السنن الكبرى - البيهقي - ت التركي
السنن الكبرى - البيهقي - ت التركي
Исследователь
الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي
Издатель
مركز هجر للبحوث والدراسات العربية والإسلامية
Номер издания
الأولى
Год публикации
١٤٣٢ هـ - ٢٠١١ م
Место издания
القاهرة
Жанры
السُّنن الكبير
للحافظ أبي بكر أحمد بن الحُسَين بن عليٍّ البيهقي
(٣٨٤ - ٤٥٨ هـ)
تحقيق
الدكتور / عبد الله بن عبد المحسن التركي
بالتعاون مع
مركز هجر للبحوث والدراسات العربية والإسلامية
الدكتور / عبد السند حسن يمامة
الجزء الأول
المقدمة / 1
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
القاهرة ١٤٣٢ هـ - ٢٠١١ م
المقدمة / 2
السنن الكبير
المقدمة / 3
بسم اللَّهِ الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله وتوفيقه تنال المطالب وتتحقق الآمال، وصلى اللَّه وسلم وبارك، على نبينا الحبيب المصطفى، محمد بن عبد اللَّهِ، خاتم الأنبياء والمرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن السنن النبوية الشريفة، والآثار المروية عن الصحابة رضوان اللَّهِ عليهم، أحق ما ينبغي أن يعتني به طلاب العلم مدارسة وحفظًا وفهمًا، وأهل العلم تعليمًا وتوجيهًا وخدمة للكتب المصنفة فى ذلك، لا سيما فى هذا الزمن الذي فتَرَت فيه الهمم، وضعفت العزائم، عن التمسك بالسنة النبوية فى الأقوال والأعمال، والتسليم لما جاء فيها من الأمر والنهي، ومعرفة ما للصحابة على سائر أجيال الأمة، من الحق والفضل، فإن اللَّه أظهر هذا الدين بجهودهم، كما دلت عليه دلائل القرآن، وبذلهم الأمر أنس والمهج فى نصرته والاستجابة لرسوله ﷺ فى السراء والضراء، والمنشط والمكره، رضوان اللَّهِ عليهم أجمعين.
وكتاب السنن الكبير للحافظ أبى بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت ٤٥٨ هـ) من أجمع الكتب للسنن والآثار وأوعاها، وأكثرها استقصاء،
المقدمة / 5
فيما نعلم.
صنفه هذا الجهبذ النحرير، ليكون كتابًا جامعًا لأحاديث الأحكام، وما يتصل بها ويتممها من الآداب الشرعية، وبناه على مذهب الإِمام الشافعي، ورتبه على أبواب مختصر المزنى، ولم يكن ذلك تعصبًا منه ﵀ للشافعي على غيره، وإنما أراد أن يبين ابتناء الفقه على السنن والآثار، ولذلك استطرد فأخرج عامة ما تمسك به من ذلك إمام من الأئمة، من خبر أو أثر ليكون حجة لمذهبه أو سلفًا له في قوله، وإن كان ضعيفًا من جهة سنده أو من جهة دلالته على المراد، ليبين إجماعَهم على تحرى السنن والآثار في الجملة، وعذرَهم ﵏ في وقوع اجتهادهم أحيانًا على خلاف الصحيح الثابت، لقصور جَهْدهم عن الإحاطة بالسنة، فإن الاحاطة بها حاصلة من مجموع علماء الأمة، لا من كل واحد على حِدَته.
وبهذا كان سنن البيهقي كالكتاب المستخرج على مجموع الكتب الستة الأصول التي كادت تستوعب السنة إلا قليلًا، وزاد عليها جملة صالحة بما اشتمل عليه مستدرك شيخه أبى عبد اللَّهِ الحاكم النيسابورى، وسنن شيخ شيوخه أبي الحسن الدارقطني، ومصنفا عبد الرزاق وابن أبي شيبة، في نقل فقه الصحابة والتابعين. وكشف فيه الحافظ البيهقي عن موهبة فائقة في حسن التصنيف، كما ظهر ذلك في تصانيفه الأخرى، وعن الصناعة الحديثية بين الرواية والدراية، وجودة التصرف في الجمع بين الفقه والحديث، والأثر والنظر.
المقدمة / 6
فجاء كتابه هذا شاملًا حافلًا، دالًّا على إمامته في كثير من العلوم، حرى بمن أدمن النظر فيه والمطالعة له، أن يسمى عالمًا مطلعًا على الشريعة من مشارف عالية، إذا ضم إليه ما يتممه من مثل التمهيد لابن عبد البر، والمغنى لابن قدامة، وشرح السنة للبغوى، والمحلى لابن حزم، وفتح الباري لابن حجر العسقلاني، ﵏ جميعًا.
وقد طبع سنن البيهقي في المطبعة الحيدرية بالهند، طبعة قديمة على الأوفست، مع الحواشي التي استدرك بها ابن التركمانى على البيهقي، وسماه الجوهر النقى، وهي طبعة متقنة انتشرف بين أيدى الناس، واشتغلوا عليها حينًا من الدهر، إلى أن جاء الزمن الذي كثرت الحاجة فيه إلى إخراج الكتب في حُلل قشيبة، على الطريقة الحديثة التي يعتنى فيها بإثبات فروق النسخ الخطية في الهوامش، زيادة في الإتقان لدى تصحيح النص وكشف مشكلاته، واستكمال العمل فيه بهوامش متعددة في تخريج الأحاديث والآثار، وعزو الأقوال المأثورة والأشعار، وتفسير الغريب، وتراجم الأعلام من الأشخاص والبلدان وغير ذلك. وصناعة فهارس عامة كاشفة لمحتويات الكتاب، ومقربة للاستفادة منه وسرعة الرجوع إلى المعلومات التي اشتمل عليها.
وكان هذا مع ما تقدم من التعريف بهذا الكتاب الجليل القدر، داعيًا إلى العمل فيه وإخراج طبعة جديدة على غرار ما سبق في الكتب التي يسر اللَّهِ ﷾ خدمتها وإخراجها.
المقدمة / 7
وقد كان العمل في هذا الإصدار الذي بلغ بفهارسه أربعة وعشرين مجلدًا، مرتكزًا على تصحيح النص بالاعتماد على أصول خطية يسر اللَّهِ جمعها، أنفسها نسخة العلامة أبي عمرو بن الصلاح الشهرزورى الدمشقي (ت ٦٤٣ هـ)، لكونها نسخة مصححة مسموعة عليه، مزودة بتعليقات مفيدة، مع معونة الطبعة الهندية اليسار إليها، والمختصر الذي عمله الحافظ الذهبي.
وقد تم ضبط الكَلِم ضبطًا يزيل ما فيه من الإشكال وتعدو الاحتمال، وترقيم الآيات، مع كتابتها برسم المصحف، وبيان القراءات عند الحاجة، وتخريج الأحاديث والآثار، والإحالة على مواضع تراجم الرجال الذين تكلم عليهم المصنف، وصناعة معجم لشيوخ المصنف ضمن الفهارس.
وما كان لهذه الموسوعة الحافلة أن تصدر بثوبها القشيب هذا، لولا عون اللَّهِ تبارك اسمُه، وحسنُ توفيقه، وما جنده لها من خلال مركز هجر للبحوث والدراسات العربية والإِسلامية في تحقيق كتب التراث، الذي دأب على إخراج المصنفات التي تشتد حاجة أهل العلم لها في صورة متميزة، راجين من ذلك مثوبة اللَّهِ، وخدمة الإِسلام ونفع المسلمين.
فالشكر كل الشكر لجهود الباحثين الذين أسهموا في إخراج هذا العمل.
المقدمة / 8
وفي الختام، أسأل اللَّهِ أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، سببًا للفوز برضوانه العظيم. وصلى اللَّهِ وسلم وبارك على خيرته من خلقه، نبينا وإمامنا محمد بن عبد اللَّهِ، والحمد لله رب العالمين.
د. عبد السند حسن يمامة
المقدمة / 9
مقدمة التحقيق
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّهِ فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّهِ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أما بعد:
فقد منَّ اللَّه سبحانه بإرسال رسله إلى العباد، يهدونهم سبيل الفوز والنجاة؛ ويدعونهم إلى الهدى والرشاد. ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهِ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: ١٦٥] وأرسل سبحانه رسوله محمدا ﷺ بالرسالة الخاتمة والشريعة الكاملة، وأنزل عليه كتابه الكريم ﴿بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠٣].
وتكفل اللَّهِ سبحانه بحفظه فقالَ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
المقدمة / 11
لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] فما زال محفوظا ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: ٤١، ٤٢].
ولما كانت السنة وحيا من اللَّهِ سبحانه وبلاغا لرسالته، إذ قال سبحانه: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: ٣، ٤] فقد أوجب اللَّهِ سبحانه على الناس طاعة رسوله فيما أمر ونهى، فقال سبحانه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر: ٧]، وحذر سبحانه من مخالفته وعصيان أمره، فقال: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: ٦٣]. فجعل ﷾ السنة حجة شرعية، وتعبدنا باعتقاد مضمونها والعمل بمقتضاها، وهي شقيقة القرآن ومثيلته في الحجية والاعتبار؛ إذ هما جميعًا من عند اللَّهِ.
فأصل الدين ومصدره هو الوحي من اللَّهِ لنبيه ﷺ، وله قسمان هما: القرآن والسنة، وقد بين اللَّهِ سبحانه ذلك اتم بيان فقال سبحانه: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهِ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: ١١٣] وقال: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: ١٦٤].
وإن الأمة ما زالت متفقة على أن السنة النبوية لها مقام معلوم في بيان
المقدمة / 12
الأحكام، وأنها حجة قائمة بنفسها، وأنه يجب الرجوع إليها إذا ثبتت، ولا يجوز الحكم بالاجتهاد والرأى مع ثبوتها، وأنه قد ثبتت بها أحكام لم يرِد بها الكتاب، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإثها بيان للقرآن، وتفسير له، ومفصّلة لما أجمل فيه، وهذه المعانى كلها محل إجماع عند من يعتد بأقوالهم، ولا نعلم أحدًا خالف في هذا إلا الزنادقة وأمثالهم من الفرق الضالة الذين لا يتأثر الإجماع بمخالفتهم.
وإن الدارس لكتاب اللَّهِ والسنة النبوية، ولا سيما آيات الأحكام وأحاديثها، ليدرك تمام الإدراك أن للسنة أثرًا مهما في بيان الأحكام المجملة في القرآن الكريم، وهي التي تقيد المطلق، وتخصص العام، وتبين الناسخ والمنسوخ.
وإذا أردنا أن نسوق أمثلة للأحكام التي أجملت في القرآن وبينتها السنة وفصلتها، وأمثلة أخرى للأحكام التي جاءت في السنة ولم ينزل بها قرآن، لوجدنا الشيء الكثير في مختلف أبواب العبادات والمعاملات والحدود وغيرها.
فمن أين نعرف حد شارب الخمر ورجم الزاني المحصن وقطع يد السارق إذا لم نرجع إلى السنة المطهرة، وغير ذلك من المسائل الكثيرة التي يتوقف الإيمان بالقرآن والعمل به على الإيمان بالسنة والتزامها واتباعها.
وقد حرمت السنة نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وحرمت الحمر الأهلية، وكل ذى ناب من السباع وذى مخلب من الطير، وأوجبت رجم
المقدمة / 13
الزاني المحصن، إلى غير ذلك بما ملئت به مدونات فقه الحديث والكتب الجامعة لأحاديث الأحكام. وقد قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: ٦٥].
وقد أدركت الأمة الإِسلامية عظمة السنة ومكانتها، فحفظتها بعد حفظها للقرآن، ودوَّن العلماء فيها الدواوين من الجوامع والمسانيد والمعاجم والأجزاء والمصنفات، وبحثوا في أحوال الرجال والأسانيد، وألفوا في ذلك العدد الكثير من الكتب، وألفوا في الصحاح والسنن والموضوعات والعلل. وفي سبيل القيام بهذا الجهد الكبير جندوا أنفسهم لخدمتها وكابدوا في سبيلها المشاق والسهر والرحلات الطويلة إلى أقطار الأرض من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها.
وهذه مكتبات الدنيا تزخر بما خلفوا من الكنوز، حتى مكتبات أوروبا وأمريكا والهند، حيث استحوذت على إعجابهم وأدركوا أنها أعظم كنز يتباهون به في مكتباتهم.
ولم تكن السنة في القرن الأول -عصر الصحابة وكبار التابعين- مدونة في بطون الكتب، وإنما كانت مسطورة على صفحات القلوب، فكانت صدور الرجال مهد التشريع النبوى ومصدر الفتيا ومنبعث الحكم والأخلاق.
وقد روى مسلم في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدري ﵁ أنه قال: قال
المقدمة / 14
رسول اللَّهِ ﷺ: "لا تكتُبوا عنِّي، ومَن كتبَ عنِّي غيرَ القرآنِ فليَمْحُهُ" (^١). قال أبو العباس القرطبى: كان هذا النهى متقدما، وكان ذلك لئلا يختلط بالقرآن ما ليس منه ثم لما أمن من ذلك أبيحت الكتابة، كما أباحها النبي ﷺ لأبي شاه في حجَّة الوداع حين قال: "اكتُبُوا لأبي شاه" فرأى علماؤنا هذا ناسخا لذلك (^٢).
قال القاضي عياض: بين السلف اختلاف كبير في كتابة العلم من الصحابة والتابعين، فكرهه كثير منهم، وأجازه الأكثر، ثم وقع بَعْدُ الاتفاقُ على جوازه لِمَا جاء عنه ﵇ من إذنه لعبد اللَّهِ بن عمرو في الكتاب (^٣).
وكما امتن اللَّهِ علينا بالسنة فقد امتن علينا بحفظها إذ سخر لها من أفذاذ الرجال من قام بحفظها وتدوينها، ونقصد بالتدوين كتابة الأحاديث وجمعها في ديوان واحد، وقد كان ذلك يتم في البداية في شكل مجهود فردي، حيث يقوم الراوى بكتابة مسموعاته في كتاب لنفسه، فلما انتشر الإِسلام في أرض اللَّهِ، واتسعت البلاد، وتفرق الصحابة في الأقطار، ومات كثير منهم، وقيل الضبط، دعت الحاجة إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، فلما أن أفضت الخلافة إلى الإِمام العادل عمر بن عبد العزيز كتب على رأس المائة إلى أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عامله وقاضيه على المدينة: انظر ما كان من حديث رسول اللَّهِ ﷺ فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء (^٤).
_________
(^١) مسلم (٣٠٠٤)، وأحمد (١١٥٣٦) بلفظ: "شيئًا غير القرآن".
(^٢) المفهم ٦/ ٧٠٣.
(^٣) إكمال المعلم ٨/ ٥٥٣.
(^٤) البخاري (٩٩).
المقدمة / 15
وكذلك كتب إلى عماله في أمهات المدن الإِسلامية بجمع الحديث، فكان أول من استجاب له ابن شهاب الزهرى فدون في ذلك كتابًا، ثم فشا أمر التدوين في الطبقة التي تلته، وكان على رأس من دون ابن جريج في مكة وسعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة في البصرة، وسفيان الثوري في الكوفة، وابن إسحاق والإمام مالك في المدينة وغيرهم، والتف حولهم طلبة العلم وأخذوا عنهم الحديث وحفظوه دراية ورواية، وشددوا في ضبطه ودققوا في مروياته.
وقد اختلفت مناهج المصنفين في الحديث كما يقول ابن الأثير: رأيت هذا العلم على شرفه وعلو منزلته وعظم قدره علمًا عزيزًا، مشكل اللفظ والمعنى، والناس في تصانيفهم التي جمعوها وألفوها مختلفو الأغراض متنوعو المقاصد. ثم ذكر أغراضهم كما يلي:
١ - منهم من قصر همته على تدوين الحديث ليحفقالفظه ويستنبط منه الحكم.
٢ - ومنهم من يثبت الأحاديث في الأماكن التي هي دليل عليها، فيضع لكل مجموعة من الأحاديث المتشابهة بابًا يختص بها.
٣ - ومنهم من استخرج أحاديث تتضمن ألفاظًا لغوية، ومعانى مشكلة، فوضع لها كتابًا، قصره على ذكر متونها، وشرح غريبها وإعرابه وتوضيح معانيه دون تعرض منه لذكر أحكامها.
٤ - ومنهم من أضاف إلى الاختيار السابق ذكر الأحكام واراء الفقهاء.
المقدمة / 16
٥ - ومنهم من اقتصر على ذكر الغريب دون متنه، فجمع الكلمات الغريبة ودونها ورتبها وشرحها.
٦ - ومنهم من قصد إلى استخراج أحاديث تضمنت ترغيبًا وترهيبًا وأحاديث تتضمن أحكامًا فدونها معًا (^١).
ويعقب ابن الأثير على هذه الأغراض قائلًا: "وغير هؤلاء المذكورين من أئمة الحديث لو أردنا أن نستقصى ذكرهم واختلاف أغراضهم ومقاصدهم لطال الكتاب، ولم ننته إلى حد، فاختلاف الأغراض هو الداعى إلى اختلاف التصانيف" (^٢).
ولا شك أن الإِمام البيهقي كان من هؤلاء الأفذاذ الذين اختارهم اللَّهِ لحفظ السنة، وحباهم بشرف التصنيف فيها وخدمتها، يظهر ذلك في جُل مصنفاته التي يعمد فيها إلى سياقة الحديث في موضعه من الاستشهاد أو الموضوع أو الفكرة بإسناده إلى النبي ﷺ أو الصحابي أو التابعى أو غيره ممن يروى عنه، بحيث إنه لا يكاد يذكر رواية أو قولًا إلا ويسوق معه إسناده لهذا القول أو تلك الرواية" ويتجلى ذلك بوضوح في كتابه "السنن الكبير" الذي نحن بصدده، حيث ذكر المباحث الفقهية وأدلة المسائل الشافعية مستنبطة من الأحاديث والآثار المسندة، موردا كل حديث برواياته المتعددة وطرقه المختلفة، متكلما في الأسانيد والمتون بمقتضى الطرق الانتقادية، ومستشهدا بكتب الحديث الصحيحة.
_________
(^١) جامع الأصول ١/ ١٦ - ١٨.
(^٢) السابق ١/ ١٨.
المقدمة / 17
ولمّا كان هذا الكتاب "السنن الكبير" بحاجة إلى مزيد اهتمام وعناية -لِما له من أهمية في المكتبة الإِسلامية حيث عده الذهبي أحد أربعة كتب عدها كتب الإِسلام- ونظرًا لما للمصنف من مكانة علمية، فقد وقع اختيارنا عليه لنوليه الاهتمام والعناية، وذلك بإعادة تحقيقه ونشره وإخراجه في صورة علمية، نرجو من اللَّهِ أن تكون مرضية للَّه ﷿ ونافعة لطلاب العلم وسائر المسلمين.
وما كان لهذا السفر العظيم أن يخرج في هذه الصورة إلا بحبل من اللَّهِ وعون منه، وتسخيره لمجموعة من العمل مخلصة محبة للعلم حريصة على إخراجه على النحو الذي يرضى اللَّهِ ﷿، ويكون نافعا للإسلام وأهله. والحمد للَّه حق حمده.
المقدمة / 18
ترجمة المصنف (^١)
اسمه ونسبه:
هو الحافظ العلامة المثبت الفقيه، الأصولي، الدَّيِّن الوَرع، واحد زمانه في الحفظ، وفرد أقرانه في الإتقان والضبط، شيخ الإِسلام، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن عبد اللَّهِ بن موسى، الخُسْرَوجِرْدي البيهقي النيسابوري الخيراساني.
مولده ونشأته:
ولد في قرية خُسْرَوجِرْدَ، من قرى مدينة بيهق بنيسابور في شهر شعبان سنة (٣٨٤ هـ ٩٩٤ م) حيث لقى عناية طيبة منذ صغره؛ إذ دفعه أهله إلى الكتاب فتعلم وأتقن قراءة القرآن وحفظه.
وفي سن الخامسة عشرة ابتدأ البيهقي التطواف على الشيوخ لتلقى العلم من منابعه، فبدأ بالسماع لكبار أعلام وفقهاء (خسروجرد) مسقط رأسه،
_________
(^١) تنظر ترجمته في: الأنساب ١/ ٤٣٨، وتبيين كذب المفترى ص ٢٦٥، والمنتظم ١٦/ ٩٧، ومعجم البلدان ١/ ٨٠٥، والكامل في التاريخ ١٠/ ٥٢، والمنتخب من السياق ١٠٣ ترجمة (٢٣١)، ووفيات الأعيان ١/ ٧٥، والمختصر في أخبار البشر ٢/ ١٨٥، ودول الإسلام ١/ ٢٦٩، والعبر ٣/ ٢٤٢، وسير أعلام النبلاء ١٨/ ١٦٣، وتذكرة الحفاظ ٣/ ١١٣٢، وتاريخ الإِسلام (حوادث ووفيات سنة ٤٥١ هـ -٤٦٠ هـ) ص ٤٣٨، والإعلام بوفيات الأعلام ١٨٩، وفوات الوفيات ١/ ٧٥، والوافي بالوفيات ٦/ ٣٥٤، وطبقات الشافعية للسبكي ٤/ ٨، ومرآة الجنان ٣/ ٨١، والبداية والنهاية ١٦/ ٩، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة ١/ ٢٢٥، والوفيات ٢٤٦، وشذرات الذهب ٣/ ٣٠٤، وروضات الجنات ١/ ٢٥١، ومعجم المؤلفين ١/ ٢٠٦، والنجوم الزاهرة ٥/ ٧٧، وطبقات الحفاظ للسيوطي ٤٣٣.
المقدمة / 19
أمثال: أبى نصر عمر بن عبد العزيز بن عمر بن قتادة البشيري وأبى الحسن بن عبد اللَّهِ بن إبراهيم الهاشمي، والحسين بن عبد اللَّهِ بن محمد السديري البيهقي، وعلي بن أحمد بن عمر الحمامى المقرئ. . . .
وكانت بيهق هي النقطة التي اتخذها البيهقي منطلفا لرحلاته العلمية الواسعة في المدن المتاخمة لها أولًا، وحين نحاول أن نتعرف على محطاته المهمة في هذه الرحلة العظيمة، فإننا نجد منها: بلاد العراق والحجاز في رحلته إلى الحج، وبلاد نوقان وإسفرايين، وطوس والمهرجان وأسد آباد وهمذان والدامغان، وأصبهان، والري والطابران ونيسابور وروذبار وبغداد ومكة والمدينة وشط العرب إلى غير ذلك من البلدان.
وكان المكان الأول الذي تلقى فيه البيهقي علومه بعد بيهق هو نيسابور وما جاورها من البلدان.
ثم انطلق البيهقي إلى المحطة المهمة في رحلته وهي بغداد، وقد كانت من المراكز الحديثية الكبرى، وقد سمع البيهقي في بغداد من عدد وافر من المحدثين، الذين كانوا يتصدرون النشاط العلمي في هذا البلد وقتذاك، ثم تابع البيهقي رحلاته العلمية إلى بقية البلدان الإِسلامية في طلب الحديث والتزود من الشيوخ وتحصيل العلوّ من الإسناد ..
وبعد تطواف دائم وترحال متصل دام حوالى ثلاثين سنة تقريبًا، عاد البيهقي إلى مدينة (بيهق) بعد أن تبوأ مكانة مرموقة وأصبح من الأعلام المشهورين والحفاظ المعدودين، يعود إلى بيهق، لينقطع فيها عاكفا على
المقدمة / 20
هذه الكنوز التي نالها من رحلته، ليخرج منها هذه الكتب التي قل مثالها في بابها، وكان من ثمار اجتهاده وقوة همته في طلب العلم أن تمكن من جمع هذا العلم الوافر الغزير في مصنفات ومؤلفات قال عنها الذهبي: (تصانيف البيهقي عظيمة القدر غزيرة الفوائد، قلّ من جوّد تآليفه مثل الإِمام أبي بكر البيهقي، فينبغى للعالم أن يعتني بها).
وكان المصنف ﵀ يصدر في كل رحلاته عن نفس خاشعة ورعة؛ ترقب اللَّهِ في أعمالها، وتطلب العلم بإخلاص ورغبة فيه، وبهمة عالية ونفس راضية، صابرة على بأس الحياة وضيق العيش دون عوز ولا شكوى، فبلغ ما بلغ من منزلة ودرجة رفيعة في العلم.
وقد عاش البيهقي في عصر كثرت فيه الاضطرابات والفتن، ومن ثم فقد نهض مدافعا عن السنة داعيا الناس إلى العودة إليها، مع حسن الاعتقاد والزهد في الدنيا والبعد عن فتنها، وقد أولى الموضوعات التي كانت محل الجدل والمناظرات اهتماما خاصا، فأفرد لها العديد من المصنفات التي تمثل رأيه في هذه المسائل والموضوعات، ككتاب الاعتقاد، والأسماء والصفات، والقضاء والقدر، وشعب الإيمان، والبعث والنشور، متناولا هذه المسائل بأسلوب علمى يظهر الحق من خلال الكتاب والسنة، بعيدا عن الدلائل المنطقية التي أغرق فيها غيره، ولم يلجأ إليها إلا مع معارضى السنة لإبطال أقوالهم ودحض حججهم، فلم يكن ممن يلوى أعناق النصوص لتخدم مذهبه وتحقق غرضه وتنتصر لرأيه، كما يفعل بعض المتعصبين، بل
المقدمة / 21
كان يتوخى الحق منتظرا له ومنتصرا، لا للغلبة، متبعا في ذلك نهج إمامه الشافعي حيث قال: ما ناظرت أحدا على الغلبة إلا على الحق عندي.
ويقف إلى جانب هذه البيئة وأثرها في تكوين ثقافة البيهقي الجمع الهائل من العلماء الذين أخذ عنهم العلوم المختلفة فتكوّن من خلالها جانب كبير من ثقافته.
شيوخه:
لقد سبقت الإشارة إلى البيئة العلمية في بيهق، وما ضمته من علماء في سائر فنون العلم والمعرفة، وأن المصنف ﵀ قد نشأ في هذه البيئة وأخذ عن علمائها، ثم إنه لم يكتف بذلك، بل ارتحل طلبا للعلم، وجلس إلى العديد من المشايخ والأئمة؛ حرصا على طلب العلم والاستزادة منه. وقد تنوعت ثقافته وعلمه بتنوع الشيوخ الذين أخذ عنهم، والذين يصعب استقصاء عددهم، ولكننا قد آثرنا مع كثرة شيوخه أن نذكر المشايخ الذين أخذ عنهم المصنف كتاب السنن الذي نحن بصدده، ليكون معجما لشيوخه في كتاب السنن، وهذا يعطى فائدة للقارئ، وقد رُتِّب هذا المعجم على حروف المعجم الألفبائى، مقتصرين على ذكر اسم الشيخ وكنيته ونسبه، ثم نشير في الحاشية إلى موضع ترجمته من الكتاب لمن أراد الاستزادة.
١ - إبراهيم بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق الإسفراييني (^١).
_________
(^١) ترجمته في (٥٤٠١).
المقدمة / 22