Испытание и его влияние на критическую методологию имама Ахмада
المحنة وأثرها في منهج الإمام أحمد النقدي
Издатель
دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع
Номер издания
الأولى
Год публикации
١٤٣١ هـ
Место издания
المملكة العربية السعودية
Жанры
المِحْنَةُ وَأثَرُهَا فِي مَنْهَج الإِمَام أَحْمَدَ النَّقدي
تأليف
د. عبدُ الله بن فَوْزَانَ بن صَالح الفَوزَان
عُضْو هَيْئَة التّدريس بقسم الدّراسَاتِ الإسلاميّة - جَامِعَة طيبَة
دَار ابْن الْجَوْزِيّ
Неизвестная страница
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[المقدمة]
الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه بما هو أهله، وأُثني عليه الخير كله، وأُصلي وأُسلم على خير خلقه وخاتم رسله، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فهذه ورقات يسيرة في تجلية أثر المحنة في منهج الإمام أحمد ﵀ النقدي، إذ ليس يخفي على أهل العلم - خصوصًا أصحاب الحديث منهم - أن المحنة التي امتدت أكثر من خمسة عشر عامًا تركت أثرًا واضحًا في الإمام، لا سيما أنها كانت في آخر حياته؛ فلم يبق الإمام بعد انجلاء غمتها إلا سنوات يسيرة.
وقد دعاني إلى هذه الدراسة الأسباب التالية:
١ - شهرة هذه المحنة وعمومها.
٢ - طول مدتها زمنًا، وانتشارها مكانًا؛ إذ عمت غالب البلاد.
٣ - أنها من المحن القلائل التي توالى عدد من الحكام والولاة على القول بها وحمل الناس عليها.
1 / 5
٤ - كثرة من ابتلي بها من كبار الأئمة، وأعلام السنة، وعلماء الملة.
٥ - ما كان لها من أثر واضح بين في حياة الإمام أحمد وحالته وصحته، فليس هناك شك أنها أشهر الأحداث في حياته وأعظمها أثرًا وتأثيرًا.
٦ - ما ترتب عليها - عند الإمام بوجه خاص - من أثر حديثي ونقدي من الكلام في بعض الرواة ونقدهم من أجل إجابتهم في المحنة.
٧ - كثرة التفاسير واختلاف التوجيهات لمواقف الأئمة - وموقف أحمد عَيْنًا - في هذه المحنة بين إفراط وتفريط، وغلو وجفاء، وتبرير وإدانة، وتبع ذلك شيءٌ من التنقيص أو التقديس.
٨ - تصور بعض طلاب العلم - فضلًا عن غيرهم - أن المحنة حدثٌ تاريخي مجرد كغيره مما وقع في غابر الأزمان، والأمر - يقينًا - ليس كذلك، فلهذه المحنة من الأثر العقدي والحديثي والتاريخي الشيء الواضح البين.
٩ - خطورة المسألة عقديًا، فهي - ربما تكون على الباحث - من المزالق الخطيرة، كيف لا؟! وهي فيصل بيّن، وحاجز ظاهر بين السنة والبدعة، بل بين الإسلام والكفر، وقد ظهر من آثارها حتى في الأسماء والأوصاف ما عرف فيما بعد بـ: أحمد السنة، وأحمد البدعة.
1 / 6
١٠ - أنني لم أقف على بحث يتناول أثر هذه المحنة في المنهج العلمي والنقدي عند الإمام أحمد ﵀، وأقرب ما يوافق الهدف العام للبحث رسالة صغيرة للشيخ عبد الفتاح أبو غدة بعنوان (مسألة خلق القرآن وأثرها في صفوف الرواة والمحدثين وكتب الجرح والتعديل)، وستأتي الإشارة إليها وتعقب بعض أهل العلم لها.
وقد قصدت من هذا البحث تحقيق الأهداف التالية:
* بيان شدة هذه المحنة وعظيم فتنتها.
* توضيح مدى أثرها في الأمة وعلى الأئمة.
* تصوير قوة تأثيرها على الإمام أحمد بن حنبل ﵀.
* كشف العلاقة بينها وبين منهج النقد عنده ﵀، وهو الهدف الأصلي.
* أثر هذه المحنة على علم الجرح والتعديل من خلال منهج الإمام أحمد، والمعلوم أنه من كبار أئمة السنة، ومن أشهر المعتدلين في نقد الرواة.
* تجلية مواقف بعض الأئمة الذين ابتلوا بهذه البلية الكبيرة.
وسوف أتناول ذلك - مستعينًا بالله تعالى - من خلال المباحث التالية:
المبحث الأول: مختصر عن تأريخ المحنة وأحداثها.
المبحث الثاني: أثر المحنة في منهج الإمام، وفيه مطلبان:
1 / 7
المطلب الأول: أثرها في منهجه العلمي، وفيه:
* تركه التحديث بعد المحنة.
* ترك التحديث عمن أجاب بعد المحنة وإبقاء ما حدث به عنه قبلها.
* الضرب على حديث بعض الرواة وتركه مطلقًا.
* نهيه عن التحديث بأحاديث ربما فهم منها تأييد البدعة.
* منعه لابنه أن يحدث عن المبتدعة عمومًا، وعمن أجاب في المحنة خصوصًا.
المطلب الثاني: أثرها في منهجه النقدي، وفيه:
* تعديل الرجل والثناء عليه؛ لثباته في المحنة وتمسكه بالسنة.
* كلامه فيمن أجاب متأولًا.
* كلامه فيمن قال: القرآن مخلوق اعتقادًا.
* كلامه في الواقفة.
المبحث الثالث: أشهر الأئمة الذين امتحنوا وموقف الإمام منهم، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: أشهر الأئمة الذين امتحنوا ولم يجيبوا وموقف الإمام منهم.
المطلب الثاني: أشهر الأئمة الذين امتحنوا فأجابوا أو توقفوا، وموقف الإمام منهم.
1 / 8
وقد سرتُ في مسالك البحث وفق الخطوات التالية:
١ - جعلت عنوان البحث (المحنة وأثرها في منهج الإمام أحمد النقدي)، وقد تضمن البحث الكلام على الأثر في المنهج العلمي، لكن ذلك كالمدخل للمنهج النقدي، فذلك تعميم تلاه تخصيص، وقصرت العنوان على المنهج النقدي؛ لأن البحث متعلق بالجرح والتعديل، ذاك الباب الكبير الواسع من أبواب السنة وعلومها.
٢ - صغت حدث المحنة تاريخيًا، دون النظر إلى ترتيب المصادر.
٣ - اختصرت ذكر المحنة دون الإخلال في شيء من فصولها أو أحداثها المهمة، ولم أتوسع في ذلك؛ إذ ليس البحث في تاريخها وأحداثها خصوصًا، فذاك بحث تاريخي صرفٌ، وإنما أردت أن يكون ذلك مدخلًا لأصل البحث.
٤ - ذكرت أهم مؤثرات المحنة على الإمام أحمد في منهجه العلمي ثم منهجه النقدي - وهو الأهم والمقصود الأصل بالبحث - دون غيرهما من مؤثر سياسي، أو اجتماعي أو نحو ذلك.
٥ - ترجمت للأئمة الذين امتحنوا، وقد اقتصرت على العناصر الأساسية للتعريف بكل إمام، واعتمدت في وصف الواحد منهم - غالبًا - على عبارة الذهبي في السير، وذكرت في
1 / 9
الحاشية أشهر مصادر ترجمته، ثم ذكرت موقفه في المحنة، ثم موقف الإمام منه، وإن اقتضى السياق جمعت بينهما في عنوان واحد.
٦ - ذكرت بعض الأئمة وإن لم يمتحنوا صريحًا؛ لأنهم فروا من المحنة أو اختبأوا عن عين السلطان؛ كالعجلي، وأصبغ بن الفرج؛ لأجل أنهم سجلوا موقفًا في المحنة ومن باب إتمام البحث في ذكر كل من كان له موقف في المحنة، وأيضًا بعض الأئمة لم أقف للإمام أحمد على رأي فيهم، ومع ذلك فقد ذكرتهم لكونهم من كبار الأئمة ومن أشهر من ابتلي فيها، فسكوت الإمام عن ذلك يشكل منهجًا، وربما نقف على كلام له ﵀ فيما بعد.
٧ - ختمت بعد ذلك بخاتمة فيها أهم النتائج.
٨ - ذيلت البحث بالفهارس العلمية اللازمة.
والله أسأل التوفيق والسداد فيما قصدت، وأن يكون خالصًا لوجهه الكريم
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا
كتبه
د. عبد الله بن فوزان بن صالح الفوزان
الأستاذ المشارك في قسم الدراسات الإسلامية
بجامعة طيبة
E-mail: afsf١٥٥١@homtail.com
1 / 10
المبحث الأول
مختصر عن تأريخ المحنة وأحداثها (١)
خرج الإمام أحمد إلى الدنيا بعد استقرار الحكم لبني العباس، في وقت تميز بالاستقرار السياسي في معظم فتراته، وعاصر الإمام ثمانية من الخلفاء، وهم: المهدي والهادي، والرشيد، والأمين، والمأمون، والمعتصم، والواثق، والمتوكل.
ويعد هذا العصر عصر انتصارات واسعة، وحضارة مزدهرة، وقوة وهيبة للخلافة، وكانت الحركة العلمية قوية جدًا؛ فبغداد دار السلام والخلافة والعلم والعلماء.
ولكن مما يلحظ على هذا العصر - المزدهر في شتى
_________
(١) ينظر في خبر المحنة: سيرة الإمام أحمد لابنه صالح ص (٤٨ - ٦٥، ٨٣ - ٩٥)، وذكر محنة الإمام أحمد لابن عمه حنبل بن إسحاق، وحلية الأولياء لأبي نعيم (٩/ ١٩٦)، ومحنة الإمام أحمد للمقدسي، ومنازل الأئمة الأربعة ص (٢٥٣)، ومناقب الإمام أحمد ص (٣٨٥ - ٤٦٢)، والسير (١١/ ٢٣٢)، وتاريخ الإسلام (١٨/ ٩٧)، والبداية والنهاية (١٤/ ٣٩٣)، والجوهر المحصل ص (٦٢)، والمنهج الأحمد (١/ ١٠٠).
1 / 11
مجالاته - ما صاحبه من تعكير صفوه بتأثير الفرس والروم السيء سياسةً وفكرًا وعقيدةً، وزاده سوءًا ما عُرب من كتبهم وكتب اليونان والهند، فابتليت الأمة بفتنة عمياء ومحنة شنعاء ألا وهي: «محنة القول بخلق القرآن» والتي حُمِلَ الناس على القول بها (١).
وقد ابتدأها الخليفة العباسي المأمون؛ وذلك بعد أن استحوذ المعتزلة عليه فأزاغوه، وزينوا له هذا المذهب الفاسد، ولم يكن خليفة من الخلفاء قبله إلا وهو على مذهب السلف ومنهاجهم القويم (٢).
وبعد تولي المأمون الخلافة سنة (١٩٨ هـ)، ظهرت الدعوة إلى القول بخلق القرآن؛ بسبب تقريبه لأهل البدع والاعتزال، من أمثال أحمد بن أبي دُؤَاد (٣)، الذي كان رأس الفتنة
_________
(١) ينظر: السير (١١/ ٢٣٦ - ٢٣٧)، والبداية والنهاية (١٤/ ٣٩٦)، والجوهر المحصل ص (٦٢).
(٢) ينظر: المناقب ص (٣٨٥ - ٣٨٦)، والسير (١١/ ٢٣٦)، والبداية والنهاية (١٤/ ٣٩٦).
(٣) هو: أحمد بن أبي دؤاد بن جرير أبو عبد الله الإيادي القاضي، قال الخطيب في تاريخ بغداد (٤/ ١٤١): «كان موصوفًا بالجود والسخاء، وحسن الخلق، ووفور الأدب، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية، وحمل السلطان على الامتحان بخلق القرآن»، وقال الذهبي في العبر (١/ ٤٣١): «كان فصيحًا مفوهًا، شاعرًا، جوادًا، ممدحًا، رأسًا في التجهم، وهو الذي شغب على الإمام أحمد بن حنبل، وأفتى بقتله، وقد مرض بالفالج قبل موته بنحو أربع سنين، ونكب وصودر» وقال في ميزان الاعتدال (١/ ٩٧): «جهمي بغيض»، توفي سنة ٢٤٠ هـ.
1 / 12
ومشعلها في الأمة - عامله المولى بما يستحق - والسبب في ميل المأمون للمعتزلة وتقريبه لهم أنه كان تلميذًا لأبي الهذيل العلّاف والذي كان من رؤوس المعتزلة (١).
فأخذ يعمل جاهدًا في نشر الاعتزال طيلة تسع عشرة سنة، دون أن يحمل الناس على ذلك بقوة السلطان، فلما دخلت سنة ثماني عشرة ومائتين من الهجرة، أمر بامتحان العلماء وحملهم على القول بخلق القرآن، فكتب إلى نائبه في بغداد، وهو إسحاق بن إبراهيم الخزاعي يأمره بحمل الناس على ذلك، وقد استعمل في حمل العلماء على تلك المقولة التهديد والوعيد، فمن امتنع منهم عن القول بخلق القرآن حُبِسَ، وضيق عليه، وضرب، وعُزل عن وظيفته، وقطع رزقه من بيت المال (٢).
ثم كتب إليه ثانية بإحضار أشخاص سبعة، وهم: محمد بن سعد كاتب الواقدي، ويحيى بن معين، وأبو خثيمة، وأبو مسلم المستملي، وإسماعيل بن داود الجوزي، وأحمد
_________
(١) ينظر: محنة الإمام أحمد للمقدسي ص (٣٩ - ٦٩)، والبداية والنهاية (١٤/ ٣٩٦).
(٢) ينظر: مجموع الفتاوى (١١/ ٤٧٩)، والبداية والنهاية (١٤/ ٣٩٦).
1 / 13
الدورقي، وابن أبي مسعود، فحملوا إلى الرقة (١) حيث المأمون، فامتحنهم فأجابوا خوفًا من السيف ثم أطلقوا.
ولقد اغتم الإمام لإجابة هؤلاء؛ لأن هذا مبدأ الأمر فلو صبروا لانقعطت الفتنة وانتهت المحنة، ولكن الله غالب على أمره.
قال حنبل: «سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل - وذكر الذين حملوا إلى الرقة إلى المأمون وأجابوا - فذكرهم أبو عبد الله بعد ذلك فقال: هؤلاء لو كانوا صبروا وقاموا لله لكان الأمر قد انقطع، وحذرهم الرجل - يعني: المأمون - ولكن لما أجابوا وهم عين البلد اجترأ على غيرهم. وكان أبو عبد الله إذا ذكرهم اغتم لذلك، ويقول: هم أول من ثلم هذه الثلمة وأفسد هذا الأمر» (٢).
ثم كتب إلى إسحاق بن إبراهيم ثالثة يأمره بإحضار مزيد من العلماء لامتحانهم، منهم: الإمام أحمد، ومحمد بن نوح، وعبيد الله بن عمر القواريري، والحسن بن حماد سجادة،
_________
(١) مدينة تقع شرقي حلب على نهر الفرات، كانت من أهم المدن أيام بني العباس، بني بها الرشيد قصر السلام، وهي اليوم في دولة سوريا، بينها وبين دمشق ٥٠٠ كيلو. ينظر: معجم البلدان (٣/ ٥٨)، والروض المعطار (١/ ٢٧٠).
(٢) ذكر محنة الإمام أحمد ص (٣٤)، وينظر: محنة الإمام أحمد للمقدسي (٤٠).
1 / 14
فأخذهم وامتحنهم فأبوا أن يجيبوا جميعًا، ثم امتحنهم مرة أخرى، فمن امتنع أمر بحبسه وتقييده، فلما كان بعد ذلك دعا بالقواريري، وسجادة فأجابا وخلى عنهما، فبقي ممن لم يجب الإمام أحمد، ومحمد بن نوح - عليهم رحمة الله -، فلم يجيبا أبدًا، وامتنعا عن القول بذلك، فحبسا أيامًا، حتى ورد كتاب المأمون من طرسوس (١) يأمر بحملهما مقيدين فحملا إليه، ومضى الإمام داعيًا ربه ألا يريه المأمون، فلما بلغا الرقة تلقاهم نبأ موت المأمون في السنة نفسها (٢١٨ هـ)، فردا إلى بغداد، فلما كانا ببلدة عانة (٢) توفي محمد بن نوح ﵀، فصلى عليه الإمام ودفنه (٣).
قال الإمام أحمد: «فكنت أدعو الله ألا يريني وجهه، قال: فلما دخلنا طرسوس أقمنا أيامًا، فإذا رجل قد دخل علينا، فقال لي: يا أبا عبد الله قد مات الرجل - يعني:
_________
(١) بفتح الطاء والراء، تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى الشمال الغربي من أنطاكيا، بينها وبين حلب، من ثغور الشام المشهورة، وهي اليوم تقع في جمهورية تركيا. ينظر: معجم البلدان (٤/ ٢٨)، والروض المعطار (١/ ٣٨٨).
(٢) بلد مشهور بين الرقة وهيت، من أعمال الجزيرة، مشرفة على الفرات، وبها قلعة حصينة. معجم البلدان (٤/ ٧٢).
(٣) ينظر: ذكر محنة الإمام لحنبل ص (٣٤ - ٤١)، ومحنة الإمام للمقدسي (٤٠ - ٤٦)، والمناقب ص (٣٩٢ - ٣٩٣)، والسير (١١/ ٢٤٢).
1 / 15
المأمون - فحمدت الله وظننت أنه الفرج، إذا رجل قد دخل فقال: إنه قد صار مع أبي إسحاق المعتصم رجل يقال له: ابن أبي دؤاد، وقد أمر بإحضاركم إلى بغداد، فجاءني في أمر آخر فحمدت الله على ذلك، وظننت أنا قد استرحنا حتى قيل لنا: انحدروا إلى بغداد» (١).
فجيء بأبي عبد الله مقيدًا حتى أدخل السجن، فكانت بداية هذه المحنة العظيمة في هذه السنة - أعني: ثماني عشرة ومائتين - (٢).
فتولى بعد المأمون المعتصم، فاقتفى أثر سابقه واستفحلت المحنة بعد توليه الخلافة، فلم يكتفوا بإدخال الإمام سجن بغداد، بل أنالوه الأذى وضربوه ضربًا شديدًا حتى تخلعت يداه، والإمام صابر يناظر ويحتمل صنوف الأذى مع سجن دام نحوًا من ثمانية وعشرين شهرًا، وقيل: نحوًا من ثلاثين شهرًا، وناظروه طويلًا فلم يستطيعوا له تحويلًا ولا صرفًا إلى بدعتهم، بل كان يسكتهم بقوة حجته، وشدة يقينه وإيمانه،
_________
(١) ذكر محنة الإمام أحمد ص (٣٩)، وينظر: محنة الإمام للمقدسي ص (٥١ - ٥٢)، والبداية والنهاية (١٤/ ٣٩٦ - ٣٦٧)، والجوهر المحصل ص (٦٦ - ٧٢).
(٢) ينظر: سيرة الإمام أحمد ص (٤٨ - ٤٩)، والمناقب ص (٣٨٧ - ٣٩٣)، والبداية والنهاية (١٤/ ٣٩٦ - ٣٩٧)، والجوهر المحصل ص (٦٦ - ٧٢).
1 / 16
وثبات قلبه، فلما رأى الخليفة المعتصم إصراره وعدم تزحزحه عن قوله أمر بضربه بين يديه فطاله الأذى العظيم، حتى لقد قال أحد الجلادين: «لقد ضربت أحمد بن حنبل ثمانين سوطًا، لو ضربت فيلًا لهدته» (١).
وفي شهر رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين أمر الخليفة بإطلاقه، ففرح المسلمون بخروجه وأقام في بيته يتعالج من آثار الضرب الشديد حتى شفاه الله، وبعد برئه باشر التدريس والفتوى وحضور الجمعة والجماعة حتى مات المعتصم سنة سبع وعشرين ومائتين.
فيكون الإمام قد مكث في السجن منذ أُخِذَ وحُمِلَ إلى المأمون إلى أن ضربه المعتصم وخلى عنه سنتين وأربعة أشهر (٢).
ثم ولي الواثق بالله الخلافة بعد أبيه المعتصم، فأظهر ما أظهره سلفه من حمل الناس على القول بخلق القرآن والانقياد لما يمليه عليه رأس المعتزلة وأحمدُ البدعة ابنُ أبي دؤاد.
_________
(١) المناقب ص (٤١٢)، وينظر: سيرة الإمام أحمد ص (٥١ - ٦٥)، والمحن لأبي العرب التميمي ص (٤٣٥ - ٤٣٨)، والمناقب ص (٣٩٧ - ٤٢٠)، والجوهر المحصل ص (٧٢ - ٩٣).
(٢) ينظر: المناقب ص (٤٢١ - ٤٢٨)، ومحنة الإمام أحمد للمقدسي ص (٧٣ - ١٣١)، والسير (١١/ ٢٦٣)، والبداية والنهاية (١٤/ ٣٩٧ - ٤٠٣).
1 / 17
فلما دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين أمر بامتحان الأئمة والمؤذنين بخلق القرآن، لكنه لم يتعرض للإمام أحمد بشيء في هذا الامتحان، بل اكتفى بالإرسال إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم أن يبلغ الإمام بأن لا يجتمع إليه أحد، ولا يسكن بأرض أو مدينة هو فيها، وأن يلزم بيته، ولا يخرج إلى جمعة ولا جماعة، وإلا نزل بك ما نزل بك في أيام أبي إسحاق، فاختفى الإمام أحمد بقية حياة الواثق، ولم يزل ينتقل في الأماكن، ثم عاد إلى بيته بعد أشهر ولزم منزله فلا يخرج منه لا إلى جماعة ولا إلى جمعة، وامتنع من التحديث، واستمر به ذلك إلى أن توفي الواثق سنة اثنتين وثلاثين ومائتين (١).
وفي تعليل ذلك نقل ابنه صالح عنه أنه قال: «إني لأرى طاعته في العسر واليسر، والمنشط والمكره والأَثَرة، وإني لآسف عن تخلفي عن الصلاة، وعن حضور الجمعة، ودعوة المسلمين» (٢).
ثم ولي الخلافة بعده المتوكل، فكشف الله به الغمة،
_________
(١) ينظر: ذكر محنة الإمام أحمد ص (٧٢ - ٧٣)، والمناقب ص (٤٢٩ - ٤٣٧)، ومحنة الإمام أحمد للمقدسي ص (١٦٦ - ١٧٥)، والسير (١١/ ٢٦٤)، والبداية والنهاية (١٤/ ٤١١ - ٤١٢)، والجوهر المحصل ص (٩٣ - ١٠٠).
(٢) سيرة الإمام أحمد لابنه ص (٩٠).
1 / 18
وأظهر السنة، ومحا البدعة، وأخمد الفتنة، ففرح المسلمون بالفرج، وقد أكرم الإمام أحمد وعظمه، حتى كان لا يولي أحدًا ولاية إلا بمشورته، وطلب منه الإقامة عنده فأبى (١).
فهذا مجمل خبر المحنة، وبيان فصولها العريضة، ولقد خرج منها الإمام أحمد بعد صبره منتصرًا، وبعد مكابدته مظفرًا، فجعل الله له قبولًا في الأرض، حتى أصبح إمامًا لأهل الجماعة والسنة، ومحنة لأهل الأهواء والبدعة.
ولقد صدق بشر بن الحارث أحد أصحاب الإمام إذ يقول: «إن أحمد أدخل الكير فخرج ذهبًا أحمر» (٢).
وقال علي بن المديني: «أعز الله الدين بالصديق يوم الردة، وبأحمد يوم المحنة» (٣).
وقال الميموني: «قال لي علي بن المديني بعدما امتحن أحمد: يا ميموني، ما قام أحد في الإسلام ما قام أحمد بن
_________
(١) ينظر: ذكر محنة الإمام أحمد ص (٨٤ - ٩٢)، ومناقب الإمام أحمد ص (٤٣٨ - ٤٦٢)، ومحنة الإمام أحمد لعبد الغني المقدسي ص (١٧٦ - ١٩٣)، وسير أعلام النبلاء (١١/ ٢٦٥ - ٢٨٠)، والبداية والنهاية (١٤/ ٤١٢ - ٤٢٠)، والجوهر المحصل ص (١٠١ - ١١١)، والمنهج الأحمد (١/ ١١١ - ١١٢).
(٢) طبقات الحنابلة (١/ ٢٨)، وينظر: السير (١١/ ١٩١)، والبداية والنهاية (١٤/ ٤٠٧).
(٣) طبقات الحنابلة (١/ ٢٨)، وينظر: السير (١١/ ١٩٦).
1 / 19
حنبل. فعجبت من هذا عجبًا شديدًا، وذهبت إلى أبي عبيد القاسم بن سلام، فحكيت له مقالة علي بن المديني، فقال: صدق، إن أبا بكر وجد يوم الردة أنصارًا وأعوانًا، وإن أحمد بن حنبل لم يكن له أنصار ولا أعوان، ثم أخذ أبو عبيد يُطْري أحمد ويقول: لست أعلم في الإسلام مثله» (١).
_________
(١) طبقات الحنابلة (١/ ٣٦)، وينظر: السير (١١/ ١٩١)، والبداية والنهاية (١٤/ ٤٠٨).
1 / 20
المبحث الثاني
أثر المحنة في منهج الإمام
وفيه مطلبان:
المطلب الأول
أثرها في منهجه العلمي
وفيه ما يلي:
تركه التحديث بعد المحنة:
وقد كان هذا من الإمام ﵀ في آخر أمر المحنة قبل وفاته، وأما قبل ذلك فقد حدَّث أيامًا يسيرة بعد وفاة المعتصم.
قال أبو عبد الله البوشنجي: «حدث أحمد جهرة حين مات المعتصم، فرجعت من الكوفة، فأدركته في رجب سنة سبع وعشرين وهو يحدث، ثم قطع الحديث لثلاث بقين من شعبان بلا منع، بل كتب الحسن بن علي بن الجعد قاضي بغداد إلى ابن أبي دؤاد: إن أحمد قد انبسط في الحديث، فبلغ
1 / 21
ذلك أحمد، فقطع الحديث إلى أن توفي» (١)، فيكون تركه للتحديث في هذه الفترة قد استمر قرابة خمسة أعوام.
وفي أول عهد المتوكل - بويع له بالخلافة في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين - كان الإمام يحدث، بل يرى أن حاجة الناس إلى العلم شديدة وملحة في زمن المحن والفتن.
قال ابن عمه حنبل بن إسحاق: «ثم ولي جعفر المتوكل، فلما ولي انكشف ذلك عن المسلمين، وأظهر الله السنة، وفرج عن الناس، فكان أبو عبد الله يحدثنا، وسمعته يقول: ما كان الناس إلى الحديث والعلم أحوج منهم في زماننا هذا» (٢).
وقال أبو بكر المروذي: «سمعت يعقوب رسول الخليفة يقول لأبي عبد الله: يجيئك ابني بين المغرب والعشاء فتحدثه بحديث واحد أو حديثين، فقال: لا، لا يجيء. فلما خرج سمعته يقول: ترى لو بلغ أنفه طرف السماء حدثته! أنا أحدث حتى يوضع الحبل في عنقي!» (٣).
وفي سياق آخر: أن أبا عبد الله لما أرسل إلى المتوكل في سامراء، قال له يعقوب - أحد حُجاب المتوكل -: «إن لي
_________
(١) السير (١١/ ٢٦٥)، وينظر: مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص (٤٢٨).
(٢) ذكر محنة الإمام أحمد ص (٧٣)، وينظر: السير (١١/ ٢٦٥).
(٣) أخبار الشيوخ وأخلاقهم ص (١٣٩) رقم (٢١٨)، وينظر: مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص (٤٥١).
1 / 22
ابنًا أنا به معجب، وإن له في قلبي موقعًا، فأحب أن تحدثه بأحاديث، فسكت، فلما خرج قال: أتراه لا يرى ما أنا فيه؟!» (١).
ثم استقر الأمر بالإمام ألا يحدث إلا ولده وحنبل ابن عمه.
قال عبد الله: «سمعت أبي سنة سبع وثلاثين ومائتين يقول: قد استخرت الله أن لا أحدث حديثًا على تمامه أبدًا، ثم قال: إن الله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: ١]، وإني أعاهد الله أن لا أحدث بحديث على تمامه أبدًا، ثم قال: ولا لك، وإن كنت تشتهي.
فقلت له بعد ذلك بأشهر: أليس يروى عن شريك، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس ﵄ قال: «العهد يمين» (٢)؟ قال: نعم سكت، فظننت أنه سيكفر، فلما كان بعد أيام قلت له في ذلك، فلم ينشط للكفارة، ثم لم أسمعه يحدث بحديثٍ على تمامه» (٣).
_________
(١) السير (١١/ ٢٧٦)، وينظر: مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص (٤٥١).
(٢) لم أقف عليه عن ابن عباس، وهو بهذا الإسناد ضعيف؛ لحال شريك القاضي ويزيد بن أبي زياد، وقد أخرجه عبد الرزاق (١٥٩٨١، ١٥٩٨٢) عن طاووس والشعبي من قولهما.
(٣) السير (١١/ ٣٠٩)، وينظر: مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص (٤٥١ - ٤٥٢).
1 / 23