وفي واقع الأمر، فإن الرأي الذي كونه بيلاطس عن يسوع المسيح لم يكن مختلفا كثيرا عن الرأي الذي كونه ألبينوس عن يسوع بن حنانيا بعد ذلك بثلاثة عقود. فقد وجد بيلاطس نفسه أمام متصوف هو أبعد ما يكون عن الهموم السياسية لمعاصريه، تخالجه أوهام دينية عن مملكة ليست من هذا العالم سيكون ملكا عليها. وعندما قال لهم: «هل أطلق لكم ملك اليهود؟» كان يسخر من يسوع ومنهم مستخدما الذريعة التي تقدموا بها إليه قائلين: «وجدنا هذا الرجل يفسد الأمة ويمنع أن تعطى الجزية لقيصر قائلا إنه مسيح ملك» (لوقا، 23: 1). وعندما أمر بعد ذلك أن تكتب على الصليب جملة «يسوع الناصري ملك اليهود»، كان يشفي غليله منهم وكأنه يقول: إذا كان هذا هو ملككم، فليكن.
إن هذه الأسئلة المتعددة التي أثرناها حول موقف بيلاطس غير المفهوم، لتوجه أذهاننا إلى سؤال آخر على غاية من الخطورة وهو: هل هناك أدنى احتمال في أن القضية لم ترفع إلى بيلاطس، وأن يكون السنهدرين وحده هو المسئول عن محاكمة وإعدام يسوع؟
مثل هذا السؤال ليس ناجما عن خيال جامح وإنما عن استقراء لوقائع تلك الفترة من تاريخ مقاطعة اليهودية. فلقد كان كل اجتماع للسنهدرين رهنا بموافقة الوالي الروماني. وكان للسنهدرين إذا كان اجتماعه قانونيا صلاحيات عديدة تتعلق بالشئون الدينية، ومنها عقد محكمة للمتهمين بالكفر والتجديف وتعدي حدود الشريعة الموسوية والحكم عليهم بالموت رجما على ما تقتضيه الشريعة. وقد ألمح بيلاطس إلى هذه الصلاحية عندما قال لأعضاء المجلس: «خذوه فاحكموا عليه وفق ما تقتضي شريعتكم» (يوحنا، 18: 31). ولدينا أكثر من مثال على استخدام السنهدرين لصلاحياته هذه. فبعد نحو عقدين من وفاة يسوع حكم المجلس بالإعدام رجما على أحد أعمدة الكنيسة المسيحية في أورشليم وهو استيفانوس أول شهيد في المسيحية، وذلك بتهمة الإخلال بالشريعة (راجع سفر أعمال الرسل، 6: 9-15، و7: 51-60). ويخبرنا المؤرخ يوسيفوس عن مصير مشابه لقيه أخو يسوع (حول هذا اللقب راجع رسالة بولس إلى أهالي غلاطية، 1: 18-19)، عندما دعا رئيس الكهنة المدعو أيضا حنان أو حنانيا إلى اجتماع للسنهدرين في وقت كان فيه منصب الوالي شاغرا، وأصدر حكما بالرجم حتى الموت على يعقوب أخي يسوع المدعو بالمسيح (وفق تعبير يوسيفوس) بتهمة انتهاك شريعة موسى. وقد أزاحت السلطة الرومانية حنان هذا من منصبه لأنه جمع السنهدرين دون إذن مسبق من الوالي.
3
ومن الملفت للنظر أن أحد الأخبار القليلة عن يسوع التي جاءتنا من خارج أسفار العهد الجديد لا يذكر الصلب باعتباره الوسيلة التي استخدمت في إعدام يسوع، ولا يحدد الجهة المسئولة عن إعدامه. وقد أورد هذا الخبر الكاتب الروماني سيلسوس الذي عاش في أواسط القرن الثاني الميلادي، واقتبسه عنه الكاتب المسيحي أوريجين فقال: «عندما كبر يسوع سافر إلى مصر حيث عمل عاملا مياوما، وهناك تعلم فنون السحر. وعندما عاد إلى فلسطين ادعى الألوهية وجمع حوله أكثر الناس بؤسا وإحباطا، وراح يجوب أنحاء البلاد. وعندما كشف اليهود أمره طاردوه فهرب وهام متخفيا، إلى أن تم القبض عليه بخيانة من تلاميذه. وبعد أن نفذ به حكم الإعدام سرق تلاميذه جثمانه وادعوا أنه قام من بين الأموات.» وقد أورد التلمود اليهودي خبرا مشابها عن سفر يسوع إلى مصر وعودته بعد أن تعلم فنون السحر، ولكنه يضيف إلى ذلك أنه عندما عاد قبض عليه وحوكم وأعدم رميا بالحجارة، ثم علق على عمود خشبي عشية عيد الفصح اليهودي.
4
لقد كان الإعدام بواسطة الصلب وقفا على السلطة الرومانية في جميع أنحاء الإمبراطورية، وكانت هذه الطريقة في الإعدام تستخدم حصرا للمتهمين بجرائم ضد الأمن الروماني. لذلك قد لا تكون هي الطريقة التي استخدمت في إعدام يسوع لأن المحكمة الرومانية لم تثبت شيئا ضده يتعلق بالتحريض ضد روما.
وفي الحقيقة فإنه لم يكن لدى السلطة الرومانية أية مصلحة في إعدام يسوع، أما سلطة الهيكل فكان لها كل المصلحة في ذلك. فلقد ركز يسوع هجومه على ممثلي هذه السلطة من كتبة وفريسيين وعلماء شريعة، وفضح نفاقهم ورياءهم. وقد اعتبر أن رسالته قد تجاوزت شريعة العهد القديم التي هي شريعة الحرف وافتتحت شريعة العهد الجديد التي هي شريعة الروح. وأوضح ذلك عمليا من خلال سلوكه وتعاليمه، فقد انتهك قانون السبت وقال لمن شغب عليه: إن الله لا يستريح في يوم السبت، وانتهك فريضة الصيام، وقواعد الطهارة الخارجية المتزمتة وأحل محلها قواعد الطهارة الداخلية طهارة القلب واللسان، ولم يعبأ بتحريمات المأكل والمشرب وقال لتلاميذه: إن كل الأطعمة طاهرة للأكل، ونقض قانون الرجم عندما عفا عن المرأة الزانية، وأحل الأخلاق وسيلة للتقرب إلى الله محل طقوس الذبائح والمحارق التي تقام في الهيكل، لأن الله يريد الرحمة لا الذبيحة. ولم تكن العاصفة التي أثارها في الهيكل عندما قلب مناضد الصيارفة وطرد باعة حيوانات القرابين وجلدهم بالسوط، إلا هجوما مباشرا على مؤسسة القربان التي تعبر عن جوهر العبادات الشكلانية اليهودية. وبما أن أسرة رئيس الكهنة كانت هي المتحكمة بتجارة الهيكل والمستفيد الأول من عائداتها، فإن يسوع بعمله هذا قد وقع على صك إعدامه.
سؤال مهم آخر تثيره رواية محاكمة يسوع وهو: لماذا بقي يسوع صامتا في كلا الاستجوابين أمام رئيس الكهنة وأمام الوالي الروماني؟ ولماذا لم يستخدم حقه في الدفاع عن نفسه؟ هل لأنه احتقر هذه المحكمة واعتبرها غير مؤهلة لاستجوابه؟ أم لأن مؤلفي الأناجيل أرادوا أن تتحقق بخصوصه النبوءة التوراتية القائلة: «ظلم، أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه» (إشعيا، 53: 7).
إن التعامل مع هذا السؤال ليثير أمام الباحث في العهد الجديد مشكلة من أعقد المشكلات، ألا وهي تحديد الخط الفاصل بين الحدث التاريخي في سيرة يسوع والحدث الذي أضافه الموروث من أجل ملاءمة هذه السيرة مع النبوءات التوراتية . ولكي أوضح مدى جدية هذه المشكلة، أدعو القارئ إلى تأمل المقطع التالي من سفر الحكمة، وهو من الأسفار الموجودة في الترجمة اليونانية للتوراة المعروفة باسم الترجمة السبعينية، والتي كان مؤلفو الأناجيل يعتمدونها، وكذلك الكنيسة المسيحية بعد ذلك حتى الإصلاح البروتستانتي: «فإنهم بزيغ أفكارهم قالوا في أنفسهم إن حياتنا قصيرة شقية، وليس لممات الإنسان من دواء، ولم يعلم قط أن أحدا رجع من الجحيم ... فتعالوا نتمتع بالطيبات الحاضرة ونبتدر منافع الوجود ما دمنا في الشبيبة، ونترو من الخمر الفاخرة ونتضمخ بالأدهان ولا تفوتنا زهرة الأوان. لنجر على الفقير الصديق ولا نشفق على الأرملة ولا نهب شيبة الكثير الأيام ... ولنكمن للصديق فإنه ثقيل علينا يقاوم أعمالنا ويقرعنا على مخالفتنا للناموس ويفضح ذنوب سيرتنا. يزعم أنه عنده علم الله ويسمي نفسه ابن الرب. وقد صار لنا عذولا حتى على أفكارنا. بل منظره ثقيل علينا لأن سيرته تخالف سيرة الناس وسبله تباين سبلهم. وقد حسبنا كزيوف فهو يجانب طرقنا مجانبة الرجس، ويغبط موت الصديقين ويتباهى بأن الله أبوه. فلننظر هل أقواله حق ولنختبر كيف تكون عاقبته، فإنه إن كان الصديق ابن الله فهو ينصره وينقذه من أيدي مقاوميه. فلنمتحنه بالشتم والعذاب حتى نعلم حلمه ونختبر صبره، ولنقض عليه بأقبح ميتة فإنه سوف يفتقد كما يزعم. هذا ما ارتأوه فضلوا لأن شرهم أعماهم فلم يدركوا أسرار الله ولم يرجوا جزاء القداسة، ولم يعتبروا ثواب النفوس الطاهرة.» (سفر الحكمة، 2: 1-24، عن الترجمة الكاثوليكية للعهد القديم)
Неизвестная страница