورة المرئية لله في العالم وقوته الفاعلة فيه والمنظمة لأحواله، فهي سيد وملك بإرادة من الخير الروحاني الأعلى.
7
وبهذه الطريقة تمت صياغة الأساس الفلسفي الذي كان يفتقد إليه إله الشمس السوري وكاهنه الإمبراطور الشاب، الذي لم يكن في حوزته من أدوات التبشير بإلهه الواحد سوى الطقوس التي لم تقنع الكثيرين في عصر يموج بالأفكار والمدارس الفلسفية. (4) أورليان وعبادة الشمس الإمبراطورية
قضى أفلوطين الشطر الأخير من حياته في روما، وهناك التحق به تلميذه المفضل فورفوريوس الصوري. وفي عهد الإمبراطور غالينوس لقيت الأفلاطونية المحدثة سندا سياسيا لها في شخص الإمبراطور الذي كان يجلس الساعات الطوال إلى أفلوطين ويحاوره. وعندما اغتيل غالينوس عام 268م، وجدت الأفلاطونية المحدثة سندا لها في ملكة الشرق زنوبيا، التي استولت على كامل بلاد الشام ووادي النيل في محاولة لخلق إمبراطورية مشرقية موحدة ومستقلة عن روما، وربما كانت تفكر في التوجه إلى روما ذاتها. وقد التحق ببلاطها في تدمر عدد من الأفلاطونيين مثل فورفوريوس، وكلينيكوس، ولونجين الذي جعلته الملكة مستشارها الخاص وموجها لسياستها الخارجية.
ولكن الإمبراطور الجديد أورليان كان مصمما على القضاء على طموحات الملكة السورية. فبعد أن استقرت له الأمور في روما توجه إلى سوريا وهزم الجيش التدمري في معركتين، كانت الأولى عند أنطاكية والثانية عند مشارف مدينة حمص. وعلى ما ترويه السيرة المدونة لأورليان فإن جيش أورليان قد تضعضع في المعركة الثانية أمام استبسال جنود زنوبيا وشرع الجنود الرومان بالفرار. وفي هذه اللحظة تراءى للجنود تجل إلهي أوصاهم بمتابعة القتال، وأحرز أورليان النصر ولم يبق أمامه سوى تصفية حساب سريع مع زنوبيا التي تحصنت في تدمر. عندما دخل أورليان إلى حمص توجه إلى معبد الشمس فيها وقدم القرابين إلى إيلاجا بال الذي رأى فيه تلك القوة الإلهية التي منحته النصر. وفي عودته إلى روما مصطحبا أسيرته الملكة التدمرية، حمل معه عبادة هذا الإله وطابق بينه وبين إله الشمس الكلاسيكي هيليوس تحت اسم سول إنفيكتوس أي الشمس التي لا تقهر، وجعل منه رمزا لوحدة الإمبراطورية التي تشرق على أصقاعها أشعة إله واحد. وقد بنى أورليان معبدا لهذا الإله في روما كانت تقام فيه احتفالات دينية بميلاد الشمس كل أربع سنوات في يوم 25 ديسمبر. كما صك الإمبراطور عملة معدنية يظهر عليها قرص الشمس كسيد للإمبراطورية وأورليان باعتباره ممثله الأرضي. وهكذا عاد إيلاجا بال إلى روما في حلة إمبراطورية تاركا حجره الأسود في حمص، وتحول إلى قوة عالمية وإله صالح لأن تعبده جميع شعوب الإمبراطورية.
8
في هذا الوقت كانت عبادة الشمس تتلقى دفعا جديدا من فلسفة أخرى وعبادة شمسية أخرى، وهما الفلسفة الرواقية المتأخرة وعبادة الإله الشمسي ميثرا القادم من إيران، والذي انتزع لنفسه لقب سول إنفيكتوس - الشمس التي لا تقهر. وكانت المسيحية قد تحولت في أواسط القرن الثاني الميلادي من فرقة يهودية منشقة إلى ديانة شمولية ذات طموح عالمي ، وترافق هذا التحول مع تبدلات جوهرية في اللاهوت المسيحي قادت إلى تأليه يسوع المسيح الذي دخل في تنافس مع آلهة العبادات الشمولية الأخرى، انتهى بعد نحو خمسين سنة من وفاة أورليان إلى المطابقة بين المسيح والشمس التي لا تقهر. (5) أثر الفلسفة الرواقية المتأخرة
كانت الرواقية في نشأتها مذهبا أضعف ارتباطا بأرض اليونان الأصلية من الفلسفات اليونانية الأخرى، وأشهر ممثليها كانوا من الفلاسفة الشرقيين. وقد قامت هذه الفلسفة على أفكار فينيقي من قبرص يدعى زينون (335-263ق.م.). كان اهتمام زينون أخلاقيا بالدرجة الأولى، ومن المشاكل التي عالجها والتي ظلت بعد ذلك الشغل الشاغل للرواقية هي مشكلة الحتمية (أو القدرية) وما يتصل بها من مشكلة حرية الإرادة. وهاتان المشكلتان لا يمكن فهمهما إلا على ضوء فهم التركيب الكلي للكون. فقد رأى زينون أن المادة الأصلية هي النار ومنها تنفصل العناصر الأخرى بمضي الوقت لتشكل معالم الكون، وفي النهاية يحدث حريق شامل ويعود كل شيء إلى النار الأصلية، ثم يتشكل الكون من جديد في دورات لا تنتهي من الخلق والفناء وإعادة الخلق. أما القوانين التي تسير العالم فتصدر عن فعالية إلهية تحكم التاريخ بكل تفاصيله، حيث يحدث كل شيء من أجل هدف معين على نحو مقدر مسبقا. وهذه الفعالية الإلهية هي قوة كامنة في الكون وليست شيئا خارجا عنه.
Неизвестная страница