الدعوة إلى الله فوائد وشواهد
الدعوة إلى الله فوائد وشواهد
Издатель
دار القاسم
Жанры
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإن الدعوة إلى الله من أعظم القربات وأجل الطاعات.
وسبق أن قدمت حلقتين في بث مباشر من إذاعة القرآن الكريم بالرياض بعنوان: «الدعوة إلى الله فوائد وشواهد».
وقد رغب بعض الإخوة أن تخرج في كتيب تعيمًا للفائدة.
أسأل الله أن ينفع به وأن يجعلنا من الدعاة إلى دينه ﷿ وسنة نبيه محمد ﷺ.
1 / 3
مدخل
أبدأ هذا الكتاب بحمد الله وشكره امتثالًا لقوله تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: ٧].
أحمده أن من علينا بأعظم النعم وأجلها وأشرفها وأسماها ألا وهي نعمة الإسلام، فكم من أمم تتخبط في ظلام الشرك والكفر، وكم من حسيب ووجيه وغني ورئيس لم تدركه رحمة الله.
من استقرأ التاريخ قديمًا وحديثًا عرف نعمة الله عليه. نطل إطلالة سريعة ... ها هو فرعون من أكبر ملوك الدنيا يحكم ويدير مملكة مترامية الأطراف، وحوله الخدم والحشم والقواد والجيوش، لم تغن عنه شيئًا لما تكبر وتجبر فأغرقه الله في اليم كافرًا.
وها هو قارون رفيق دربه إلى النار وبئس الورد المورود، من أكبر تجار الدنيا ومن أغنى أغنيائها، لما ذكر الله غناه، ذكر أن مفاتيح خزائنه: ﴿لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾ [القصص: ٧٦]، ولكنه لما طغى واستعلى ما أغنت عنه هذه الأموال والخزائن ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾ [القصص: ٨١].
بل أصحب السيادة والريادة كأبي جهل وأبي لهب ما أغنت عنهم تلك المكانة، ولا نفعتهم تلك المنزلة، قال تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد: ١].
وها هم أصحاب الشرف الرفيع والنسب العالي إذا لم تدركهم رحمة الله كانوا من أولئك قال ﷿: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي
1 / 4
مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: ٥٦]، ها هو سيد ووجيه قريش وعم النبي ﷺ أبو طالب لم تنفعه القرابة، ولم تشفع له النصرة لهذا الدين بل مات على ملة عبد المطلب، ولعلي أختم في هذا الأمر بمن هو أقرب من أولئك .. فلذة كبد نبي وابن من أبنائه لما تمرد وطغى حرم من الهداية، كابن نوح -على نوح السلام- يناديه ﵇ يا بني أركب معنا، ﴿قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ [هود: ٤٣].
بل حرم من الهداية من هن تحت الأنبياء، كما ذكر الله ﷿ عن امرأتي نوح ولوط ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ [التحريم: ١٠].
أرأيت أخي كيف جاد الله عليك وأكرمك وهداك وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلًا؟ فاللهم لك الحمد على نعمة الإسلام.
وما ذكرته هو هداية التوفيق، وتبقى هداية الطريق الذي نحن عليه سائرون فأسأل الله الثبات على هذا الدين إلى أن نلقاه.
ومن شكر هذه النعمة العظيمة القيام بحقوق هذا الدين العظيم والسعي في رفع رايته ونصرته وتبليغه إلى الناس، مع استشعار التقصير والعجز عن الوفاء بذلك.
1 / 5
مع الأسف اليوم بعض الناس يدافع وينافح عن بلدته! ! وعن جهاز جواله أكثر مما يدافع عن دينه!
والأخرى من الأخوات تجدها تنفعل وترفع صوتها لاختلاف على لون فستان أو حذاء، فأين موقع الدين من القلوب؟ وأين مكان الدعوة إلى الله في النفوس؟
وأنواع الحرمان كثيرة وليست في جانب الدعوة إلى الله فحسب أضرب مثلًا وأستدل بشواهد حية:
تجد رجلًا منفقًا صاحب كرم وجود لا يمر أسبوع إلا ولديه ضيوف يكرمهم بمائدة شهية، ويوصف بأن كما يقال صاحب ذبائح، هذا المحروم إذا جاء عيد الأضحى قدم رجلًا وأخر أخرى حتى لا يضحي، والأضحية سنة مؤكدة، هذا نوع من أنواع الحرمان وإلا فالكرم موجود لديه.
الثاني: وقد قرب موسم الحج وتجد بعضهم لم يؤد الفريضة وهي الركن الخامس من أركان الإسلام، ويدفع المبالغ الطائلة للسفر إلى الخارج مع أن تكلفة الحج لا تعادل قيمة تذكرة واحدة، وبعضهم يتعذر بالمشقة وتجده ينصب الخيام في وسط الصحراء في مكان بارد قارس أو في لهيب جو صحراوي! ويحرم نفسه أداء فريضة الحج وهي أقل مشقة وتكلفة.
الثالث: ما انتشر أخيرًا: تجد بعضهم يبخل بإرساله رسالة دعوية عبر الجوال، ثم هو في الجانب الآخر يرسل رسائل استهزاء
1 / 6
ونكت سامجة وبعضها محرم، خذ مثالًا ما نتشر أخيرًا من رسائل فيها استهزاء بالزوج السعودي وأن الزوج الآخر من غير السعودي يقول لزوجه كذا وكذا، وكذلك رسائل عن الزوجة الأجنبية وماذا تقول لزوجها؟ وكأنها صورة متعمدة لتشوية المرأة السعودية العفيفة النقية التقية، وفي هذا محاذير:
أولًا: إضاعة المال بلا فائدة، والثاني: يخشى أن يكون من إفساد الزوج على الزوجة، الزوجة على زوجها فيكون من التخبيب المحرم.
وتأمل فيمن تستهزئ به من النساء: إنها أمك وأختك وزوجتك وابنتك
الشاهد أن هذا من أنواع الحرمان والقياس كثير.
1 / 7
وقفة مع الدعوة
موضوع الدعوة موضوع طويل ومتشعب والدعوة إلى الله ﷿ من أعظم القربات وأجل الطاعات، وهي مهمة الأنبياء والمرسلين، ولهذا اصطفى الله ﷿ للقيام بها كرام الخلق من الأنبياء والعلماء ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
قال ابن القيم ﵀: «فالدعوة إلى الله -تعالى- هي وظيفة المرسلين وأتباعهم».
وقد أمر الله ﷿ نبينا محمد ﷺ بالقيام بأمر الدعوة: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: ١، ٢]، فالدعوة تحتاج إلى قيام وحركة ونشاط وتضحية وجهد وبذل.
والداعي هو الذي يسير إلى الناس ويذهب إليهم، قال الله ﷿ عن أهل النار موبخًا: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ﴾ [الملك: ٨، ٩] فهو الذي يبذل ويعطي ويكد ويتعب حتى يبلغ دعوته.
والداعي سريع الحركة قوي الهمة صادق العزيمة: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ [يس: ٢٠]، والسعي في لغة العرب الجري الشديد، وكأن هذا الداعي يسرع إلى قومه حتى لا يقعوا في نار أحاطت بهم واقتربت منهم.
والآيات في ذلك معروفة؛ بل الآيات في الدعوة إلى الله والحث عليها أكثر من آيات الحج والصيام وهما ركنان من أركان
1 / 8
الإسلام، واليوم تباطأ الناس في الدعوة إلى الله تباطئًا عجيبًا فالله المستعان!
ومن الأحاديث في الحث على الدعوة قول النبي ﷺ: «بلغو عني ولو آية» وقوله ﷺ: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» [رواه مسلم].
وحياة النبي ﷺ وسيرته العطرة فعلًا وقولًا: دعوة إلى الله ﷿، فقد صعد الصفا، ودعا في موسم الحج، وذهب إلى الطائف، وهاجر إلى المدينة، حتى تركنا على المحجة البيضاء وسيأتي ورود أحاديث أخرى في ثنايا الكتاب.
والطريف أن بعض الجن أفقه من بعض الإنس في هذا الجانب، لما سمع الجن القرآن يتلى كما ورد في سورة الجن: ﴿فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ﴾ [الجن: ١، ٢] هذه الخطوة الأولى منهم، ثم كانت الدعوة والعمل لها؛ ثم ولوا إلى قومهم منذرين: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ﴾ [الأحقاف: ٣١]، انظر إلى تلك الهمم في الدعوة إلى الله والقيام بأمر الدين من أولئك النفر!
ومن فضل الله وجوده أن لك أيها الداعي مثل أجر من دعوته لا ينقص من أجره شيئًا، فإن أمرته بالصلاة فلك مثل أجر صلاته، وأن تحدثت عن النفقة وأنفق، لك مثل أجر نفقته، ها هو يصلي وأنت جالس، وذاك يحج وقد أعنته على الحج ودللته على الخير
1 / 9
وأنت جالس في بيتك.
وفضل لله يؤتيه من يشاء، وقد أسلم على يد أبي بكر ﵁ ستة من العشر المبشرين بالجنة منهم: عمر وعثمان وطلحة وغيرهم ﵃.
واليوم تأمل في حال من يعملون من النصارى وأرقام التنصير المفزعة لترى أنهم يعملون ونحن نتحدث! ثم يأخذك العجب فيم نتحدث! ! !
وإذا رأيت اليوم مللًا ونحلًا باطلة تنتشر في أصقاع الأض فاعلم أن خلفها رجالًا يعملون وأناسًا يبذلون، فما الذي أدخل مثلًا في دول إسلامية الاشتراكية والشيوعية إلا أولئك، ومحبة الدين لانشك أن الجميع يقولها ويفعلها نية صادقة بقلبه لكن هذه لا تكفي لابد من العمل.
أذكر أني قرأت في صحيفة قبل سنوات أحد محبي الرياضة يقول: رهنت بيتي بمليون ريال لمصلحة النادي الفلاني! نعم أحب هذا النادي فعمل له، ونحن نحب ديننا فماذا عملنا له؟ !
والسؤال يلقي بنفسه حسرة: هل يتوقف نشر العلم الشرعي وشريعة محمد ﷺ والدعوة إلى هذا الدين على أفراد قلائل من الأمة؟ !
سؤال يحتاج إلى جواب عملي ممن أنعم الله ﷿ عليه بهذا الدين وهداه إليه.
1 / 10
لماذا نتطرق لهذا الموضوع؟
نتطرق إلى هذا الموضوع لأسباب كثيرة لعلي أوجزها في نقاط سريعة:
أولا: قلة الكتب التي تتحدث عن هذا الجانب العظيم، جانب الدعوة إلى الله في وسائل الإعلام وخطب الجمعة والدروس والمحاضرات، بل العكس كثر المثبطون، وهناك ولله الحمد أناس كثر يعملون لدين الله من الرجال والنساء فالدين منصور.
ثانيًا: نحن في زمن الدعوة شئنا أم أبينا، فالكل يدعو إلى دينه ومذهبه، أطلق بصرك وارخ سمعك لتجد ذلك واضحًا دون عناء وصعوبة، بل وحتى أصحاب البضائع التجارية اتخذوا من وسائل الإعلام دعوة إلى منتجاتهم فيما يسمى بالإعلان التجاري.
ثالثًا: أن الله ﷿ أنعم علينا بالعلم، ويبقى العمل ثم الدعوة إلى هذا العلم الذي تعلمناه وعرفناه.
رابعًا: أننا نحب الإسلام ولا نشك في ذلك؛ لكن هذا ادعاء محبة (إذا أدرنا أن نعبر بدقة) فالمحبة دون عمل كيف تكون؟ نحب الإسلام لكن لا نعمل له، ولهذا فإن التطرق لهذا الموضوع مطلب ملح لتحريك الهمم وتقوية العزائم في أوساط الشباب والبيوت والأسر.
خامسًا: الأصل أن يكون هذا العمل (أعني الدعوة إلى الله) ديدن المسلم في يومه وليلته، يذكر إذا نسى ويقوى إذا وهن ويحتاج
1 / 11
إلى زاد في هذا الطريق الطويل، فلعل هذا الكتاب من الزاد على قلته.
سادسًا: كثرة من يعمل حولنا في الساحة من أصحاب الأفكار المنحرفة والديانات الباطلة، فحري بنا أن نتفقد أمرنا ونقوم بواجبنا حتى تبرأ الذمم أمام الله ﷿.
سابعًا: بعض الإخوة يتحرقون شوقًا إلى خدمة الدين والقيام بأمر الدعوة إلى الله وهم يبحثون عن الوسائل والطرق المعينة لذلك لعلنا سويًا نقدم شيئًا يستفاد منه.
ثامنًا: أن البعض يمر بمرحلة فتور وتواكل وانتظار النتائج من أعمال الغير، وهنا وقفة فإن الله ﷿ لما ذكر حال مريم في كتابه الكريم قال: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ [مريم: ٢٥]، كيف بامرأة في هذه الحال وتهز نخلة؟ لكنه الأمر ببذل الأسباب، ولو اجتمعنا نحن جميعًا لما استطعنا أن نحرك جذع النخلة لكننا أمرنا ببذل الأسباب وهكذا الدعوة إلى الله نتلمس الأسباب المعينة عليها.
تاسعًا: توفر الأسباب المعينة على الدعوة إلى الله ﷿ في هذه البلاد وقبول الناس لها وأذكر أن أحد الإخوة ممن يعملون في توزيع الكتب على الحجاج القادمين ذكر أنه قدم حاج من السودان ومعه كتاب قديم قال: فخشيت أن يكون من كتب أهل البدع، فقلت له: أعطني هذا الكتاب فرفض، وبعد مشقة قلت: له
1 / 12
أرني الكتاب، فوافق؛ فإذا به دليل الحاج والمعتمر للشيخ عبد العزيز بن باز ﵀ فقلت له نعطيك كتابًا لنفس المؤلف هو كتاب: التحقيق والإيضاح، وتعطينا هذا الكتاب القديم، قال: هذا الكتاب له ما يقارب من عشرين سنة لدى إمام المسجد وكل من أراد الحج يأخذه ثم يعيده إليه! وهذا الكتاب سعره لا يتجاوز ريالًا واحدًا.
عاشرًا: انصراف الناس إلى الدنيا من تجارة وأسهم وعقار حتى طغت على حياتهم ونسوا ما خلقوا له ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦].
وأختم بأمر هام وعظيم أن هذه البلاد بلاد الرسالة ومهبط الوحي شئنا أم أبينا والواجب علينا عظيم والمسئولية مضاعفة.
1 / 13
محاور رئيسة في الدعوة إلى الله ﷿-
سوف أتطرق إليها على عجل؛ وهي أيضًا لا تغيب عن فطنة القارئ ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
أولًا: من شروط الداعي إلى الله، أن يكون على علم وبصيرة قال تعالى: ﴿... فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد: ١٩]، فبدأ بالعلم قبل العمل، فإذا لم يتعلم العلم ويعرفه قد يدعو إلى بدعة مثلًا أو إلى محرم وهو لا يعرف أنه محرم، ولا يكفي حسن النية في الأعمال بل لابد أن تكون صوابًا موافقة لما جاء في الكتاب والسنة.
ثانيًا: الإخلاص لله ﷿ في هذه الدعوة رغبة في نيل ثواب الله، لا لعرض من أعراض الدنيا من مال أو جاه أو اجتماع الناس حوله، ويجب أن لا يكون للنفس حظ في هذا، وعليه أن يجاهد نفسه فالطريق طويل والشياطين في كل ناحية، وعلى الداعي أن يبتعد عن الإعجاب بعمله وقوله فإنها الهلكة.
وبعض الناس يكون ديدنه ذكر الحكايات عنه ومن اهتدى على يديه وأنه فعل وفعل وقد كان السلف ﵏ يخفون أعمالهم الصالحة كما نخفي سيئاتنا.
فالإخلاص هو حقيقة الدين، ومفتاح دعوة الرسل ﵈ قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: ٥]، وقال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ
1 / 14
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: ٢].
قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا وصوابًا، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠].
وعن أبي هريرة مرفوعًا: «قال الله -تعالى-: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» [رواه مسلم].
وقاله ﷺ: «من صلى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي، فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك» [رواه أحمد].
وعن عمر بن الخطاب ﵁ قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» [متفق عليه].
قال سهل بن عبد الله: ليس على النفس أشق من الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب.
1 / 15
وروي عن بعض الحكماء أنه قال: مثل من يعمل الطاعات للرياء والسمعة كمثل رجل خرج إلى السوق وملأ كيسه حصاة، فيقول الناس: ما أملأ كيس هذا الرجل، فلا منفعة له سوى مقالة الناس، ولو أراد أن يشتري له شيئًا لا يعطى به شيئًا، كذلك الذي عمل للرياء والسمعة لا منفعة له سوى مقالة الناس، ولا ثواب له في الآخرة، كما قال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣].
أما إذا عمل العمل لله خالصًا، ثم ألقى الله الثناء الحسن في قلوب المؤمنين، ففرح بفضل الله ورحمته واستبشر بذلك لم يضره، وفي الحديث عن النبي ﷺ أنه سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه فقال: «تلك عاجل بشرى المؤمن» [رواه مسلم].
1 / 16
الرفق
الرفق مطلب ملح، والدعوة والرفق متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر.
الرفق في جانب الدعوة إلى الله ضروري وهام، فالداعي مثل الطبيب الذي يترفق بمريضه ويقلبه ذات اليمين وذات الشمال حتى يبرأ.
وقد حث الرسول ﷺ على الرفق بقوله: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه» [رواه مسلم]، خاصة في هذا الزمن الذي تحولت فيه الطبائع وأثرت في الناس القنوات الفضائية، وكثر المعاند وشحت الأنفس.
ذلك أن المقصود من الدعوة إلى الله تبليغ شرائع الله إلى الخلق، ولا يتم ذلك إلا إذا مالت القلوب إلى الداعي، وسكنت نفوسهم لديه، وذلك إنما يكون إذا كان الداعي رحيمًا كريمًا، يتجاوز عن ذنب المسيئ، ويعفو عن زلاته، ويخصه بوجوه البر، والمكرمة والشفقة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه-: «وينبغي أن يكون الداعي حليمًا صبورًا على الأذى، فإن لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مما يصلح».
وقال ﵀: «ومن تدبر أصول الشرع علم أنه يتطلف بالناس في التوبة في كل طريق».
1 / 17
الرابع من المحاور الرئيسة: لين الخطاب واختيار العبارات المناسبة، فالله ﷿ خاطب الكفار في مقام الدعوة بقوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ [النساء: ١٧١]، وقال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ﴾ [آل عمران: ٦٤]، وهم يفرحون بهذا النداء وأنهم أمة كتاب.
وإبراهيم ﵇ تلطف وترفق في دعوة والده فاسمعه يقول مرات عديدة: ﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ [مريم: ٤٤، ٤٥].
والله ﷿ لما أرسل موسى وهارون إلى فرعون قال له سبحانه: ﴿قُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: ٤٤].
والنبي ﷺ لما أرسل الرسائل للملوك والرؤساء يدعوهم إلى الإسلام، قال فيها ﷺ: «من محمد رسول الله إلى عظيم الروم»، و«من رسول الله إلى عظيم فارس».
وسهيل بن عمر لما جلس إلى النبي ﷺ في صلح الحديبية وكان في حينها كافرًا، قال له ﷺ: «انتهيت، أبا الوليد» كل ذلك رغبة في فتح قلبه ودعوته.
وقد أرشد ﷺ إلى ذلك في أحاديث كثيرة: «يسروا ولا تعسروا بشروا ولا تنفروا» [رواه البخاري].
ومن الوسائل في ذلك البشاشة وحسن المعاملة وهذه تحتاج
1 / 18
إلى بسط طويل ... ولين القول مع الكفار على سبيل العطف بهم، والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة.
وفي عتاب النبي ﷺ للرجل حسن أدب وتوجيهه بعيدًا عن التجريح والتعنيف اسمعه ﷺ يقول: «زادك الله حرصًا ولا تعد» [رواه البخاري].
1 / 19
طريق تبليغ الدعوة
تبلغ الدعوة عبر طريقين اثنين:
الأول: القدوة: قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١] والنبي ﷺ كان قدوة للصاحبة في كل شيء، وشهد له كفار قريش بالصدق والأمانة، والإسلام في العصور الأولى انتشر في شبه القارة الهندية وأفريقيا وإندونيسيا عن طريق التجار بما يمثلونه من قدوة حسنة في التعامل والصدق في المعاملة.
وجانب القدوة تتفلت من أيدي الناس اليوم إلا من رحم ربي وقليل ما هم، وابحث إن شئت عن هذا التفلت في تعامل الموظف مع المراجعين، والتاجر مع المشترين والزوج مع زوجته والقائمة طويلة، نحتاج إلى قدوات في الأقوال والأفعال والأعمال والمظهر والمخبر.
وبعض الكفار من العمالة إذا دعوته لماذا لا تسلم؟ قال بعد نقاش طويل: الكفيل لا يعطيني مرتبي، فهو نظر إلى الإسلام في شخص هذا الكفيل، وقد يكون هذا من الصد عن دين الله! ولاشك أن القدوات من الأخيار كثر ولله الحمد لكننا نتحدث عن هذا الجانب لما له من أثر في الدعوة إلى الله.
ومن أوضح الأمثلة تأثيرًا الأب في المنزل، إذا كان قدوة في خلقه وتعامله وعبادته وصدقه طبع ذلك في أهل البيت أبناء وزجه.
1 / 20
وإذا كان من المفرطين انعكس ذلك على أهل البيت، وهذا واضح جلي وهو إما إلى الخير وإما إلى الشر -والعياذ بالله- فعلى كل أب أن يتفقد نفسه وكل أم أن تنظر في نفسها.
وقد رأى أحد السلف رجلًا يصلي صلاة ينقرها نقرًا، فقال: إني أرحم عياله، قالوا: كيف؟، قال: لأنهم يأخذونها عنه.
وأضرب مثلًا: لو أن شابًا ملتزمًا جمع الله له بين الدين والخلق تزوج بامرأة ينقصها الكثير من أمور الدين (لنقل أنها مقصرة) هي وأسرتها، ثم رأوا من الزوج حسن الخلق وطيب التعامل وحسن العشرة ألا يحبونه؟ ! وإذا أحبوه كانت النتيجة الموجوة من دعوته ألا وهي القبول.
ولو كان الأمر بالعكس، وكان فظًا غليظًا لا يحسن المعاملة ويجانب الرفق في حياته! ماذا يكون الأمر يتحول إلى زوج غير مقبول وقل مكروه، بل وتصل هذه السمعة إلى أقارب الزوجة وجيرانهم فتشوه صورة هذا الرجل.
الأول بحسن خلقه واستقامته الاستقامة الصحيحة سوف تهفو إليه قلوب العفيفات، بل والآباء والأمهات يرغبون في تزويج ابنتهم بشاب مثله! والآخر، الله المستعان.
وقد غفل الناس عن القدوة وأضاعوا أمرًا عظيمًا، وأذكر أن بعض السلف قال: كنا نمزح ونضحك فلما صار يقتدى بنا تركنا ذلك.
1 / 21
ولننظر مثلًا جانب العمالة المنزلية: لو أن كل امرأة أحسنت إلى خادمتها وبدأت تعاملها المعاملة الحسنة وتعلمها العقيدة الصحيحة لتحولت الخادمة إلى داعية إذا عادت إلى بلدها، يعدن الآن وهن يتعلمن الطبخ والنفخ ويفتحن المطاعم هناك! ! !
1 / 22