ومع توالي الحصص وتنوع الدروس تتنوع الشتائم، وتتنوع كذلك لغتها؛ فهناك شتائم فرنسية رقيقة، وشتائم نحوية فصحى، وشتائم كيميائية مركبة ومخلوطة، وأقل ما فيها: نزل إيدك يا ولد، وشك في الحيط يا أحمق، اطلع بره يا صعلوك، التفت يا لوح، حل المسألة يا أغبى خلق الله. وأحيانا يفيض الكيل ولا يعود ثمة بد من المواجهة السافرة، فتنطلق الكلمات: ما تنحرق إنت وهوه. اتنيل يا شيخ. اتلهي. إنتم تنفعوا إنتم؟ إنتم بلاوي. إنتم رمم. إنتم جايين هنا ليه. إنتم ما لكم ومال المدارس؟ روحوا لموا سبارس.
حتى الكراريس، كانت هي الأخرى تشاطر الناظر والمدرسين وجلدتها مملوءة بالأوامر والنواهي. لا تبلع الطعام. لا تمضغ. لا تستنشق الهواء. لا تمش. لا تجلس. لا تتحدث. عليك بالحلم. عليك بالطاعة. عليك بإمساك نفسك ساعة الغضب.
ورغم هذا النظام الصارم، ورغم أن المدرسة كانت على حد قول الناظر تمشي كالساعة، ونسبة الحضور أعلى النسب، وأحذية الطلبة كلها تلمع، والحوش الواسع خال تماما من الأوراق.
ورغم أن الأولاد - على حد قول أولياء الأمور - كانوا لا يلعبون، ويذاكرون؛ إذ هم واقفون لهم بالمرصاد. ما تكاد المدرسة تتركهم حتى يتسلمهم الأولياء، والويل للتلميذ إذا تأخر بره، أو لم يقض الساعات منكبا على كتبه يتلو ويذاكر. رغم هذا إلا أن الطلبة كانوا لا ينجحون، ويفشلون بالمئات والعشرات، ويقابلون الدراسة باستهتار، وينامون في الحصص، وإن واتاهم الأرق أقاموا حفلات ترفيه، وتبادلوا القرصات والزغدات والضرب على القفا، وكتابة الخطابات المملوءة بالشتائم، وتكوين العصابات، وشرب السجائر، وسب المدرسين، ومزاولة العادات في السر والعلن.
وكان الطلبة أيضا ورغم كل شيء يتساءلون هم الآخرون: لماذا يرسبون؟ ولماذا يكرهون المدرسة؟ ولماذا يعاكسون المدرسين؟ ولماذا يقضون أتعس الأوقات مع أنهم يسمعون الناس تقول إن أحلى أيام العمر هي الدراسة؟
كان الناظر والمدرسون يحاولون تفسير الأمر، ويقولون إنهم طلبة هذه الأيام ومساخرهم وتفاهتهم.
وكان أولياء الأمور يقولون: هي حكمة الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب. وكان الطلبة يقولون: بل هو الحظ، بضربة حظ تنجح، وبضربة أخرى تفشل، يا رب كثير من الحظ يا رب، كثر من الحظ.
وذات يوم أتيح لطلبة ثالثة رابع أن يمروا بتجربة.
كان مدرس الرياضة البدنية عملاقا ضخما رهيبا، كتفه تهد الجبل وزنده في حجم الفخذ، وقبضته تحيل الرءوس إلى جماجم، ولم يكن في حصته مكان للترفيه أو العبث؛ فقد كان طلبة ثالثة رابع كغيرهم من الفصول يخافونه، ويخافون إذا عن لواحد منهم أن يعبث في حصته ألا يرسله كالعادة إلى المشرف أو يخرجه من الفصل مثلا، وإنما يتولى العقاب بنفسه، وقد يتولاه بقبضته، والكف عن العبث بالتأكيد أسلم نتيجة من عقاب يتولاه مدرس الألعاب بقبضته.
كان يأتي، وقبل أن يدخل الفصل يكون الفصل واقفا كله، وبإشارة منه يخرج الطلبة عن الأدراج، وبإشارة أخرى يصطفون ويهبطون السلالم دون أن ينبس أحد ببنت شفة، وفي سكون تام يخلعون الجاكتات، ثم يتسلمهم العملاق بتمريناته؛ ثني مد، رفع، ضم، افتح صدرك، شد وسطك، اخبط الأرض بدماغك، وشك فدق، عايز الجزمة تطلع شرار.
Неизвестная страница