Ал-Хитаба - Университет Медины
الخطابة - جامعة المدينة
Издатель
جامعة المدينة العالمية
Жанры
-[الخطابة]-
كود المادة: LARB٤٢٢٤
المرحلة: بكالوريوس
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Неизвестная страница
الدرس: ١ مقدمة في الخطابة
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(مقدمة في الخطابة)
مقدمة في تعريف الخطابة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فاعتقد الأقدمون أن للخطابة علمًا له أصول وقوانين من أخذ بها عد خطيبًا، وعرفوا هذا العلم بأنه مجموع قوانين تعرف الدارس طرق التأثير بالكلام وحسن الإقناع بالخطاب، فهو يعنى بدراسة طرق التأثير ووسائل الإقناع، وما يجب أن يكون عليه الخطيب من صفات، وما ينبغي أن يتجه إليه من المعاني في الموضوعات المختلفة، وما يجب أن تكون عليه ألفاظ الخطبة وأساليبها وترتيبها.
إن علم الخطابة هو العلم الذي يعرف الداعية الخطيب كيف يخاطب الناس ويقنعهم ويجذبهم ويرغبهم ويرهبهم، وكيف يتكلم بتؤدة وتمهل حتى يفهم الناس منه ويعقلوا عنه، وكيف تكون خطبته لمستمعيه بما تتناسب مع عقليتهم وثقافتهم وما تتفق مع أعمارهم ولهجاتهم، حتى يستحوذ على نفوس المخاطبين ومشاعرهم، ويكون له في المجتمع أثر وفي مجال الإصلاح تغيير. كذلك يعرف الدارس كيف يملك قلوب المخاطبين ويشدهم إلى تقبل الحق، ويدفعهم إلى الالتزام ويحرك عزائمهم ويستثير وجدانهم، وذلك باستعمال النداءات الاستعطافية والمخاطبات التشويقية.
وهذا العلم الذي يعرف الداعية الخطيب عيوب الخطيب ليتحاشاها ويبتعد عنها؛ كعيوب النطق والحركات الكثيرة والمبالغة في الإشارات، والمواقف التمثيلية المتكلفة، والغلو في رفع الصوت إلى درجة تصك الآذان، والهمس إلى
1 / 9
درجة تجهد السامعين، والسرعة إلى درجة تتطاير معها الحروف وتتآكل معها الكلمات، والبطء إلى درجة تستدعي التثاؤب والنعاس، والعبث باللحية وفتل الأصابع والإكثار من السعال بغير مبرر، والإثارة واضطراب الأعصاب وسوء المظهر، إلى غير ذلك مما يخل بشخصية الداعية ويضعف مهابته، ويجعله محل نقد ومثار سخرية.
كما أن علم الخطابة يعرف الخطيب ما ينبغي أن يكون عليه وهو يتكلم، بأن يكون قوي الملاحظة حاضر البديهة طليق اللسان، رابط الجأش مراعيًا مقتضى الحال، قوي الشخصية؛ وذلك ليحرص على التحقق بها ويعمل بمقتضاها؛ ليستمر عطاؤه ويؤثر كلامه ويحقق الخير والعز والسيادة لأمة الإسلام.
يضاف إلى هذا أن علم الخطابة يعرف طلاب الدعوة -الذين لم يسبق لهم أن يمارسوا التحدث ولا المحاضرة ولا الخطابة- طرق التحضير وتهيئة الموضوع من جميع نواحيه، ويعد لهم من جميع جوانبه ويشبعه بحثًا ودرسًا وشواهد، حتى يستطيع أن يدلي بحجته فيصيب المرمى وينال السبق، ويبلغ الغاية ويؤثر في الناس بهز المشاعر وتحريك أوتار القلوب، ويبين لهم الخطوات الموصلة إلى الارتجال في الخطابة، والبواعث التي تثير انتباه الجمهور إليه، وتبدد ظلام اليأس في نفوس المخاطبين، ويشرق فيها نور الرجاء والأمل.
وعلم الخطابة بهذا ينير الطريق أمام من عنده استعداد للخطابة ليربي ملكاته، وينمي استعداداته، ويخلصه مما عنده من عيوب، ويرشده إلى طريق إصلاح نفسه ليسير في الطريق ويسلك السبيل.
فهذا العلم هذه وظيفته أن ينير الطريق للخطيب، ولكنه لا يحمله على السلوك، فهو يرشد دارسه إلى مناهج ومسالك ولا يحمله على السير فيها، وهو يعطيه
1 / 10
المصباح ولا يضمن له أن يرى به إذا كان في عينيه رمد، حتى إن أرسطو واضع كتاب (الخطابة) لم يكن خطيبًا. وليس علم الخطابة بدعًا في ذلك، فعلم النحو لا يضمن لمتعلمه أن ينطق بالفصحى ما لم يتمرن عليها، وعلم الأخلاق لا يضمن لعارفه سلوكا قويمًا ما لم يروض نفسه على الأخذ به، وعلم العروض لا يكوِّن شاعرًا، وعلم المنطق يسن قانونًا لاعتصام الذهن، ولا يضمن للعالم به عصمة الذهن ما لم يروض نفسه عليه رياضة كاملة، وهكذا كل العلوم النظرية التي تظهر ثمرتها في العمل، تعطي من يريدها قانونًا يساعده ولا تضمن له العمل إلا إذا راض نفسه على قانونها.
تعريف الخطابة
الخطابة لغة: مصدر خطب يخطب خطبة وخطابة. جاء في (مختار الصحاح): "خطب الخطب سبب الأمر. تقول: ما خطبك؟ أي ما أمرك، وتقول: هذا خطب جليل وخطب يسير، وجمعه خطوب، قاله الأزهري. وخاطبه بالكلام مخاطبة وخطابًا، وخطب على المنبر خطبة -بضم الخاء- وخطابة، وخطب المرأة في النكاح خطبة -بكسر الخاء- يخطب، بضم الطاء فيهما -في خطبة النكاح وخطبة المنبر- واختطب أيضًا فيهما، وخطب من باب ظرف صار خطيبًا".
وقال الراغب في (المفردات في غريب القرآن): "خطب الخطب والمخاطبة والتخاطب المراجعة في الكلام، ومنه: الخُطبة والخِطبة، لكن الخُطبة تختص بالموعظة والخِطبة بطلب المرأة.
1 / 11
قال الله تعالى: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء﴾ (البقرة: ٢٣٥) وأصل الخطبة الحال التي عليها الإنسان إذا خطب نحو: الجلسة والقعدة.
ويقال مِن الخُطبة: خاطب وخطيب، ومن الخِطبة: خاطب لا غير، والفعل منهما خطب. والخطب الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب. قال الله تعالى: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ﴾ (طه: ٩٥) وقال تعالى: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ (الذاريات: ٣١) وفصل الخطاب: ما ينفصل به الأمر من الخطاب".
قال الإمام محمد أبو زهرة -رحمة الله عليه- في تعريف الخطابة: "الخطابة مصدر خطب يخطب أي صار خطيبًا، وهي على هذا صفة راسخة في نفس المتكلم يقتدر بها على التصرف في فنون القول؛ لمحاولة التأثير في نفوس السامعين، وحملهم على ما يراد منهم بترغيبهم وإقناعهم، فالخطابة مرماها التأثير في نفس السامع ومخاطبة وجدانه، وإثارة إحساسه للأمر الذي يراد منه، ليذعن للحكم إذعانًا ويسلم به تسليمًا".
وقد قال ابن سينا: "إن الحكماء قد أدخلوا الخطابة والشعر في أقسام المنطق؛ لأن المقصود من المنطق أن يوصل إلى التصديق، فإن أوقع التصديق يقينًا فهو البرهان، وإن أوقع ظنًّا أو محمولًا على الصدق فهو الخطابة، أما الشعر فلا يوقع تصديقًا لكنه لإفادة التخييب الجاري مجرى التصديق، ومن حيث إنه يؤثر في النفس قبضًا أو بسطًا عُد في المُوصِّل إلى التصديق، والتخيل عنده إذعان للتعجب والالتزام تفعله صورة الكلام".
وقال الدكتور أحمد الحوفي في تعريف الخطابة: "هي فن مشافهة الجمهور وإقناعه واستمالته، فلا بد في الخطابة من مشافهة وإلا كانت كتابة أو شعرًا
1 / 12
مدونًا، ولا بد من جمهور يستمع وإلا كان الكلام حديثًا أو وصية، ولا بد من الإقناع، وذلك بأن يوضح الخطيب رأيه للسامعين، ويؤيده بالبراهين ليعتقدوه كما اعتقده. ثم لا بد من الاستمالة، والمراد بها أن يهيج الخطيب نفوس سامعيه أو يهدئها، ويقبض على زمام عواطفهم يتصرف بها كيف شاء سارًّا أو محزنًا مضحكًا أو مبكيًا، داعيًا إلى الثورة أو إلى السكينة".
وإذًا فأسس الخطابة هي هذه الأربعة: مشافهة، وجمهور، وإقناع، واستمالة، فالخطابة فن، أي إنها وإن كانت استعدادًا فطريًّا لا يباع ولا يشترى، فهي مع ذلك فن من الفنون يمكن تعلمه بالممارسة.
يقول أرسطو: "بعض الناس يمارس الخطابة فطرة وسليقة، وبعضهم يمارسها بالمرانة التي اكتسبها من مقتضيات الحياة، والوسيلتان ممكنتان، فواضح أن تكون هناك طريقة وأن يكون هناك مجال لتطبيقها، ولضرورة النظر في السبب الذي يؤدي إلى نجاح هذا العمل المنساق بالعادة، أو المندفع بالفطرة أو السليقة، لا يشك إنسان في أن مثل هذه الدراسة من خاصة الفن".
أما المخاطبة فإذا كان كاتب المقال يسطر أفكاره على الورق، ويغير من أفكاره ما شاء له التغيير، فإن الخطيب مسئول أن يبلغ رسالته مباشرة وأمام الجمهور مواجهة، بكل ما تحمله المواجهة من أخطار، والخطيب لا يواجه فردًا أو اثنين أو ثلاثة ولكنه يلاقي جمهورًا غفيرًا، ومع كثرته فهو متعدد المستويات متنوع الثقافات، ويفرض ذلك على الخطيب أن يكون ذا إرادة قوية وصوت عالٍ وانفعال بما يقول؛ ليستطيع بذلك السيطرة والإمساك بزمام موقف معقد متعدد الجبهات والمفاجآت. ويتميز الخطيب بلون من الأداء، فليس الخطيب بالقاص الذي يسرد الوقائع سردًا، وليس مؤرخًا يحكي أحداث التاريخ بصوت رتيب.
1 / 13
تاريخ علم الخطابة ونشأتها
الخطابة قديمة العهد والاستعداد لها مخلوق مع الإنسان، إذ لا غنى للإنسان عن الإبانة والتعبير لغيره عما يدور في خلده وضميره من معانٍ وأفكار، وعن إقناعه بصدق مقاله وسداد رأيه. وقد كان للأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام- في الخطابة الحظ الأوفى والمقام الأعلى، فكل واحد منهم -عليهم الصلاة والسلام- كان داعية خطيبًا إلى توحيد الله تعالى وطاعته وتقواه، وإرشاد الناس إلى طريق الخير وطريق الشر، بحيث من سار في طريق الخير سعد ونجى، ومن سار في طريق الشر هلك وشقى، كما قال رب العالمين سبحانه: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ (طه: ١٢٣، ١٢٤).
وهكذا كان كل نبي من لدن آدم إلى محمد -صلى الله عليهم وسلم- كانوا أجمعون يقومون في أقوامهم دعاة خطباء، يدلونهم على الله وما يقربهم منه ويوصلهم إلى طاعته، ويبينون لهم الثمرات الطيبة التي تنعكس عليهم من جراء التوحيد والطاعة في الدنيا والآخرة، كما يبينون لهم الآثار السيئة والعواقب الوخيمة -التي تنتظرهم وتحل بساحتهم- إن أقاموا على التكذيب والجحود والكفران، وأصروا على التمرد والعصيان، كما أخبر الله ﷿ عنهم في كتابه الكريم، وأطلعنا على ذلك نبينا محمد ﷺ.
وقد بقي من آثار الخطابة على طول الأمد خطب التوراة التي قام بها الأنبياء ﵈ إلى بني إسرائيل؛ ليحملوهم على الاستقامة ويردوهم عن الشر والغواية. وأول من كتب في هذا العلم اليونان، بل هم مستنبطو قواعده
1 / 14
ومشيدو أركانه ومقيمو بنيانه؛ وذلك لأن أهل "أثينا" في عصر "بركليس" قويت فيهم رغبة القول واشتدت فيهم داعيته، إذ صار يأسرهم القول البليغ دون سواه.
يقول المسيو "شارل": "امتازت أثينا أولا ببلاغة خطبائها، فكانت حقًّا بلد الأدب وحسن الإلقاء، فبالخطب في مجلس الأمة يقرر شهر الحروب وعقد السلم، ووضع القطائع والضرائب وكل الشئون العظيمة، وبالخطب التي تلقى في المحاكم يحكم على الوطنيين والرعايا أو يبرئون، فللخطباء السلطة وعلى الأمة أن تعمل بنصائحهم ومواعظهم، وربما عهدت إليهم بإدارة شئون المملكة، فقد عين "كاليون" قائدًا ورأس "ديموستين" الخطيب حرب "فيليب".
وللخطباء نفوذ كبير، وكثيرًا ما يُلجئون إلى بلاغة قولهم للنيل من عداتهم في سياستهم، وربما أثروا لأنهم ينالون من المآرب ما يرضيهم من المال ليعاضدوا أحد الأحزاب. فقد أخد "إيشيل" مالًا من ملك "مقدونيا"، وقبض "ديموستين" دنانير من ملك الفرس، ثم إن بعض الخطباء كانوا ينشئون خطبًا ليلقيها غيرهم، إذ لا يسوغ لمن كانت له قضية أن يرفعها بوكالة محام كما هو الحال عندنا، بل تقضي شريعة البلاد أن يتكلم صاحب القضية في قضيته بالذات، فمن ثم كان عليه أن يقصد إلى أحد الخطباء يلتمس منه تأليف خطاب له يحفظه ليتلوه في مجلس القضاء، وكثيرًا ما كان بعض الخطباء يجوبون البلاد اليونانية ويتكلمون في موضوعات توحيها إليهم مخيلتهم، فتحتفل لذلك المحافل وتعقد الأندية والمؤتمرات".
وإذا كان التسابق البياني وصل إلى ذلك الحد، فلا عجب إذا رأينا أن من لم يكن قديرًا على فنون القول يحاول أن يتعلمها، ولذا اتجه الناس إلى تعلم الخطابة
1 / 15
والتدريب عليها، والتمرين على الإلقاء وتعويد اللسان النطق الصحيح والبيان الفصيح، لذلك أخذ العلماء يستنبطون قواعد الخطابة وقوانينها، بملاحظة الخطباء وطرق تأثيرهم وأسباب فشل من يفشل منهم، ويظهر أن أول من اتجه إلى استنباط تلك القواعد السوفسطائيون؛ فإنهم كانوا يعلمون الشبان في "أثينا" طرق التغلب على خصومهم في ميدان السبق الكلامي، وكيف يغالطونهم وكيف يلبسون عليهم الحقائق، ويمرنونهم على القول المبين والإلقاء المحكم، وطبعي أن يتجه من نصبوا أنفسهم لذلك إلى استنباط قواعد وقوانين، مَن أخذ بها أَمِنَ العثار وسبق في الخصال.
وقد جاء من بعد هؤلاء السوفسطائيين أرسطو، فجمع قواعد علم الخطابة وضم شوارده في كتاب أسماه (الخطابة)، كان أصلًا لذلك العلم ومرجعًا يرجع الخطباء والمؤلفون في الخطابة إليه، وصدرًا يصدرون عنه ويردون موارده.
وقد جاء بعد أرسطو عصر نشطت فيه الخطابة عند الرومان نشاطها عند اليونان. يقول مسيو "شارل": "كان الخطباء يأتون إلى ساحات الاجتماع، حيث تلتئم مجالس الأمة في أواخر عهد الجمهورية، يخطبون ويكثرون من الحركات وسط دوي القوم".
وإذا تركنا الحديث عن اليونان والرومان وتوجهنا شطر العرب؛ وجدنا أن الخطابة في صدر الإسلام وصلت إلى الذروة وبلغت كمال أوجها، وجاء العصر الأموي فوجدت الخطابة لها غذاء من الفتن والثورات التي أظلت ذلك العصر، وقد أخذ الفتيان والكهول يتبارون في الخطابة ويتسابقون في ميدانها، وكان مكان ذلك الوفادة ومجالس الخلفاء والأمراء والولاة. وقد نشأ من هذا أن وجد أناس يعلمون الشبان الخطابة ويمرنونهم عليها. وقد ظهر ذلك واضحًا كل
1 / 16
الوضوح في العصر العباسي الأول، فقد جاء في (البيان والتبيين) للجاحظ وفي (العقد الفريد) لابن عبد ربه أن بشرًا بن المعتمر مر بإبراهيم بن جبلة وهو يعلم فتيانه الخطابة، فقال بشر: "أضربوا عن ما قال صفحا واطووا عنه كشحا"، ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه، وفي هذه الصحيفة وصف جيد لأساليب الخطابة وألفاظها ومعانيها، ويظهر أنهم لم يقتصروا على استنباطاتهم العربية، بل كانوا يستعينون بما في آداب الأمم الأخرى؛ ليعاونهم ذلك في استنباطهم ويمدهم بما ليس عندهم، وينبههم إلى ما عساه يعزب عن خواطرهم.
ومن ذلك ما جاء في (البيان والتبيين) و(الصناعتين) قال معمر أبو الأشعث: "قلت لبهلة الهندي أيام اجتلب يحيى بن خالد أطباء الهند: ما البلاغة عند أهل الهند؟ قال بهلة: عندنا في ذلك صحيفة مكتوبة لا أحسن ترجمتها لك، ولم أعالج هذه الصناعة، فأثق من نفسي بالقيام بخصائصها وتلخيص لطائف معانيها. قال أبو الأشعث: فلقيت بتلك الصحيفة التراجم فإذا فيها: أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة، وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش ساكن الجوارح ... "، إلى آخر ما جاء في هذه الصحيفة من وصف جيد للخطيب والأسلوب الخطابي.
ألا ترى من هذا ما يدل دلالة راجحة على استعانتهم بالآداب الأجنبية وتغذيهم بها، وقد استمر البحث في الخطابة وأصولها ينمو ويكثر ما كانت الخطابة ناهضة، وكان أكثر من يقوم به أئمة المعتزلة الذين احتاجوا إليها؛ ليحتازوا مجالس المناظرات ويتغلبوا على خصومهم من ذوي الجدل، ولذا نبغ فيهم خطباء كثيرون، ومنهم من يعرف بعض أصول الخطابة وقوانينها؛ كعمرو بن
1 / 17
عبيد وبشر بن المعتمر وثمامة بن أشرس والجاحظ وغيرهم كثيرون، غير أن بحوث أولئك الأدباء لم تجمع في كتاب مستقل، بل كانت متفرقة في الكتب وعلوم اللغة، ولم يعن أحد بتدوينها في كتاب مستقل لتكون علمًا قائمًا بذات، حتى ترجم إسحاق بن حنين كتاب (الخطابة) لأرسطو وشرحه الفارابي.
وقد جاء في (الفهرست) لابن النديم في أثناء سرد ما كتبه أرسطو في المنطق: "الكلام على ريطو ريقا ومعناه الخطابة. وقيل: إن إسحاق نقله إلى العربي، ونقله إبراهيم بن عبد الله وفسره الفارابي. رأيت بخط أحمد بن الطيب هذا الكتاب نحو مائة ورقة بنقل قديم، وقد أتى ابن سينا في كتاب (الشفاء) بلب كتاب (الخطابة) لأرسطو مع تصرف غير ضار به". وبنقل كتاب (الخطابة) لأرسطو صار في العربية قواعد للخطابة مدونة في بحث مستقل، وإن كان جزءًا من علم المنطق على ما سبقت الإشارة إليه.
أهمية الخطابة ومكانتها
إن الإنسان إذا عرف أهمية الشيء ومكانته في الحياة سعى إليه بكل طاقته وجهده؛ ليتحصل عليه وينال شرفه وفضله. والخطابة من أهم الأشياء في حياة الإنسان؛ لأن الإنسان بطبيعته مدني اجتماعي يحب الخلطة ويكره العزلة، فإذا خالط الناس فلا بد أن يحدث بينه وبينهم اختلاف أيًّا كان سبب هذا الاختلاف، وحينئذ فلا بد له ولغيره من محاولة كل منهما بإقناع الآخر برأيه، وهنا تأخذ الخطابة دورها في المعارك الدائرة هجومًا ودفاعًا. ومن هنا عرف الناس الخطابة منذ أن اجتمعوا في مكان واحد واستوطنوه، لأن الطبيعة تقتضي اختلاف الناس متى اجتمعوا سواء كان هذا الاختلاف في رأي
1 / 18
أو في عقيدة، أو كان الاختلاف بسبب تنافس على غنيمة أو متاع أو سلطة، فيحاول المتفوق أن يستميل إليه من يخالفونه وأن يقنعهم، فإذا ما أقنعهم واستمالهم فهو خطيب وقوله خطبة، ثم إنه من الطبيعي أن تنشب أمور تستدعي تعاون المجتمع، وتضافر قواه على اجتلاب نفع عام مشترك أو اتقاء ضرر عام، فيتصدر بعض النابهين من هذا المجتمع لقيادة الجماعة وزعامتها، وعدتهم في ذلك الخطابة، على أن الناس في حياتهم القديمة تسلحوا بأسلحة مادية للدفاع والعدوان، وتسلحوا أيضًا بسلاح معنوي هو اللسان.
وما زالت الخطابة إلى الآن سلاحًا مرهفًا تتصاول به الأمم مهما جيشت جيوشها، وتفننت في اختراع القذائف والمدمرات، لذلك لم يخلُ من الخطابة سجل أمة وعى التاريخ ماضيها، فقد حفظها خط أشور المسماري، وقيدها خط الفراعنة الهيروغليفي، ثم رواها تاريخ اليونان السياسي والأدبي منذ القرن السابع قبل الميلاد، وبها أخضع بوذا الجموع الهندية لتعاليمه، وبها أذاع الدين أنبياء بني إسرائيل، وكان لها مكانها العظيم في مجامع العرب قبل الإسلام وفي أسواقهم الأدبية بنوع خاص.
يقول ابن رشد ناقلًا عن أرسطو: "ليس كل صنف من أصناف الناس ينبغي أن يستعمل معه البرهان في الأشياء النظرية، التي يراد منهم اعتقادها، وذلك إما لأن الإنسان قد نشأ على مشهورات تخالف الحق، فإذا سلك نحو الأشياء التي نشأ عليها سهل إقناعه، وإما لأن فطرته ليست معدة لقبول البرهان أصلًا، وإما لأنه لا يمكن بيانه له في ذلك الزمان اليسير الذي يراد منه وقوع التصديق فيه، فهذا الصنف الذي لا يجدي معه الاستدلال المنطقي تهديه الخطابة إلى الحق الذي يراد اعتناقه؛ لأنها تسلك من المناهج ما لا يسلك المنطق".
1 / 19
وهذه أول ثمرة من ثمرات الخطابة، وللخطابة فوق ذلك ثمرات كثيرة؛ فهي التي تفض المشاكل وتقطع الخصومات، وهي التي تهدئ النفوس الثائرة، وهي التي تثير حماسة ذوي النفوس الفاترة، وهي التي ترفع الحق وتخفض الباطل، وتقيم العدل وترد المظالم، وهي صوت المظلومين، وهي لسان الهداية، ولأمرٍ ما قال موسى ﵇ عندما بعثه رب العالمين ﷾ إلى فرعون: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ (طه: ٢٤ - ٢٨).
ولا يمكن أن ينتصر صاحب دعاية ومناد بفكرة وصاحب إصلاح إلا بالخطابة، فالخطابة هي الدعامة التي قامت عليها الانقلابات العظيمة والثورات الكبيرة، التي نقضت بنيان الظلم، وهدمت قصور الباطل، فهذه الثورة الفرنسية إنما قامت على الخطابة، وهي التي كانت تؤجج نيرانها وتذكي لهبها.
والخطابة قوة تثير حمية الجيوش وتدفعهم إلى لقاء الموت، وتزيد قواهم المعنوية، ولذلك كان قواد الجيوش المنتصرون في القديم والعصور الحديثة خطباء، ومنهم: نابليون، وعلي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد، وطارق بن زياد، كل هؤلاء القواد حملوا معهم سلاحًا معنويًّا بجوار السلاح الحديدي، والخطباء هم المسيطرون على الجماعات، هم الذين يقيمونها ويقعدونها. وفي الحكومات الشورية يكون الخطباء هم الغالبين، تصدع الأمة بإشاراتهم وتخضع لسلطانهم؛ لأن الغلبة في ميدان الكلام والسبق في حلبة البيان لهم، فآراؤهم فوق الآراء؛ لأنهم يستطيعون أن يلحنوا بحجتهم ويسبقوا إلى غاياتهم، وفي ذلك نشر لسلطانهم ورفعة لهم. فالخطابة طريق للمجد الشخصي كما أنها طريق النفع العام، والحق أن الخطابة مظهر اجتماعي للمجتمع الراقي، تحيا برقي الجماعة وتخبو بضعفها.
1 / 20
ولقد قال ابن سينا في فائدة الخطابة: "إن صناعة الخطابة عظيمة النفع جدًّا؛ وذلك لأن الأحكام الصادقة فيما هو عدل وحسن أفضل نفعًا وأعم على الناس من أضدادها فائدة؛ لأن نوع الإنسان يعيش بالتشارك والتشارك محوج إلى التعامل والتحاور، وهما محوجان إلى أحكام صادقة، وهذه الأحكام الصادقة تحتاج إلى أن تكون مقررة في النفوس ممكنة في العقائد، والبرهان قليل الجدوى في حمل الجمهور على الحق، فالخطابة هي المعينة بذلك".
وقال في حق الخطيب: "إن الخطيب يرشد السامع إلى ما يحتاج إليه من أمور دينه ودنياه، ويقيم له مراسيم لتقويم عيشه والاستعداد لآخرته".
إن الخطابة هي سلاح المجتمع الإنساني في سلمه وحربه، وفي ترقيته والإسراع به نحو المثل الأعلى الذي يجب أن يقصد إليه، فليس بدعًا أن كانت بلاغ النبيين إلى أممهم، والراح الذي يسكبه القواد في نفوس جنودهم قبيل المعركة، فيسرعون باسمين إلى قتال أعدائهم، وغصن الزيتون يلوح به دعاة السلام في عالم كربه العداء والخصام، والقوة الساحرة التي يقود بها الزعماء السياسيون والمصلحون الاجتماعيون أممهم، إلى حياة أرقى وأعز وأبقى، ولسان الأحزاب السياسية تنشر به دعوتها وتظفر به على خصومها، ونورًا يهدي القضاة إلى العدالة وتبرئة المظلوم والقصاص من الباغي.
ثم هي في العصر الحديث -خاصة- عدة الزعماء والساسة، تستند إليها الديمقراطية وتعتمد عليها الدكتاتورية، ويتسلح بها المؤتمرون في المجامع الدولية، ويصعد عليها النواب إلى قمة الشهرة وذيوع الأحدوثة، ويرتقي بها المحامون إلى الصيت الطائر والثراء الغامر.
وحسبنا في إبراز أهمية الخطابة ما ذكره ابن سينا في كتابه (الشفاء) إذ يقول: "إن الخطيب يرشد السامع إلى ما يحتاج إليه من أمور دينه ودنياه، ويقيم له
1 / 21
مراسيم لتقويم عيشه والاستعداد إلى معاده، وحسبها شرفًا أنها وظيفة قادة الأمم من الأنبياء والمرسلين -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- ومن على شاكلتهم من العلماء العاملين وعظماء الملوك وكبار الساسة".
فالخطابة إذًا ذات أهمية كبرى في حياة الأمم والشعوب والأفراد والجماعات. ومما يوضح ذلك أكثر وأكثر وقوفك على فضلها وعظيم منزلتها وشرفها بين العلوم، فهي سيدة العلوم كلها؛ لأنها لسانها المعرف بها، وصاحبها دائمًا ما يكون صاحب سيادة ومكانة مرموقة، ما إن قام بواجباتها كما ينبغي، ولما كان فضل العلوم والصناعات واستظهار شرفها يتوقف على شرف غايتها؛ فإن الخطابة ذات شأن خطير في غايتها؛ وما ذاك إلا لأن غايتها إرشاد الناس إلى الحقائق، ومواجهة الأباطيل بالتنبيه عليها، وحملهم على ما ينفعهم في عاجلهم وآجلهم.
والخطابة معدودة من وسائل السيادة والريادة والزعامة، وقد كانت من شروط الإمارة، فهي من أساسيات كمال الإنسان، وسبب من أسباب رفعته إلى ذرى المجد، أرأيت كيف أن الخطابة شرفها جسيم وفضلها عظيم، فهلا كنت واحدًا من أرباب هذا المجد الشامخ، في سماء العلوم وذروة سنام الفنون.
إن لدراسة علم الخطابة فوائد كثيرة: أن دراسة علم الخطابة توقف الدارس على معرفة كيفية امتلاك القلوب، واستمالة النفوس، وتهييج المشاعر، وإثارة العواطف الكامنة الهادئة نحو مراده من مستمعيه، فبمعارفها تستضيء موارد الدليل، وتتضح مصادر الحجة لإنفاذ كل أمر جلل وجليل، وإدراك كل غاية شريفة، وبقوانينها يترشد الطالب إلى مواطن الضعف وشعب السهو والزلل، فيقوى على دحض حجة المناظر وتزييف سفسفطة المكابر، كما أنها من جانب آخر تثير الحماسة في النفوس الفاترة، وتهدئ النفوس
1 / 22
الثائرة، وهي التي ترفع الحق وتخفض الباطل، وتقيم العدل وتدفع المظالم، وهي التي تهدي الضال إلى سواء السبيل، وتقضي على النزاع وتقطع الخصومات.
وما من شك في أن الخطيب البارع النابه والعالم المتحدث الفذ هو الذي تبرز قوته ودقته، ومدى استفادته من دراسة علم الخطابة؛ بالتعبير عن ما في نفسه، وقيامه بين ذوي الاتجاهات المختلفة، والأفكار المتضاربة، والآراء المتناحرة، والحكم بينها، فلا يزال يبين لهم النافع من الضار والصواب من الخطأ، حتى يجعل الجميع في قبضة يده.
والخطيب البارع يقوم بين طائفتين قد استعرت بينهما نار العداوة والبغضاء، فيذكرهم بعواقب فساد ذات البين والتقاطع، وما يجره عليهما طول أمد الخصومة، ومن ثم فهو يسلك معهم سبيل التحذير والترهيب من مغبة هذا البغض وتلكم العداوة، وما يجر عليهما بسببه من نتائج سيئة، ثم يرغبهما في الصلح وما له من فضل وثواب عند الله ﵎، ويراعي في ذلك كله الصبر والمثابرة.
إذًا فالمهمة صعبة، والطريق إلى تحقيق المراد شاق ومليء بالأشواك والفتن وذرائع الشيطان، فإذا ما تم ذلك لم تلبث القلوب إلا أن تصفو متألقة والنفوس متآخية صالحة. فماذا لو أدرك الداعية إذًا مسئولية الكلمة التي يوجهها للناس، أو إن أردت صوابًا فقل: يوجه الناس إليها أو بها، ثم ماذا لو وضع في اعتباره جيدًا نوعية من يتحدث إليهم، مِن حيث مستوى التعليم والثقافة والبيئة وتقييم الوضع الاجتماعي والنفسي، وأهم من هذا كله درجة الوعي الديني أو مستوى الوعي الديني والتربية العقدية.
إن الخطيب لو فعل ذلك لبانت له أكثر وأكثر ضرورة وقوف من يتصدى لمهمة توجيه الناس على أصول وقواعد وقوانين علم الخطابة، ولبان له فائدة دراستها وثمرة معرفة أصولها.
1 / 23
إن الداعية يخاطب كل الناس والناس مختلفون في دوافعهم وأهدافهم، فلا بد أن يكون الخطيب أعلم منهم، يطل بثقافته الواسعة عليهم جميعًا، ويلاحقهم بمعرفته بطبائع النفوس التي يتمسك بأعرافها وتقاليدها، إلى حد الدفاع عنها ومهاجمة من يحاول النيل منها.
ومن ثم فالحكمة تقتضي مسايرة الداعية الخطيب لهذه الطبائع، وملازمتها بالرفق واللين، دون أن ينمع معها، وصولًا بها إلى إعلان شعائر الإسلام، بعد أن تكون النفوس المخاطبة مِن قِبله قد تهيأت للغراس الجديد. فإذا كانت الخطابة لها هذه الأهمية العظيمة، ولها هذا الأثر الكبير في حياة الأمم والجماعات والأفراد؛ فهي إذًا جديرة بأن تدرس، وجديرة بأن توضع لها أصول؛ ذلك أن فن الخطابة يحاول تحليل الخطب، واستنباط الأصول العامة للخطابة الناجحة، ويرسم السبل التي يسلكها الخطيب ليستميل الجمهور ويقنعه، وبهذا تقوى الخطابة، ويتزود الخطباء بتجارب سابقيهم، وتنضج مواهبهم، ويقفون على خصائص الخطباء الكبار، وعلى ما في خطبهم من دقائق كفلت لهم البراعة.
ومنذ القدم وضع أرسطو للخطابة أصولًا ما تزال تراعى، وقرر أنها فن في قوله: "إن كل الناس يلجئون للخطابة والجدل بدرجات متفاوتة، وبعض الناس يمارس الخطابة والجدل فطرة وسليقة، وبعضهم الآخر يمارسها بالمرانة التي اكتسبها من مقتضيات الحياة، والوسيلتان ممكنتان، فواضح أن تكون هناك طريقة وأن يكون هناك مجال لتوجيه تطبيقها، ولضرورة النظر في السبب الذي يؤدي إلى إنجاح هذا العمل المنساق بالعادة، أو المندفع بالفطرة والسليقة، ولا يشك إنسان في أن مثل هذه الدراسة من خاصة الفن".
هذا، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 24
الدرس: ٢ الغاية من الخطابة
1 / 25
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني
(الغاية من الخطابة)
أهمية الخطابة للدعوة الإسلامية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فإن الخطابة كانت ولا تزال من أهم وسائل الدعوة إلى الله تعالى باللسان، ولا نتجاوز الحقيقة كثيرًا إن قلنا: إن الخطابة هي أهم وسائل الدعوة الإسلامية، ففي بداية الدعوة كان للخطابة الدور الرئيسي في التبليغ، حيث امتثل النبي ﷺ لأمر ربه له بالدعوة جهرًا ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر * قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ (المدثر: ١، ٢)، ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ (الشعراء: ٢١٤)، ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الحجر: ٩٤).
لما نزلت هذه الآيات جعل النبي ﷺ الخطابة سلاحه في التبليغ. روى الترمذي عن أبي هريرة ﵁ قال: «لما نزلت هذه الآية: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ جمع رسول الله ﷺ قريشًا فعم وخص؛ فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك من الله ضرًّا ولا نفعًا. يا معشر عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم من الله ضرًّا ولا نفعًا. يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم من الله ضرًّا ولا نفعًا. يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم من الله ضرًّا ولا نفعًا. يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرًّا ولا نفعًا، إن لك رحما وسأبلها ببلالها» أي: إن لك قرابة وسأصلها كما أمرني الله ﷾.
كذلك اتخذ النبي ﷺ الخطابة وسيلة للدعوة عند استقباله للوفود، التي كانت تتوالى عليه معربة عن قبولها للإسلام دينًا، كما كانت الخطابة منهج النبي ﷺ في توجيه قيادة الجيوش الإسلامية الذاهبة لنشر الإسلام في كافة الأنحاء، وكان النبي ﷺ يأمر مَن يراه أهلًا للخطابة بأن يخطب بحضرته ﷺ.
1 / 27
ويتضح هذا في موقفه ﷺ من وفد بني تميم، حين دخل الوفد إلى المسجد النبوي الشريف ونادوا رسول الله ﷺ من وراء حجراته: "يا محمد اخرج إلينا، يا محمد اخرج إلينا، فآذى ذلك رسول الله ﷺ فخرج إليهم؛ فقالوا: يا محمد جئناك نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا، فقال ﵊: «قد أذنت لخطيبكم فليقل» فقام أحدهم فقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل والمن وهو أهله، الذي جعلنا ملوكًا ووهب لنا أموالًا عظامًا نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثره عددًا وأيسره عدة، فمن مثلنا في الناس؟! ألسنا برءوس الناس وأولي فضلهم، فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، وأن لو نشاء لأكثرنا الكلام ولكننا نحيا من الإكثار فيما أعطانا وإنا نُعرف بذلك، أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا وأمر أفضل من أمرنا، ثم جلس، فقال رسول الله ﷺ لثابت بن قيس: «قم فأجب الرجل في خطبته».
فقام ثابت ﵁ فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه السموات والأرض، ولم يك شيء قط إلا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكًا، واصطفى من خير خلقه رسولًا، أكرمه نسبًا وأصدقه حديثًا وأفضله حسبًا، فأنزل عليه كتابه وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين. ثم دعا الناس إلى الإيمان به فآمن برسول الله ﷺ المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكرم الناس حسبًا وأحسن الناس وجوهًا، وخير الناس فعالًا، ثم كان أول الخلق إجابة واستجاب لله حين دعاه رسول الله ﷺ نحن، فنحن أنصار الله ووزراء رسوله ﷺ نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدًا، وكان قتله علينا يسيرًا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم ورحمة الله".
1 / 28