فعدت إلى وحدتي حزينا أفكر فيما مضى بي من أيامي في جانبولاد، وأقبلت على نفسي ألومها على الخروج من الوطن، ولاحت لي ماهوش عند ذلك جنة نعيم. حقا لقد خرجت منها حانقا لأنني لم أجد بها مكانا، ولكني كنت أتكلم فيها، وكنت أضحك وكنت أسخر، وما كنت أرى فيها أحدا خيرا مني. بل لقد ذهبت يوما لأسطو عامدا على أموال الناس لآخذ حقي من أرزاق ماهوش غصبا، وعدت أحمل ما أخذته عن رضا. أيها الوطن العزيز، كنت أجد فيك الحب فجحدت نعمتك، وها أنا ذا أذوق عقوبة الجحود. لقد كاد قاضي جانبولاد يحدني في جرم لم أرتكبه، ولولا أنني لبست ملابسه لأصابني العذاب والعار. ثم أغلق تيمور مدرستي مدعيا بأنني أذيع فيها الفساد وأتخذها مسرحا للهو، وهذا هو يلقي بي في السجن لأنني زورت القدور. أي قدور هذه التي زورتها! إن الطغاة لا تعوزهم الحجج إذا شاءوا التماسها. ويا ليتهم إذ أرادوا البطش اتجهوا إليه كما يتجه الضبع إلى فريسته مكشرا صريحا لا يعرف مواربة ولا رياء. ليتهم يفعلون ذلك فيبلغوا العذر؛ لأن هذا هو قانون الغابة، ولا بأس فيه على القوي إذا سطا بالضعيف. ولكنهم يأبون إلا أن يتستروا وراء ما يقيمونه من القواعد ويسمون ذلك عدلا.
ذكرت ما كان من حوادث الأيام الماضية، وأيقنت أن القدور كانت سبب بليتي، فإنني ما كدت أضع العلم فوق بيتي حتى رأيت الناس يجتمعون حوله منذ الصباح وينظرون إليه متهامسين، فحسبت أنهم يعجبون بلونه ورشاقة خفقاته. ثم أتى الليل فجاء إلي رجل من هؤلاء أصحاب الريش، فأخذ يسألني عن علمي وعن قدري، وزعم أنه لا بد له من الاطلاع عليها حتى يختمها بنفسه. هكذا زعم، وقال لي إن أعلام جانبولاد لا ترفع إلا إذا ختم القدور بيده، وتحقق من أنها مملوءة. فذهبت معه إلى القدر ففض ختامها ودس يده فيها، فصحت به حانقا: «ماذا تفعل؟» ولكنه كان قد سبق صيحتي وأخرج يده من القدر مملوءة بالحصى. فنظر إلي ضاحكا وقال لي: «ما هذا؟» فلم أجد بدا من أن أشرح له الأمر كله، وهو يهز رأسه حتى فرغت من قولي بعد أن أوضحت له كل ما قد يبهم عليه. فذهب عني صامتا بعد أن نظر نحوي نظرة عجيبة. فلم أعبأ بنظرته لما علمته من غرابة أطوار أصحاب الريش، وعدت إلى غرفتي لأهيئ عشائي، وما كدت أفعل حتى جاءني جماعة من الشرط يأمرونني أن أسير معهم، ولم تجدني فيهم مساءلة ولا مدافعة، فقادوني إلى هذا السجن بغير أن يتكلموا كلمة واحدة.
ومرت بي الأيام بسجني في بطء، لا يقطع ظلامها إلا شعاع ضئيل من النجوم الوامضة الباردة، التي لا تفتأ تحدث حديث الأجيال الفانية. ولم يكن أحد يقطع علي وحشة الوحدة إلا صورة «نجوى» التي كانت تلازمني، ثم صاحبي «طوطاط»؛ إذ يتسلق الجدار من خارج، ويتعلق بالقضبان حينا ويهمس لي بكلمات قصيرة، وكان في كل مرة يرمي إلي ربطة فيها ما يتفق له من طعام أو ملبس، وكان أحيانا يطرفني ببعض الفاكهة أو الحلوى، فكانت إلمامته القصيرة تبعث في قلبي أنسا يقيم فيه أياما؛ جزاه الله من صاحب كريم.
وكانت آخر مرة جاء فيها طوطاط لزيارتي في ليلة من رمضان، وكنت أستعد للصلاة قبل الإفطار، فقذف إلي ربطته قائلا: هي سنبوذجة لسحورك، صنعتها بيدي.
فخفق قلبي عندما تذكرت طعامه الذي صنعه بيده على جانب الغابة، فما كان أشهاه من طعام، كان القمر يضيء الفضاء، وكان هواء الربيع طلقا لا يشبه في شيء هواء سجني. وهممت بأن أشكره على بره وكرمه، ولكنه قاطعني هامسا: «تشجع، إن تيمور قد ذكرك.»
فصحت به: «ذكرني؟ وهل كان ذكره إياي إلا شؤما؟»
فهمس قائلا: «هذا شيء آخر، كنت عند ذلك طليقا حرا.»
فصحت: «ألا يكون شؤمه إلا على الأحرار؟»
فهمس في رعب: «صه! ألجم ذلك اللسان. اسمع، نسيت أن أخبرك أن لك رسالة مع السنبوذجة. خطاب. أسمعت؟»
ثم قهقه وقال: «لقد صرت لك عامل بريد.»
Неизвестная страница