الحسبة في الإسلام
الحسبة في الإسلام
Издатель
الجزيرة للنشر والتنوزيع
Жанры
الحسبة في الإسلام
بقلم
صاحب الفضيلة: أحمد مصطفى المراغي
أستاذ الشريعة الإسلامية بدار العلوم رحمه الله تعالى
تصحيح
محمد عبد الرحمن الشاغول
مكتب الروضة الشريفة للبحث العلمي
Неизвестная страница
الحسبة في الإسلام
طلب إلى عزيز لدى أن أكتب كلمة في ذلكم الموضوع الخطير (الحسبة في الإسلام) تجلو حقيقتها، وتشرح أغراضها، ومقاصدها في الدين الإسلامي خاتم الأديان السماوية والشريعة الصالحة لكل زمان ومكان، فأجبته لبيك وسعديك فالموضوع شائق والبحث عنه فيه متعة شائق لأنه يمت بصلة إلى التاريخ الإسلامي في تلك الحقبة من عصور الإسلام الأولى، إلى ما له من رحم واشجة بحكمة التشريع الإسلامي؛ وفيه متعة لأنه يدلي بنسب إلى شرعة التعاون والتناصر بين بني آدم وهم تلك السلائل التي ورثت آدم خليفة الله في أرضه، ويستمتع بها هو وبنوه ويستعمرونها في المدى الذي قدر لبقاء العالم في تلك الدنيا.
وإنا لنطرق في كلامنا المباحث الآتية:
عناصر البحث
الحسبة لغة. الحسبة شرعًا. فيم كانت الحسبة أولا، وإلام صار أمرها آخرًا. سبب إحداث الحسبة. الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
الشروط التي يجب أن تتوافر فيمن يتولى القيام بهما. المحتسب. أصناف المحتسب. الفرق بن المحتسب وقاضي المظالم (القاضي الجنائي) وبين قاضي الحقوق (القاضي المدني). شروط المحتسب. أعمال المحتسب. الفرق بين المتسبب
1 / 3
المولى والمحتسب المتطوع. هل للحاكم أن يسعر على الناس في الأسواق. حكم الفندق والحمام والمخبز. التدليس في الدين وحكمه. أعمال أخرى للمحتسب. الوظائف الدينية في عصر الفاطميين. الوظائف الدينية في الدولة الأيوبية وعصر المماليك بمصر. العقوبات الشرعية. عقوبة التعزير، وعقوبة الحد، والفرق بينهما. التعزير بالعقوبات المالية. جواز التصدق بالسلع المغشوشة على الفقراء. الأصل في المثوبة والعقوبة في التشريع الإسلامي.
الحسبة في اللغة
الحسبة لغة كما في لسان العرب اسم من الاحتساب وهو البدار إلى طلب الأجر وتحصيله بالأخذ بأنواع البر والخير، والقيام بها على الوجه المرسوم ابتغاء الأجر المرجو منها، وفي حديث عمر: أيها الناس احتسبوا أمالكم فإن من احتسب عمله كتب له أجر عمله وأجر حسبته؛ واسم الفاعل المحتسب؛ أي: طالب الأجر.
وفي "القاموس": واحتسب عليه الأمر إذا أنكره عليه؛ ومنه المحتسب. فظاهر عبارة اللسان تدل على أن المحتسب مأخوذ من احتسب أجرًا عند الله إذا اعتده وادخره، وصريح عبارة "القاموس" ترشد إلى أنه من احتسب عليه الأمر إذا أنكره عليه، ومن البين أن المناسبة جلية في أخذه من المعنى الأول كما أشار إليه صاحب "اللسان" إذ طلب الأجر أسبق في الفكر لدى المحتسب من
1 / 4
إنكار عمل غيره ومنعه من فعله، وإن كان هذا يحصل تبعًا وعرضًا لا قصدًا أوليًا من العمل.
معنى الحسبة شرعًا
أصل الحسبة الشرعية مشارفة السوق والنظر في مكابيله وموازينه، ومنع الغش والتدليس فيما يباع ويشترى من مأكول ومصنوع، ورفع الضرر عن الطريق بدفع الحرج عن السابلة من الغادين والرائحين، وتنظيف الشوارع والحارات والأزقة إلى نحو ذلك من الوظائف التي تقوم بها الآن المجالس البلدية.
ومفتشو الصحة ومفتشو الطب البيطري، ومصلحة المكاييل والموازين وقلم المرور، ورجال الشرطة الموكول إليهم المحافظة على الآداب العامة إلى غير ذلك.
ثم اتسعت أعمالها فيما بعد حتى كانت من أهم الشئون التي عنى بها الخلفاء والسلاطين، وصار لها ولاية خاصة (مصلحة خاصة) شملت كل أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، كإقامة الصلاة في مواقيتها والنظر في أحوال أئمة المساجد والمؤذنين وإلزامهم بأداء وظائفهم على حسب مقتضى الشرع، ومن ثم قال بعض العلماء: الحسبة أمر بمعروف ظهر تركه، ونهي عن منكر ظهر فعله، وإصلاح بين الناس. وأول من أحدثها في الإسلام عمر بن الخطاب- ﵁ فقد ولى عبد الله بن عقبة على النظر في الأسواق والتفتيش على المكاييل والموازين ومنع الغش فيما يباع ويشترى. وقد كان الخلفاء والولاة في
1 / 5
الصدر الأول يباشرون أعمالها بأنفسهم يبتغون إصلاح الرعية، ويرجون جزيل الثواب، فقد كان عمر يقوم بوظائف المحتسب، ويشارف السوق ويراقب المكاييل والموازين، ويأمر بإماطة الأذى عن الطريق روى المسيب بن دارم قال: رأيت عمر بن الخطاب- ﵁ يضرب حمالًا، ويقول: حملت جملك ما لا يطيق (مفتش قلم المرور الآن والرفق بالحيوان).
وفي "كنز العمال": عن زيد بن فياض عن رجل من أهل المدينة قال دخل عمر- ﵁ السوق وهو راكب فرأى دكانًا (دكة) قد أحدث في السوق فكسره.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامة من دعائم الدين، وبه بعث الله النبيين أجمعين، ولولاه لنشطت الضلالة، وعمت الجهالة، وانتشر الفساد، وخربت البلاد، وهلك العباد.
وإنا لنرى الناس الآن بعد أن استولت على قلوبهم مداهنة الخلق وضعف مراقبة الخالق، قد استرسلوا في الشهوات وركنوا إلى اللذات، وقل أن تجد مؤمنا صادقا لا تأخذه في الله لومة لائم، فمن شمر عن ساعد الجد وسد هذه الثغرة وأدى عمل الحسبة ابتغاء مرضاة ربه أو قلد وظيفتها وقام بأعبائها مراقبا ربه؛
1 / 6
فقد قام بقسط وافر في خدمة دينه ونال رضوان ربه ﴿ورضوان من الله أكبر﴾ [التوبة: ٧٢].
سبب إحداث الحسبة
السر في إيجاد الحسبة في الإسلام أن الناس لا تتم مصالحهم إلا بالاجتماع والتعاون على جلب المنافع، والتناصر على دفع المضار، ومن ثم قيل: الإنسان مدنى بالطبع.
وبالاجتماع لابد لهم من أمور يفعلونها يجلبون بها الخير لأنفسهم وأمور يجتنبونها لما فيها من الضرر عليهم.
ولابد لهم من طاعة الآمر بالمنافع الناهي عن المفاسد، كما قال تعالى في صفة نبيه: ﴿يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث﴾ [الأعراف: ١٥٧] وروي عن النبي ﷺ "مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بني دارًا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة (طوبة) فكان الناس يطيفون بها، ويعجبون من حسنها ويقولون لولا موضع اللبنة، فأنا تلك اللبنة".
وقد وصف الله الأمة الإسلامية بما وصف به نبيها فقال: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر﴾ [آل عمران: ١١٠]، وقال عز اسمه: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر﴾ [التوبة: ٧١]، وقال عز من قائل: ﴿ولتكن
1 / 7
منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون﴾ [آل عمران: ١٠٤]، وقال: ﴿لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا﴾ [النساء: ١١٤]. وجاء رجل إلى النبي ﷺ وهو على المنبر فقال: من خير الناس يا رسول الله؟ قال: "أمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم لله"، وقال ﵇: "مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله".
وقال على بن أبي طالب- ﵁: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسباب المنافقين، فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمنين، ومن نهي عن المنكر أرغم أنف المنافقين، ومن أبغض الفاسق وغضب لله غضب الله له.
وقال أبو الدرداء: لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطانًا ظالمًا لا يجل كبيركم ولا يرحم صغيركم، ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم وتستغفرون فلا يغفر لكم، وتستنصرون فلا تنصرون. وقال ﵊: "إياكم والجلوس في الطرقات" قالوا: ما لنا بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: "فإن أبيتم إلا ذاك فأعطوا الطريق حقه". قالوا:
1 / 8
وما حق الطريق؟ قال: "غض البصر، ورد السلام، وأمر بمعروف ونهي عن منكر"، وروى البخاري أن رسول الله ﷺ قال: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان".
وروى الحسن البصري أن رسول الله ﷺ قال: "أفضل شهداء أمتي رجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله على ذلك، فذلك الشهيد منزلته في الجنة بين حمزة (عمه) وجعفر (ابن أخي على)."
الشروط التي يجب أن تتوافر فيمن يتولى القيام بهما:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أفضل القرب وأكثرها ثوابًا وقبولًا عند الله تعالى، وله شروط إذا لم تتوافر لا تنتج الثمرة المطلوبة.
(١) أن يعمل الواعظ بما ينصح، لا أن يكون قوله مخالفا لفعله؛ وإلا دخل في الذم، وكان ممن يصدق عليه قول الله تعالى: ﴿أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم﴾ [البقرة: ٤٤].
وروي أن رسول الله صلى الله قال: "رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بالمقاريض، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم".
1 / 9
(٢) أن يكون العمل طاعة لله ورسوله، وهو العمل المشروع المأمور به إيجابًا أو استحبابا، وضده المعصية والفجور والظلم والسيئة.
(٣) أن يكون خالصًا لوجه الله تعالى، فالله لا يقبل من الأعمال إلا ما يراد به وجهه فقد روى أن النبي ﷺ قال يقول الله: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري، فأنا بريء منه، وهو كله للذي أشرك"، وهذا هو أساس الإسلام والعمود الذي عليه بنى الدين، فحق الله على عباده أن يعبده ولا يشركوا به شيئا، ومن ثم كان عمر بن الخطاب- ﵁ يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا.
وإذا كان العمل خالصا نشر الله عليه رداء القبول وصادف التوفيق وقدر لفاعله في القلب مهابةً وجلالًا، وتقبل الناس قوله بالسمع والطاعة وقد قال ﷺ: "من أرضي الناس بسخط الله وكله إليهم، ومن أرضى الله بسخط الناس كفاه شرهم، ومن أحسن فيما بينه وبين الله أحسن فيما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه".
ومما يؤثر في هذا الباب أن أتابك سلطان دمشق طلب محتسبا فذكر له رجل من العلماء فأمر بإحضاره، فلما مثل بين يديه قال له: إني وليتك أمر الحسبة على الناس، فقال له: إن كنت تريدني لما تقول فقم عن هذا الفراش وارفع هذا المتكأ فإنهما من حرير، واخلع هذا الخاتم فإنه من ذهب، وقد قال ﷺ: "هذان حرامان على ذكور أمتي، حل لإناثها"
1 / 10
فقال السلطان: سمعا وطاعة، ونهض عن الفراش، وأمر برفع المتكأ، وخلع الخاتم من إصبعه، وقال: ضممت إليك أمر الشرطة (حكمدار بوليس ..)؛ فما رأى الناس محتسبًا أهيب منه.
(٤) أن يأمر عن معرفة وعلم وفقه بالدين، وإلا كان العمل جهلا وضلالا واتباعا للهوى كما قال عمر بن عبد العزيز: من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح، وكما قال معاذ بن جبل: العلم إمام العمل، والعمل تابعه.
(٥) أن يكون النصح برفق والتؤدة حتى يؤتي ثمرته المرجوة، فقد قال النبي ﷺ: "يا عائشة عليك بالرفق فإنه ما كان في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شأنه"، وقال أيضًا: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف".
ومن نوادر المحتسبين وبارع قصصهم: أن رجلا دخل على المأمون وأمره بمعروف ونهاه عن منكر وأغلظ له في القول فقال له المأمون: يا هذا إن الله أرسل من هو خير منك لمن هو شر مني، فقال لموسى وهارون: ﴿فقولا له قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى﴾ [طه: ٤٤] ثم أعرض عنه ونأى بجانبه.
(٦) أن يكون الناصح حليما صبورا على الأذى إذ العادة قد جرت بأن يناله الأذى من جراء عمله، فإن لم يحلم ويصبر كان الضرر أكثر من النفع كما قال لقمان لابنه وهو يعظه: ﴿وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر واصبر
1 / 11
على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور﴾ [لقمان: ١٧] وهم القادة الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر بالاعتصام بالصبر كما قال تعالى لنبيه في بدء رسالته: ﴿يا أيها المدثر قم فانذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر﴾ [المدثر: ٧] فاختتم الأمر بالإنذار وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بطلب الصبر منه.
وقد جاء هذا الطلب في مواضع عدة كقوله تعالى: ﴿واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا﴾ [الطور: ٤٨]، وقوله: ﴿فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل﴾ [الأحقاف: ٣٥]، وقوله: ﴿فاصبر حكم ربك ولا تكن كصاحب لحوت﴾ [القلم: ٤٨]، وقوله: ﴿واصبر وما صبرك إلا بالله﴾ [النحل: ١٢٧].
فجماع الأمر بالمعروف ثلاثة: علم قبله، ورفق معه، وصبر بعده، وهذا معنى مجتهد يروى عن بعض السلف: لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهًا فيما يأمر به، فقيهًا فيما ينهى عنه، رفيقا فيما ينهي عنه، حليمًا فيما يأمر به، حليكمًا فيما ينهى عنه.
(٧) ألا يتضمن الأمر بالمعروف فوات ما هو أكثر منه نفعًا أو حصول منكر فوقه، وألا يتضمن النهي عن المنكر حصول ما هو أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه، ولأجل هذا سكت النبي ﷺ عن عبد
1 / 12
الله بن أبي وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما كان لهم من الأعوان، فلو أزال المنكر بعقاب هؤلاء غضب قومهم وأخذتهم الحمية حمية الجاهلية فينفرون منه حين يسمعون أن محمدا يقتل أصحابه، والمشاهدة التي أرانا الله إياها في الآفاق وفي أنفسنا تدل على أن المعاصي سبب المصائب، والطاعة سبب النعمة كما قال تعالى: ﴿ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك﴾ [النساء: ٧٩]، وقال: ﴿إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم﴾ [آل عمران: ١٥٥] وقال: ﴿أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم﴾ [آل عمران: ١٦٥].
وإذا كان الفسوق والعصيان من أسباب الشر والعدوان فقد يذنب الرجل أو الطائفة من الناس ويسكت الآخرون عن أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر فيكون محسوبا عليهم من ذنوبهم، أو ينكرون عليهم إنكارا منهيا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم أيضا؛ بسبب ذلك يحصل التفرقة والفساد، وهذا من أعظم الشرور والفتن في القديم والحديث.
وإن من تدبر ما وقع من الفتن بين أمراء الأمة وعلمائها علم أن منشأ ذلك إتباع الأهواء والشهوات، والميل إلى البدع والفجور.
1 / 13
أصناف المحتسب
المحتسب صنفان:
(١) محتسب يعينه السلطان أو نائبه للنظر في شئون الرعية والكشف عن أعمالهم فيأمر بما يوافق الشرع، وينهى عما يخالفه.
(٢) محتسب متطوع يرى المنكر فينكره، أو يأمر بمعروف يرى الناس قد تركوه، وبينهما فرق من جهات عدة:
أ- أن الأمر والنهى فرض عين على الأول بحكم ولايته، وفرض كفاية على الثاني، فإذ قام به غيره سقط عنه الحرج والإثم كصلاة الجنازة ورد السلام على غيره.
ب- أن قيام الأول به من واجبات عمله التي لا يجوز أن يتشاغل عنها بغيرها، وقيام الثاني به من النوافل التي يجوز أن يتشاغل عنها بغيرها.
جـ- أن الأول له أن يتخذ على الإنكار أعوانا لأنه عمل هو منصوب وإليه مندوب، وليكون أقدر على القهر والغلبة- وليس كذلك الثاني.
د- أن الأول له أن يعزز في المنكرات الظاهرة بضرب ونحوه، ولا يتجاوز بها حيث تصل إلى الحدود الشرعية المقدرة وليس للثاني ذلك.
1 / 14
والفرق بين المحتسب والقاضي:
أنه لا يجوز للمحتسب النظر في الدعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات، فلا ينظر في العقود والقروض ونحو ذلك، إلا إذا كان معترفًا بها، أما ما يداخله الإنكار والجحد ويحتاج إلى البينة أو شهادة الشهود، فهذا وظيفة القاضي لا وظيفة المحتسب؛
ويزيد على القاضي من وجوه عدة:
(١) أن له أن يتعرض للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن لم يحضر خصم يطلب منه ذلك، وليس للقاضي أن يتعرض لذلك إلا بحضور خصم يشتكي، ولو تعرض لذلك خرج عن حدود وظيفته.
(٢) أن له من القوة والجبروت ما ليس للقاضي، لأن الحسبة موضوعة على الرهبة والتخويف، فإذا أغلظ المحتسب في القول وكان سليط اللسان لا يعد هذا منه خروجا عن عمله.
(٣) أن له يبحث عن المنكرات التي ترتكب علانية ليقوم بأداء وظيفته بإنكارها، وليس ذلك لغيره.
ويوافق عمل القاضي من ناحيتين:
(١) أنه يجوز تقديم الشكوى إليه وسماعه دعوى المشتكي في حقوق العباد التي تتعلق ببخس في ثمن، أو تطفيف في كيل أو وزن، أو تدليس في مبيع أو ثمن، أو تأخير دين مستحق مع إمكان دفعه.
1 / 15
فهذه كلها منكرات ظاهرة وظيفته إزالتها، إذ من أعمال الحسببة إيصال الحقوق إلى ذويها، والمعونة على استيفائها.
أن له أن يلزم المدعى عليه بدفع الحق الذي وجب عليه اعتراف أو إقرار مع وجود اليسار، لأن في تأخيره له منكرا لقوله ﵊: "مطل الغني ظلم".
والفرق بين المحتسب وقاضي المظالم (القاضي الجنائي) أن النظر في المظالم يكون فيما يعجز عنخ القاضي، والحسبة فيما يرفه عن القاضي.
ويشتركان في أعمال كل منهما مبنى على الرهبة المستمدة من سلطان الحكومة، وأن كلا منهما لا تعرض إلا لعدوان ظاهر لا خفاء فيه.
المحتسب المولى:
هو من نصبه السلطان أو نائبه للنظر في أمور الرعية، يأمرهم بما يوافق الشرع وينهاهم عم يخالفه، في أعمالهم الدينية والدنيوية مما ليس من اختصاص القضاة والولاة والجباة، وهو داخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فله النظر في كل ما يهم المسلمين في أسواقهم ومجتمعاتهم ومعاملاتهم بعضهم مع بعض وويعين من يراه أهلا لذلك من الأعوان، فهو يبحث عن المنكرات ويعزر عليها (يعاقب) بحسب أهميتها ومقدارها وعلى حسب منزلة مرتكبها، كما سيأتي تفصيل ذلك بعد.
1 / 16
وشرط المنكر الذي يكون للمحتسب التعرض له أن يفعل علانية على مرأى من الناس ومسمع. فمن ارتكب معصية خفية في داره وأغلق عليه بابه لا يجوز للمحتسب أن يتجسس عليه، إلا أن يكون ذلك في انتهاك محرم بدئ في الشروع فيه ولم يتم بعد، كما إذا أخبره من يثق بصدقه أن رجلا خلا بامرأة ليزني بها، فيجوز له حينئذ أن يتجسس ويبحث حذرا من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات.
شروط المحتسب
للمحتسب شروطا لا يمكنه أن يقوم بعمله دونها:
(١) أن يكون بالغا، فلا يجب عليه الأمر بالمعروف إلا إذا كان كذلك، أما إمكانه وجوازه فلا يستدعى إلا العقل فالصبي المراهق (القريب من البلوغ) وإن لم يكن مكلفًا، له إنكار المنكر، فله أن يريق الخمور ويكسر أدوات الملاهي، إذا فعل ذلك يثاب عليه ولم يكن لأحد منعه، إذ هي قربة وهو من أهل القرب كالصلاة وغيرها من القرب.
(٢) أن يكون مسلما، لأن الأمر بالمعروف نصرة الدين، فالخارج عليه لا يمكن أن ينصره- إلى ما فيه من التحكم في المسلمين؛ والكافر لا يستحق ذلك كما قال تعالى: ﴿ولن يجعل الله الكافرين على المؤمنين سبيلًا﴾ [النساء: ١٤١].
1 / 17
(٣) أن يكون ذا رأي وصرامة وخشونة في دينه، عارفا بأحكام الشريعة ليعلم ما يأمر به وينهى عنه، إذ لا دخل للعقول في بيان المنكر أو المعروف، ورب جاهل يستحسن بعقله ما قبحه الشرع ويرتكب المحذور وهو غير عارف به، من ثم كان طلب العلم فريضة على كل مسلم.
أعمال المحتسب
المحتسب من رجال الضبطية القضائية باصطلاح العصر الحديث، أو هو مفتش بالمجالس المحلية ينظر في كل ما يهم المسلمين، ويعين من يراه أهلا لذلك من الأعوان، ويبحث عن المنكرات التي يفعلها الناس ويأمر بالمعروف الذي يتركه الناس.
ومن ذلك:
(١) أن يأمر العامة بأداء الصلوات الخمس في مواقيتها، ويعاقب من لم يصل بالضرب أو بالحبس لا بالقتل، ويتعاهد الأئمة والمؤذنين، فمن فرط منهم في أداء وظيفته ألزمه أدائها، واستعان على ذلك بقاضي المظالم (القاضي الجنائي) إذا عجز عن القيام بعمله، وذلك أن الصلاة عمود الإسلام وأعظم مناسكه وهي آخر ما وصى به النبي ﵊، وقد خصها الله تعالى بالذكر في مواضع من كتابه وحث عليها كثيرا فقال في
1 / 18
مدح المؤمنين المخبتين: ﴿والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين﴾ [الأعراف: ١٧٠] وطلب إلى المؤمنين أن يستعينوا على القيام في أداء أعمالهم بالصبر والصلاة. وقال عزمن قائل مبينًا فضلها وشديد العناية بها: ﴿إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا﴾ [النساء: ١٠٣]. ومن ثم كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- ﵁ يكتب إلى عماله: إن أهم أمركم عندي الصلاة من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها أشد إضاعة.
(٢) أن يأمر بإقامة الجمعة والجماعات لإظهار معالم الدين وشهر شعائر الإسلام، ولأجل هذا شدد ﷺ في المحافظة عليها لبيان فضلها فقال: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" يقصد نفي الكمال عن صلاته إذ هي صحيحة على ما بها من نقص؛ وفي الحديث: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ (المنفرد) بسبع وعشرين درجة".
(٣) أن ينظر في شئون الوعاظ فلا يمكن أحدا من التصدي لهذه المهمة الشريفة إلا إذا كان مشهورا بالصلاح والتقوى والخير والفضيلة، مع معرفته للعلوم الشرعية واللسانية وأخبار سلف الأمة الصالح، إلى ما له من فصاحة لسان
1 / 19
وعذوبة بيان كما قال تعالى في شأن داود ﴿وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب﴾ [ص: ٢٠].
فإذا كان مجيدا لكل هذا أقره على عمله وإلا منعه كما اختبر على بن أبي طالب الحسن البصري- ﵀ وهو يتكلم على المنبر فقال له: ما عماد الدين؟ قال: الورع؛ قال: ما آفته؟ قال: الطمع؛ قال: تكلم إذا.
وقد كانت مرتبة الوعظ من المراتب الشريفة في الصدر الأول وكفى بها منقبة أن النبي ﷺ صعد على المنبر ووعظ، وصعد عليه الخلفاء الراشدون والملوك والولاة وكل ذي شأن خطير في الأمة.
وقد كان لا يرقى المنبر إلا رجلين: رجل عظيم الشأن يصعد المنبر واعظًا للناس مبشرًا ومنذرًا حاثًا على العمل الصالح ومحذرًا من ارتكاب العمل الطالح، أو خطيب مسجد مولى من قبل الخليفة وقد كان الفقهاء والأدباء يسمون الوعاظ قصاصًا، والآن قامت وزارة الأوقاف بأداء هذه المهمة، فقسم المساجد يمتحن الوعاظ ويختار منهم الصالحين لأداء هذه المهمة ويوزعهم في أرجاء البلاد، وقد كان لهم أثر نافع في صلاح حال العامة في الديار المصرية، فهم يجوسون خلال الديار مذكرين مبشرين ومنذرين. لا يخفى ما للذكرى من أثر نافع في قلوب المؤمنين ﴿وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين﴾ [الذاريات: ٥٥] فيها تلين القلوب وترقرق الدموع على الخدود.
1 / 20
(٤) وعليه أن يأمر الناس بأداء الأمانات والنهي عن المنكرات من الكذب والخيانة، ومن ذلك تطفيف المكيال والميزان كما قال تعالى: ﴿ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين﴾ [المطففين ١: ٦]، وقد قص علينا نبأ شعيب مع قومه وحضه إياهم على العدل في الكيل والميزان فقال: ﴿أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم﴾ [الشعراء من ١٨١: ١٨٢] ومنه أيضًا التدليس في البيع والشراء بكتمان العيوب بأن يكون ظاهر المبيع خيرًا من باطنه ففي "صحيح مسلم": أن رسول الله ﷺ مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟ " فقال: أصابته السماء (المطر) يا رسول الله، قال: "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس. من غشنا فليس منا"؛ فقد أخبر النبي ﷺ بأن الغاش ليس بمؤمن حقا فلا يستحق الثواب والنجاة من العقاب وإن كان معه أصل الإيمان الذي يفارق به الكفار وفي الصحيحين عن حكم بن حزم: أن النبي ﷺ قال: البيعان (البائع والمشتري) بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك في بيعهما، وإن كتما كذبا محقت بركة بيعهما".
1 / 21