بعد استعراض هذه الروايات الخمس ومن ضمنها رواية بولس، هل بإمكاننا أن نجيب عما إذا كان يسوع قد تناول عشاء الفصح؟ في الحقيقة نحن لا نتعامل هنا مع خمس روايات وإنما مع ثلاث فقط، هي رواية بولس ورواية مرقس ورواية يوحنا. لأن روايات متى ولوقا تقتفي عادة أثر مرقس لا سيما فيما يتعلق بالمفاصل والأحداث الرئيسة في حياة يسوع، وهي هنا لا تعدو أن تكون نقلا حرفيا عن مصدرها المشترك. هذا القاسم المشترك بين الإزائيين يدعى في البحث الأكاديمي الحديث بالتلقيد المرقسي. ونحن إذا قارنا الروايات الثلاث المتبقية نجد أن شهادة التلقيد المرقسي فيما يخص العشاء الأخير تقف وحيدة أمام شهادتي بولس ويوحنا. والعشاء الذي تناوله يسوع مع تلاميذه لم يكن عشاء فصح.
ليلة القبض على يسوع
بعد انتهاء يسوع من العشاء الأخير مع تلامذته، خرج بهم قاصدا بيت عنيا كعادته. ولكنه كان يعرف في سريرته أنه ربما لن يصل إلى هناك؛ لأن يهوذا لا بد فاعل ما هو بصدده هذه الليلة بعد افتضاح أمره. وبعد أن قطع يسوع وادي قدرون الذي يفصل أورشليم عن جبل الزيتون شرقا، توقف ودخل بستانا تعود ارتياده مع تلاميذه في ضيعة صغيرة تدعى جتسماني. وهنا يقدم لنا إنجيل يوحنا الرواية الأكثر واقعية لما حدث: «وخرج يسوع مع تلاميذه بعدما قال هذا الكلام، فعبر وادي قدرون ودخل هو وتلاميذه بستانا هناك. وكان يهوذا الذي أسلمه يعرف ذاك المكان لكثرة ما اجتمع فيه يسوع وتلاميذه. فجاء يهوذا بالجند والحرس الذين بعثهم الأحبار والفريسيون وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح، فتقدم يسوع وهو يعلم جميع ما سيحدث وقال لهم: من تطلبون؟ فأجابوه: يسوع الناصري. قال لهم: أنا هو، وكان يهوذا الذي أسلمه واقفا معهم. فلما قال لهم أنا هو، رجعوا القهقرى ووقعوا على الأرض. فسألهم يسوع ثانية: من تطلبون؟ قالوا: يسوع الناصري. فأجاب يسوع: قلت لكم إني أنا هو، فإذا كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون. فتم القول الذي قال سابقا: لم أدع أحدا من الذين وهبتهم لي يهلك. وكان سمعان بطرس يتقلد سيفا، فاستله وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمني، وكان اسم العبد ملخس. فقال يسوع لبطرس: أغمد السيف. أفلا أشرب الكأس التي جعلها لي أبي» (يوحنا، 18: 1-11).
في هذا المقطع من إنجيل يوحنا نحن أمام رواية شاهد عيان يروي تفاصيل واقعية لم يلونها خيال المؤلف بعناصر أدبية. نستثني من ذلك تفصيلا صغيرا يتعلق بوجود مجموعة من الجنود الرومان جاءوا مع يهوذا وحرس الهيكل. وهذا العنصر غير موجود في روايات التقليد المرقسي الثلاث، كما أنه لا يتفق مع مجريات الأحداث اللاحقة التي تدل على أن الوالي بيلاطس لم يكن على علم مسبق بمؤامرة القبض على يسوع. وحتى لو كان على علم مسبق ومقتنعا من ناحيته بخطر يسوع وضرورة القبض عليه، لكان أرسل من قبله مجموعة من الجنود لتنفيذ المهمة دون الاستعانة بحرس الهيكل، لأن مثل هذه المهمة كانت تتعلق بالأمن الروماني بالدرجة الأولى، لا بالقضايا الدينية اليهودية التي لم يكن يفقه منها شيئا.
ولكن روايات التقليد لمرقس أدخلت على هذه الرواية الواقعية عددا من عناصر التشويق الأدبي، وبينها قبلة يهوذا الذائعة الصيت والتي صارت رمزا للخيانة في الخيال الإنساني. فهذه القبلة لم ترد في رواية يوحنا، ولم يكن لها ضرورة من حيث الأساس ، لأن إشارة من إصبع يهوذا نحو يسوع كانت كافية للتعريف بهويته، هذا إذا افترضنا أن حرس الهيكل لم يكونوا يعرفون يسوع الذي بقي ثلاثة أشهر في الخريف الماضي يتردد على الهيكل يعلم فيه ويجادل الشيوخ والكتبة والفريسيين وجواسيس رئيس الكهنة، ثم عاد في هذا الفصح فأحدث جلبة في الهيكل عندما طهره من الصيارفة والتجار. نقرأ في إنجيل مرقس: «ثم سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون. ووصلوا إلى ضيعة يقال لها جتسماني، فقال لتلاميذه: اقعدوا هنا ريثما أصلي. ثم مضى ببطرس ويعقوب ويوحنا، وجعل يستشعر رهبة وكآبة. فقال لهم: نفسي حزينة حتى الموت، امكثوا هنا واسهروا. ثم ابتعد قليلا وخر على الأرض يصلي لتعبر عنه الساعة إن أمكن. قال: يا أبتا، إنك على كل شيء قدير، فاصرف عني هذه الكأس. ولكن لا كما أنا أشاء بل كما أنت تشاء. ثم رجع فوجدهم نياما، فقال لبطرس: يا سمعان أما قدرت أن تسهر ساعة واحدة؟ اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة. الروح نشيط أما الجسد فضعيف. ثم مضى أيضا يصلي ويردد الكلام عينه . ورجع أيضا فوجدهم نياما والنعاس أثقل جفونهم فلم يدروا بماذا يجيبونه. ثم رجع ثالثة وقال لهم: ناموا الآن واستريحوا، قضي الأمر وأتت الساعة. هوذا ابن الإنسان يسلم إلى أيدي الخطاة. قوموا لنذهب، هوذا الذي يسلمني قد اقترب.
وبينما هو يتكلم أقبل يهوذا أحد الاثني عشر على رأس عصابة كثيرة العدد تحمل السيوف والعصي أرسلها الأحبار والكتبة والشيوخ. وكان الذي أسلمه قد جعل لهم علامة قائلا: الذي أقبله هو هو. فأمسكوه وسوقوه محفوظا. وما إن وصل حتى دنا منه قائلا: يا سيدي، يا سيدي، وقبله. فألقوا أيديهم عليه وأمسكوه. فاستل أحد الحاضرين سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه. فقال لهم يسوع: كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني. كنت كل يوم معكم في الهيكل أعلم ولم تمسكوني، وإنما حدث هذا لكي تتم الكتب. فتركه الجميع وهربوا. وتبعه شاب لابسا إزارا على عريه فأمسكوه فتخلى عن الإزار وهرب عريانا.» (مرقس، 14: 32-52)
على الرغم مما تعرفه عن أسلوب مرقس الجاف وخلوه من الخيال الأدبي، إلا أنه يقدم لنا هنا مشهدا مشبعا بالخيال الأدبي في غاية الجمال والروعة عن محنة يسوع في بستان جتسماني عندما راح يصلي منفردا وتلاميذه نيام، ويناجي ربه بكلمات ما زالت تمس شغاف قلوب قراء الإنجيل. وقد نسخ عنه كل من متى ولوقا هذا المشهد بعناصره الرئيسية. إلا أننا نرجح أن تكون محنة يسوع في جبل الزيتون قبل القبض عليه من ابتكار مرقس، لأن يسوع كان ينطق بكلماته والجميع نيام. فمن الذي سمعه ينطق بها ثم نقلها إلى مؤلف الإنجيل؟ ومن الذي رآه يصلي ثلاث مرات وفي كل مرة يعود إلى تلاميذه ليجدهم نياما؟
يقتبس متى رواية مرقس بحذافيرها عما جرى في بستان جتسماني، ولكنه يضيف إليها ما ورد في إنجيل يوحنا من أمر يسوع لبطرس أن يغمد سيفه بعد أن استله وضرب به عبد رئيس الكهنة، ثم يتوسع في خطاب يسوع: «وإذا واحد من أصحاب يسوع مد يده واستل سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه. فقال له يسوع : أغمد سيفك، لأن من يأخذ بالسيف بالسيف يهلك. أتظن أني لا أستطيع الآن أن أسأل أبي فيمدني الساعة بأكثر من اثني عشر جيشا من الملائكة؟ ولكن كيف تتم الكتب التي تقول إن هذا ما يجب أن يحدث؟» (متى، 26: 51-54).
أما لوقا الذي يتبنى الرواية نفسها، فيضيف إليها معجزة إبراء يسوع لأذن عبد رئيس الكهنة المقطوعة، ويحذف قول يسوع: «لأن من يأخذ بالسيف بالسيف يهلك»: «فلما رأى أصحابه ما يوشك أن يحدث قالوا: يا رب أنضرب بالسيف؟ وضرب أحدهم عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى. فأجاب يسوع: قفوا عند هذا الحد، ولمس أذنه فأبرأها» (لوقا، 22: 49-51).
وكما نلاحظ، فإن مرقس وحده قد تفرد بذكر شاب تبع يسوع عندما سيق مخفورا، وكان شبه عار ليس عليه غير إزار، فلما أمسكوا به تخلى عن الإزار وهرب عريانا (مرقس، 14: 51-52). فمن هو هذا الشاب؟ ولماذا كان شبه عار؟ هل كان بصحبة يسوع عندما ابتعد عن جماعته وراح يصلي ؟ هل هو التلميذ الحبيب الذي كان شاهدا على محنة يسوع والبقية نيام؟ أسئلة ربما كانت الإجابة عليها كامنة في ثنايا إنجيل مرقس السري الذي لم تصلنا منه إلا نتف قليلة، إضافة إلى هذه الشذرة المعلقة في الفراغ في إنجيل مرقس القانوني.
Неизвестная страница